هل حدثت خلافة سياسية في روسيا؟

موسكو تبدأ حقبة جديدة مع ميدفيديف الذي يهوى الاستماع إلى موسيقى الروك ويبدأ يومه بالإنترنت لقراءة المواقع الإخبارية الروسية والأجنبية ولكن..

من الحاكم الفعلي لروسيا ؟ («الشرق الأوسط»)
TT

في السابع من مايو (أيار) الجاري تم تنصيب ديمتري ميدفيديف رئيساً جديداً لروسيا. ويعتبر ميدفيديف، المحامي البالغ من العمر 42 عاماً ويتحدث الإنجليزية بطلاقة، أول زعيم حقيقي للبلاد لـ«حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي»، ذلك أنه لم ينضج داخل جنبات الحزب الشيوعي، مثلما كان الحال مع أول رئيس روسي بوريس يلتسين، أو داخل وكالة الاستخبارات السوفيتية، مثل فلاديمير بوتين، وإنما داخل روسيا الجديدة. تخرج ميدفيديف في كلية الحقوق داخل جامعة «سانت بطرسبرغ» ويهوى الاستماع إلى موسيقى الروك، ومن المعروف عنه أنه يبدأ يومه بالدخول إلى شبكة الانترنت لإلقاء نظرة على المواقع الإخبارية الروسية والأجنبية، مما يشكل بالتأكيد تحولاً في التقاليد السياسية الروسية. بيد أنه لم يتضح بعد ما إذا كان رجل الكرملين الجديد سيحدث تغييراً بمسار التاريخ الروسي. ولا تزال الكثير من التساؤلات قائمة بشأن إلى أي مدى سيتمكن الرئيس ميدفيديف من تعزيز سلطته الحقيقية وتغيير وجه روسيا وتغيير علاقاتها بدول العالم. وعليه نجد أنه في الوقت الذي تمثل فيه عملية التنصيب نهاية عملية تناقل السلطة داخل غالبية الأنظمة الديمقراطية، فإن هذه الخطوة تشكل مجرد البداية في روسيا.

موروث بوتين: وعلى خلاف ما جرت عليه العادة، تضمن حفل تنصيب ميدفيديف خطبة مطولة ألقاها الرئيس المنتهية فترة ولايته بوتين، الأمر الذي شكل ليس فقط مؤشراً على الاستمرارية، وإنما أيضاً انعكاساً لتوازن القوة الحقيقي القائم داخل روسيا اليوم. وبذلك يتضح أنه حتى بعد تنصيب ميدفيديف رئيساً للبلاد، سيبقى بوتين مهيمناً على القوة الحقيقية وراء الكواليس. جدير بالذكر أنه قبل أشهر قليلة من إجراء الانتخابات الرئاسية، رشح بوتين ميدفيديف خليفة له. وجاء النجاح السهل الذي أحرزه الأخير في الانتخابات وفوزه بـ70% من الأصوات ليعكس شعبية بوتين، أما برنامجه فحمل رسالة واحدة مفادها المضي قدماً في سياسات بوتين. كما تألف الفريق المعاون لميدفيديف، قبل وبعد الانتخابات، بصورة شبه كاملة من أعضاء حاشية بوتين المقربة. وفي الواقع، كان ميدفيديف نفسه عضواً بالفريق المعاون لبوتين على امتداد 17 عاماً من حياته المهنية.

ورغم أن جميع تلك المؤشرات تشير إلى أين تكمن السلطة الحقيقية على الصعيد غير الرسمي، قرر بوتين أيضاً إبقاء سيطرته على مقاليد السلطة الرسمية، حيث أعلن، حتى قبل بداية حملة ميدفيديف الانتخابية، أنه سيتولى منصب رئيس الوزراء بعد تنحيه عن الرئاسة. وبعد الانتخابات، سارع ميدفيديف بترشيح بوتين لتولي هذا المنصب، وفي اليوم التالي لإعلان ميدفيديف رئيساً للبلاد، وافق البرلمان بالإجماع على تولي بوتين رئاسة الوزراء. وفي واقع الأمر، فإن بوتين يفرض سيطرته على البرلمان أيضاً. فمنذ أسابيع قليلة ماضية، وافق على تولي رئاسة «حزب روسيا المتحدة» الذي يشكل أكبر قوة سياسية في البرلمان.

