يهود فلسطين: الاقتراب من الماضي

كانوا والعرب أسرة واحدة.. وفرق بينهم قيام إسرائيل رفضوا تعليم أولادهم العربية.. وذابوا في ثقافات الآخرين

اليهود الفلسطينيون موزعو الهوية (ا.ف.ب)
TT

لا يتردد شموئيل طوليدانو في القول إنه يهودي فلسطيني، ولكن عندما تصبح الأمور جدية، ونقول اننا نريد مادة للنشر، يصمت قليلا ويقول: أخشى ألا أفهم على النحو السليم. دعنا نقل: «يهودي صابري (سفردي)»، وهو الاسم الذي يطلق على اليهود المولودين في اسرائيل (ويشكلون اليوم نصف عدد السكان اليهود في اسرائيل) وقبلها في فلسطين (لا يوجد احصاء دقيق لهم). فما زالت فلسطين مقرونة لديه، وليس لديه وحده وحسب، بالعداء وباللاشرعية، مع انه قبل قيام اسرائيل، استخدمت كلمة فلسطيني لنعت كل من يعيش في فلسطين. والصحافة العبرية التي صدرت في ذلك الوقت تعاملت مع كلمة فلسطين («بلستينا»، بالعبرية) واستخدمتها بشكل عادي، مع انها كانت تفضل استخدام كلمة «أرض اسرائيل». وطوليدانو هو واحد من أبناء ألوف العائلات اليهودية الفلسطينية، أي التي وجدت في فلسطين قبل الهجرة اليهودية الأولى، مثل سائر الفلسطينيين. ولم تكن هذه الشريحة من اليهود في البداية صهيونية، ولم تدن بالصهيونية بشكل حقيقي حتى مطلع القرن الماضي. وفقط بعد الهجرة الأولى، بدأت تنمو المشاعر الصهيونية لديهم، وذلك عندما عقد المؤتمر الصهيوني في بازل (سويسرا) بقيادة ثيودور هرتسل في سنة 1897. فبعد هذا المؤتمر، بدأ اليهود يتدفقون على فلسطين، بقيادة نشطاء الحركة الصهيونية الجديدة. وصار الانتماء للصهيونية بمثابة انتماء قومي، وعدم الانتماء صار تهمة وأصبح صاحبه يدفع ثمنا باهظا من النبذ والمقاطعة، بل وفي مرحلة معينة كانت الصهيونية تستطيع طرده من الوطن. ووفقا للإحصائيات الرسمية للوكالة اليهودية، بلغ عدد اليهود في فلسطين 25 ألفا في سنة 1881، في الهجرة الأولى من أوروبا. وكانوا، وفقا لمعظم الشهادات من ذلك العصر، يعيشون بسلام وجيرة حسنة وفي كثير من الحالات عاشوا في صداقة مع جيرانهم العرب الفلسطينيين ـ «عندما بدأ اليهود الاشكناز يتدفقون علينا، كنا، نحن والعرب، أقرب الى بعضنا البعض مما نحن قريبون من اليهود الاشكناز»، يقول طوليدانو. وليس هو وحسب. فبناء على وثائق الأمم المتحدة حول فلسطين، كان الفلسطينيون العرب ينظرون الى جيرانهم اليهود نظرة ايجابية للغاية. وفي حينه، عندما توجه ممثل العرب الفلسطينيين الى الأمم المتحدة، جمال الحسيني، (سنة 1947)، قال بمنتهى الوضوح ان العرب واليهود عاشوا بحسن جوار متين، ولا مانع لدى العرب من أن يظل هؤلاء اليهود في فلسطين، معتبرا إياهم مواطنين أصليين. بل وافق الحسيني على بقاء اليهود الذين عاشوا في فلسطين قبل صدور وعد بلفور (وزير الخارجية البريطاني، الذي أصدر مرسوما يتيح اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917. وفي تلك السنوات بلغ عدد اليهود في فلسطين 47000، لكن وعد بلفور أدى الى وصول 35 ألفا آخرين. المؤرخة الاسرائيلية د. ايلانة شمير، تقول ان اليهود الذين عاشوا في فلسطين قبل نشوء الصهيونية لم يعرفوا شيئا عنها. وان الصهيونية قامت بالأساس على اثر المطاردات التي تعرض لها اليهود في روسيا القيصرية في نهاية القرن التاسع عشر. وقد تضاعفت هذه الهجرة مع مضاعفة المضايقات لليهود في روسيا الى درجة ارتكاب المذابح ضدهم. ومع انتشار المطاردات لليهود في أوروبا، زادت الهجرة الى فلسطين. هناك مجموعة واحدة من اليهود قدمت الى فلسطين لدوافع دينية صرف، هم يهود اليمن. فهؤلاء قدموا بدفعات غير كبيرة خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر لأنهم رأوا في «أرض اسرائيل» (فلسطين)، «أرض الميعاد التي وعد الله بها اليهود عن دون غيرهم».

