انتحار مراهق كل 6 ساعات

تغيرت الثقافة الهندية بسبب النمو الاقتصادي الكبير.. فبات النجاح هاجسا وليس مجرد مفتاح للسعادة

TT

أقدمت ندهي ناير، الطالبة البالغة من العمر 15 عاما، على الانتحار بشنق نفسها في سقف الحجرة. وقال الضابط الذي تولى التحقيق في الحادث إن الطفلة المراهقة انتحرت بسبب سوء أدائها في أحد الامتحانات. الإحصاءات في الهند تشير إلى وقوع أكثر من 400 حالة انتحار لطلاب على مدار الشهرين الماضيين. وتأتي الهند في مقدمة دول العالم من حيث معدلات انتحار المراهقين، وتعد ضغوط الامتحانات والإحباط من الأسباب الجوهرية وراء ذلك. وتوصلت دراسة أجرتها كلية «كريستيان ميديكال كوليدج» إلى أن الولايات الهندية الجنوبية شهدت أعلى معدلات انتحار بين الشباب على مستوى العالم. انتحار المراهقين في الهند بات بمثابة الثمن الذي يدفعه المجتمع لولعه بالنجاح والتفوق الدراسي الذي هو المدخل للاستمتاع بالنمو الاقتصادي الهائل الذي تحققه البلاد. فخلال العشرين عاما الماضية وبسبب النمو الاقتصادي الهائل تغيرت الثقافة الهندية على حد كبير، فمن تقدير النجاح الى الولع به، وعدم الاعتراف إلا بالأول في الصف الدراسي، ليس هناك شيء اسمه الثاني او الثالث او الرابع او الخامس، فقط الاول. وقد كشفت الدراسة التي أجريت بولاية تاميل نادو الجنوبية أن متوسط معدل الانتحار بين النساء بلغ 148 لكل 100.000، بينما بلغت النسبة ذاتها بين الرجال 58 لكل 100.000. وعالميا، يبلغ هذا المعدل 14.5 لكل 100.000. أيضا في الغرب، الرجال أكثر احتمالا ثلاث مرات للانتحار عن النساء. وتشير الإحصاءات الصادرة عن المكتب الوطني الهندي لتسجيل الجرائم إلى أن مراهقا يحاول الانتحار كل 90 دقيقة داخل الهند. وتأتي الكثير من هذه المحاولات في إطار السعي لجذب الانتباه والحب والاهتمام. إلا أنه كل 6 ساعات تنجح محاولة انتحار، ما يرفع عدد حالات الانتحار اليومية إلى 16 حالة يوميا أو 6000 حالة سنويا. وفي الإطار ذاته، توصلت دراسة أجراها إصدار «الهند اليوم» إلى أنه في أغلب الحالات لا يكون أفراد الأسرة مدركين لما يعتمل في نفس المراهق، وأوضحت أن 65% من الأسر لم تكن على دراية بمعاناة أبنائها المراهقين من الاكتئاب أو ميول انتحارية. وفي رسالة تركها إلى جانبه، قال راؤول، البالغ من العمر 15 عاما، والذي انتحر الشهر الماضي: «إني راحل». وفي الوقت الذي تعتبر المخدرات والمشروبات الكحولية والأسلحة النارية الطرق الرئيسة المؤدية إلى الانتحار في الغرب، تتمثل الطرق المناظرة داخل الهند في ضغوط الامتحانات والعجز عن التكيف مع الإحباطات والفشل.