شموئيل طوليدانو هو يهودي من مواليد طبريا في سنة 1921، لأبوين طبرانيين أبا عن جد. هو وطبريا يعتبران نموذجا معبرا عن حياة اليهود في فلسطين، قبل وبعد اسرائيل.

طبريا هي مدينة عريقة يزيد عمرها على ألفي سنة، كان قد بناها هورودس الابن، في سنة 20 ميلادية، وأطلق عليها اسم الامبراطور الروماني، طيبريوس قيصر. وهي تعتبر إحدى أربع أقدس المدن لدى اليهود (بعد القدس والخليل وصفد). فهي تأوي ضريح موسى بن ميمون، أحد كبار الفلاسفة اليهود المعروف بلقبه العبري «الرمبام»، الذي اعتبره العرب أيضا واحدا من كبار شخصياتهم التاريخية في الأندلس وفي مصر وعلاّمة فذاّ في التاريخ. وفي طبريا عقد آخر «سنهادرين» (المجلس الديني اليهودي الأعلى عند خراب الهيكل الثاني). وقد حلت بهذه المدينة نكبات عديدة في التاريخ ودمرت خمس مرات على الأقل، مرتين بفعل الزلزال وثلاثا بفعل الحروب.

وطبريا الحية اليوم، بنيت بأيدي القائد العربي الفلسطيني، ظاهر العمر الزيداني، وقد أعاد بناءها في سنة 1740 لتكون مدينة يهودية. وحسب كتاب «ظاهر العمر» للمؤلف الفلسطيني توفيق معمر، ارسل ظاهر العمر، الذي كان واليا للخليفة العثماني على فلسطين، يطلب الحاخام اليهودي في إزمير، حايم أبو العافية، أن يعود الى طبريا مع اليهود الذين اضطروا الى الهرب قبل عدة عقود. وقد اصطدم ظاهر عمر مع والي دمشق، الأمير سليمان، الذي كان نائبا للخليفة آنذاك وعارض جلب اليهود الى طبريا. وزحف بجيش الى هضبة الجولان السورية، وفرض حصارا على طبريا وراح يقصفها بالمدافع. وقد كاد اليهود يستسلمون أمام سليمان، لكن ظاهر عمر شجعهم وأقنعهم بالبقاء وحمى المدينة. شموئيل طوليدانو، يستذكر هذا التاريخ ويقول ان اليهود مدينون لهذا القائد العربي بوجودهم في المدينة. وطوليدانو يقارب حاليا سن السابعة والثمانين من العمر، وكلما تقدم أكثر في العمر، يقترب أكثر من ماضيه القديم، ويعود الى أيام الجيرة الحسنة مع العرب، وكأنه يحاول التكفير عن «المرحلة الوسطى» من حياته، عندما خدم في جهاز «الموساد» (المخابرات الاسرائيلية الخارجية).

ولكي نفهم هذه العقدة، علينا أن نعود لاستعراض بعض الجوانب من قصة حياته: «ولدت في طبريا وعشت فيها مع أهلي وجيراني العرب أحسن عيشة. ما زلت أذكر العديد من أصدقاء الطفولة الفلسطينيين. ما كان عليهم أن يبرحوا في «حرب التحرير» (هكذا يسمون الاسرائيليون حرب 1948). حتى قيام الدولة كنا مثل الإخوة. عائلتنا وعائلة الطبري (وهي عائلة فلسطينية عريقة، تولت رئاسة البلدية لفترة طويلة) كانتا مثل عائلة واحدة. لكن المتطرفين من الجانبين أبوا إلا أن يدمروا هذه العلاقة في فترة الحرب. القيادة الإسرائيلية أمرت بترحيل العرب والقيادة العربية أيضا أمرتهم بذلك، بدعوى ان الجيوش العربية تريد شن الحرب، ولا تريد لهم أن يصابوا بأذى. حاولنا بكل قوتنا أن نقنعهم بالبقاء، لكنهم رفضوا. وما أن خرجوا حتى بدأت جرافات الكيرن كييمت تهدم بيوتهم حتى لا يرجعوا. كانت القضية أكبر منا». الفلسطينيون الطبرانيون لا يصادقون على هذه الرواية. محمد الطبري، أحد أحفاد تلك المرحلة يروي عن جده، الذي عاش المرحلة، ان العرب رحلوا بعد أن سمعوا بأن اليهود ارتكبوا مجزرة دير ياسين، وانهم قتلوا تسعة مواطنين فلسطينيين قرب طبريا كمقدمة لارتكاب مجزرة جديدة في طبريا، ولذلك هربوا. ولكنه يؤكد ما قاله طوليدانو من أن العديد من اليهود توجهوا الى وجهاء العائلات العربية وطلبوا منهم البقاء، فخافوا أن تكون تلك خديعة تستهدف ذبح كل فلسطينيي المدينة. وهكذا، رحل الفلسطينيون من طبريا، وكان عددهم يومها 5500 نسمة، يشكلون نصف عدد سكان المدينة. وخلال سنة حرصت الحكومة الاسرائيلية على جلب عدد من اليهود مساو لعدد الفلسطينيين، الذين غادروا المدينة، وهي اليوم مدينة متوسطة يبلغ عدد سكانها 40 ألفا، يعيش فيها بضع مئات من الفلسطينيين سكان اسرائيل (فسطينيي 48)، وهم من سكان الناصرة والجليل، الذين تربطهم بها مصالح اقتصادية، ولا يوجد فيها أحد من سكان طبريا الأصليين. وأما يهود طبريا الأصليون، فالكبار في السن منهم ما زالوا يتكلمون اللغة العربية. وبعضهم يحافظون على العلاقات القديمة مع العرب، ويتمسكون بعاداتهم القديمة القريبة من العادات العربية والبعيدة عن العادات التي جلبها يهود أوروبا الى البلاد. ولكن عددهم يتقلص باستمرار. وأولادهم لا يكملون المسيرة ولا يتعلمون اللغة العربية. من الصعب الحديث عن اليهود الفلسطينيين كوحدة واحدة في أي موضوع. فهم لم يعودوا مجمعين في مكان واحد. لم يعلموا أولادهم اللغة العربية. اختلطوا مع بقية اليهود القدمين من مختلف أنحاء العالم، وذابت الكثير من عاداتهم وتقاليدهم. طوليدانو يؤكد ان التطورات المتلاحقة غيرت الكثير من الأمور من الناحية الموضوعية، فهناك الحروب وهناك الجيش وهناك التهديدات الخارجية، وهناك السياسات الحزبية، كلها لعبت دورا في قلب الأوضاع رأسا على عقب. ويضيف: «بعد 60 عاما من قيام الدولة، هناك تجربة غنية لدى الأجيال المتقدمة في السن من اليهود، حتى لدى القادمين من دول الغرب، تفتش عن طريقة للتوصل الى سلام مع الفلسطينيين وسائر العرب. وهم يجدون فينا نحن اليهود من أصل عربي، جسرا لهذا السلام».

وحياة طوليدانو نفسه تشير الى مسار التغيرات والتبدلات التي حلت باليهود من أصل عربي. فهو في سنة 1948، لم يكن في طبريا، عندما سقطت بأيدي التنظيمات العسكرية اليهودية. فقد حارب في اطار تلك التنظيمات في منطقة اللطرون قرب القدس. واعتقلته القوات البريطانية مع مجموعة من اليهود، وبقي في السجن حتى خروج البريطانيين في يوم 15 مايو (أيار) 1948. وبوصفه يجيد اللغة العربية، ضموه الى جهاز المخابرات العامة. ثم انتقل الى المخابرات الخارجية (الموساد). وقد ترقى في المناصب حتى أصبح نائبا رئيس هذا الجهاز. وهو نفسه يتحدث عن تلك الخدمة بصراحة فيقول، ان الدولة العبرية استغلت عروبته (ضد العرب). ويروي ان معلومات وصلت الى الموساد عن صديق الطفولة في طبريا، البروفيسور فايز الصايغ، أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية من انه موجود في سويسرا. فقرر السفر الى هناك للقائه. وخطط لأن يتظاهر وكأنه يلتقيه صدفة، مع ان عملاء الموساد كانوا يتتبعون تحركاته في سويسرا خطوة خطوة. فعرف انه ينوي السفر في رحة بحرية بقارب في بحيرة جنيف، فحجز في الرحلة نفسها. وجرى اللقاء فعلا وكان حميما للغاية: «تعانقنا بحرارة حقيقية وتبادلنا القبل ـ يقول طوليدانو ويضيف «كنا أطفالا في ساحة مشتركة وحي واحد. لعبنا معا. ودرسنا في المدرسة نفسها حتى فترة الحرب».