عام 2006 ـ 2007، انتحر نحو 5857 طالبا، بمعدل 16 حالة يوميا، بمختلف أنحاء الهند بسبب ضغوط الامتحانات. وتمثل تلك الإحصاءات الرسمية فحسب، حيث لا يتم الإبلاغ عن الكثير من حالات الانتحار الأخرى. وأوضحت إحدى الدراسات أن 56% فقط من حالات الانتحار بين المراهقين في الهند بين شهري مارس (اذار) ويوليو (تموز) كل عام يتم الإبلاغ عنها. وبالنظر إلى أن هذه الفترة تشهد الكثير من الامتحانات على مستوى المدارس والكليات، فقد تتصاعد الضغوط على المراهقين من أجل التفوق إلى درجة قاتلة. وهناك دلائل توحي بأن معدلات الانتحار أو الميول الانتحارية تبلغ ذروتها في هذا الوقت من العام. في مارس، انتحرت تانفي، البالغة من العمر 16 عاما، بإطلاق النار على نفسها من مسدس يمتلكه والدها بسبب تدني مستوى أدائها الدراسي. وقبل إعلان النتيجة النهائية بيومين فقط، استدعى المدرس الخاص بها والديها إلى المدرسة. وأسهم التنافس المتزايد بين الطلاب والتوقعات الكبيرة من جانب الأهل في تنامي الميول الانتحارية لدى الطلاب. وأشار راجيش شارما، الطبيب النفسي الاستشاري لدى «المعهد الهندي للعلوم الطبية» إلى أنه التقى في الفترة الأخيرة مع طالبتين تعانيان من ميول انتحارية، لكن بينما تعتقد إحداهما أنها أدت بشكل جيد في الامتحان، اضطر لوضع الأخرى تحت العلاج الطبي للحد من مستوى الاكتئاب الذي تعانيه. من ناحيتهم، يشدد الخبراء على أن الولع الهندي بالتفوق الدراسي والقلق بشأن المستقبل بات قضية خطيرة. وأوضح عالم النفس ماثيو كورين أنه عندما يكون الأطفال في سن مبكرة، يسعد الوالدان بجميع الانجازات التي يحققونها، سواء في المجال الرياضي أو غيرها من المجالات، لكن بمرور الوقت يصلون إلى سن يصبح الانجاز الوحيد المعترف به هو أن يصبحوا الأوائل بين أقرانهم الطلاب. وحذر من أن ذلك قد يدمر شعور التلاميذ بتقدير الذات، بينما يتجه الآباء إلى الأطباء النفسيين لزيادة الضغوط على أبنائهم والتأكد من التحاقهم بأبرز الجامعات، وعليه، تحولت كلمة الفشل إلى كابوس يطارد الطلاب، خاصة أن الآباء لا يعترفون بأي انجازات لهم خارج مجال الدراسة. كل عام عن إعلان نتائج امتحانات المدارس الثانوية والإعدادية، تتلقى مراكز الاستشارات النفسية بمختلف أنحاء البلاد عددا هائلا من الاتصالات الهاتفية من طلاب في حالة انهيار. وذكرت إليزابيث فاداكيكارا، مسؤولة التنسيق بأحد هذه المراكز، إلى تلقيها مئات الاتصالات الهاتفية من طلاب يفكرون في الانتحار لعجزهم عن تحقيق النتائج الجيدة التي تتناسب مع توقعات والديهم. وشددت على أن السبيل الوحيد لتقليص الميول الانتحارية في الهند «جعل الحياة أكثر سهولة». وتكشف الأرقام الصادرة عن «عيادة الطب النفسي للأطفال والمراهقين» أن نسبة الحالات التي تم تصنيفها باعتبارها اكتئابا لدى المراهقين ارتفعت من 0.4% عام 1980 إلى 6.5% عام 2005. وفي الهند، أصبح قرابة 12.8% من المراهقين يعانون حاليا من اضطرابات نفسية، حسبما أعلن المجلس الهندي للأبحاث الطبية. بيد أن التساؤل هو: ما الذي يدفع المراهقين للشعور بالاكتئاب؟ جميع المؤشرات تؤكد أن أطفال الحضر يحظون في الوقت الحاضر بملابس وألعاب تفوق ما حظي به آباؤهم من قبل الذين نشأوا على قيم حقبة ما بعد الاستقلال التي قامت على التقشف والتضحية بالذات، إلا ان حياة ابناء اليوم ليست سهلة بالرغم من الرفاه الاقتصادي. دكتور جورو راج من المعهد الوطني للصحة الذهنية يعبر عن اعتقاده بأن «النجاح الاقتصادي الهندي أدى إلى تصاعد الطموحات» وخلق شعورا في نفوس الشباب بأن بإمكانهم تحقيق كل ما يبغون. وعندما يفشلون في ذلك، يصيبهم القنوط والإحباط. وتوصل مسح أجراه جورو راج عام 2004 إلى أن 57% من حالات الانتحار بين الشباب نجمت عن شعور مفاجئ بالإحباط. ويتفق علماء الاجتماع فيما بينهم على أن مرحلة المراهقة اتسمت دوما بالصعوبة، لكن مع دخول الألفية الجديدة ووسط مستوى رخاء غير مسبوق، زادت صعوبة اجتياز تلك المرحلة عن أي وقت مضى أمام المراهقين الهنود. لكن ما الذي يجعل المراهقين يقررون أن مرحلة النضوج لا تستحق الانتظار؟ حتى وقت قريب لم يكن من السهل الإجابة على هذا التساؤل، لكن سلطت أبحاث جديدة أجريت على مخ المراهقين الضوء على الدور البيولوجي في هذا الأمر، حيث كشفت عمليات مسح مخ المراهقين عن أن المنطقة الخاصة بالتفكير العقلاني المتأني تنضج ببطء، في الوقت الذي يصبح المركز العاطفي المسؤول عن المخاوف والقلق نشطا بشكل كامل، حسبما شرح دكتور شماش سوناوالا، الطبيب النفسي الاستشاري بمستشفى «جاسلوك». الابحاث العلمية من هذا النوع لا يمكن ان تكون تفسيرا متكاملا لهذه الظاهرة الخطيرة، فانتحار المراهقين في الهند بات اليوم قضية اجتماعية ـ اقتصادية ـ ثقافية، نتجت عن ادمان النجاح والتفوق، لكن اذا كان المجتمع بأكمله سيدفع ثمن إدمان النجاح، فيجب ان يعيد النظر الى نفسه.