كان هدف طوليدانو من اللقاء أن يجند الصايغ كعميل لإسرائيل، لكنه لم يفصح لصديقه عن هدفه هذا. قال له انه يعمل في وزارة الخارجية الاسرائيلية، وانه حضر الى سويسرا في مهمة دبلوماسية. وعرض عليه ان يعود الى البلاد، لكن ليس الى طبريا. ووعده بأن يدبر له اقامة وتعويضا ماليا عن أملاك عائلته. بيد ان الصايغ أجابه بأدب وحزم: «أفترض ان نواياك طيبة، وأشكرك على هذا، ولكنني لن أعود إلا إلى طبريا وفقط ضمن جيش التحرير الفلسطيني». واتضح فيما بعد ان الصايغ أخبر ياسر عرفات بهذا اللقاء، حال عودته من سويسرا.

حتى اليوم لا يجد طوليدانو غضاضة في تصرفه مع صديق عمره. فهو يرى ان ما حدث كان طبيعيا جدا: «كلانا وطني مخلص، أنا حاولت تجنيده لصالح بلدي، وهو رد بموقف وطني لصالح بلده». وتمضي السنوات ويصبح طوليدانو مستشارا للشؤون العربية لدى ثلاثة رؤساء حكومة في اسرائيل: ليفي اشكول وغولدا مئير واسحق رابين. ويكون له دور في رسم السياسة الاسرائيلية تجاه المواطنين العرب، يراه العرب في اسرائيل سلبيا بالأساس. ثم يترك الخدمة الوظيفية وينافس على مقعد في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي) في اطار حزب العمل، ويصبح نائبا. ثم ينتقل الى حزب آخر جديد في الوسط اللبيرالي (داش). ثم يبدأ الزحف يسارا الى أحزاب اليسار، حتى يصل الى حزب «مبام» (ميرتس) اليوم، وينضم الى «مجلس السلام والأمن»، الذي يضم 1300 شخصية عسكرية ومخابراتية وسياسية سابقة ويعمل من أجل السلام.

ويشهد له انه في سنة 2004، شارك في لقاء مع رئيس أركان الجيش الاسرائيلي موشيه يعلون، حول الأوضاع الأمنية والسياسية واصطدم معه على مرأى ومسمع الصحافة. فقد قال له طوليدانو: «الجيش تحت قيادتك فقد القيمة العليا طهارة السلاح. الجنود تحت قيادتك يهدمون بيوت الفلسطينيين وينكلون بالمواطنين على الحواجز ويقتلون النساء والأطفال والناس الأبرياء». ويرد عليه يعلون بحدة وفظاظة، فيترك الجلسة ويقاطع المجلس إلى الأبد، ويختار الاعتزال السياسي. وهو اليوم يقيم في القدس، يتابع السياسة من بعيد، وبكثير من الألم «الألم لأنني أرى ان الكثير من قادتنا لا يفهمون ما الذي يدور من حولنا ويضيعون الفرص. نحن يصيبنا اليوم ما أصاب العرب في سنة 1948. وهذا يقلقني ويحزنني». ويؤكد طوليدانو ان مواقفه السياسية تطورت وتغيرت الى هذا المستوى، ليس لكونه يهوديا من أصل عربي، بل لأنه انسان واقعي ويحاول قراءة الخريطة الاقليمية بشكل سليم. ويقول: «قد تجد منا، أي اليهود من أصل عربي، من يقبع في يمين الخريطة الحزبية في اسرائيل، يرفض أية تنازلات من أجل السلام وقد تجد من هو في المعسكر، الذي أنتمي أنا اليه. كذلك قد تجد من هو في معسكر السلام من اليهود الروس، وتجد منهم يمينيين متطرفين. فلا علاقة للانتماء السياسي بالانتماء التاريخي أو التراثي. ولكن ما من شك في أن اليهود الذين مروا بتجربة العيش السلمي مع العرب، مثلي ومثل سكان حيفا ويافا الأصليين، مستعدون أكثر لتكرار التجربة في العيش مع العرب بسلام، ووفق الضمانات الأمنية اللازمة».