جدير بالذكر أن هذا الحزب تمكن من الفوز في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي من خلال إعلان دعمه الكامل لسياسات بوتين وولائه الكامل له شخصياً، رغم أنه في هذه الفترة لم يكن عضواً بالحزب ولا رئيساً له. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقبل رحيله عن كرسي الرئاسة بأسبوع، أصدر بوتين عدداً من القرارات تقضي بنقل بعض الصلاحيات الرئاسية الجوهرية إلى رئيس الوزراء، بما في ذلك إخضاع محافظي الأقاليم لسلطة رئيس الوزراء. علاوة على ذلك، يوجد الكثير من الأفراد الموالين لبوتين داخل مجالس إدارات الشركات الحيوية التابعة للدولة، ومن بينها شركة «جازبروم» العملاقة التي تحتكر صناعة الغاز الطبيعي في البلاد.

إلى جانب ذلك، سيبقى بوتين، عميل الاستخبارات السوفياتية السابق والذي منح قوات الأمن سلطة كبيرة في إدارة شؤون الدولة والنشاطات التجارية، الرئيس الفعلي للمجتمع الأمني، بغض النظر عن مسألة أن الدستور يضع قوات الأمن تحت سيطرة الرئيس. كما أن بوتين، وليس ميدفيديف، هو الذي سيتولى الإعلانَ عن وزيري الدفاع والأمن الجديدين بعد تعيين الحكومة الجديدة. وفي ظل هذه الظروف، لا يبقى هناك أدنى شك في أنه على امتداد المستقبل المنظور ستبقى السلطة الحقيقية في قبضة رئيس الوزراء بوتين. ومن المتوقع أن تتحول الحكومة من كيان بلا سلطات محددة، مثلما كان الحال في ظل رئاسة بوتين، إلى كيان بالغ النشاط يمثل الهيئة السياسية الأولى بالبلاد. أما دور ميدفيديف فسيبقى دوره في الجزء الأكبر منه مقتصراً على المراسم ومفتقراً إلى أي سلطة مستقلة لصنع القرار الاستراتيجي. والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن ما إذا كانت هذه الازدواجية غير المسبوقة في التاريخ الروسي، بمقدورها الاستمرار؟

إستراتيجية ميدفيديف: من الممكن أن تستمر هذه الازدواجية لفترة طويلة حال تقبل ميدفيديف اضطلاعه بدور تابع لبوتين، أو إخفاقه في إثبات شرعيته وقدرته على ممارسة الحكم بصورة مستقلة. إلا أن هناك مؤشرات توحي بخطأ كلا الافتراضين، فمن ناحية، لا تتطابق وجهات نظر ميدفيديف مع توجهات بوتين فيما يتعلق بالكثير من القضايا، بما في ذلك قرارات إستراتيجية حيوية على صلة بالإصلاحات الاقتصادية الداخلية. من ناحية أخرى، باستطاعة ميدفيديف بناء تحالف قوي من مختلف قوى النخبة الاقتصادية والسياسية والإقليمية الراغبة في حدوث تحول بعيداً عن أسلوب إدارة بوتين للبلاد. وعليه، فإن التساؤلات المطروحة الآن تدور حول ما إذا كان الأمر برمته مسألة وقت قبل أن يشرع رجل الكرملين الجديد في الفكاك من قبضة بوتين المسيطرة، وما هي القوى الدافعة الرئيسة وراء مثل هذا التغيير.

أولاً: يقف التاريخ إلى صف ميدفيديف الذي تتوافر أمامه فرصة صغيرة، لكنها حقيقية، للشروع في تحديث روسيا. ورغم أن الرئيس الروسي يلتسين، سعى لتفكيك النظام السوفياتي، فإنه دمر فعلياً البلاد في خضم هذه العملية، مما خلق جرحاً غائراً في نفوس الروس وغرس بداخلهم الريبة إزاء الديمقراطية والأفكار الليبرالية. أما بوتين، فرأى أن مهمته تتمثل في إعادة بناء الدولة الروسية بعد يلتسين، والتغلب على المذلة التي تعرضت لها البلاد ومنح الروس الأمل في مستقبل مستقر لهم ولأبنائهم. وتمكن بوتين من تحقيق ذلك بالفعل، لكن فقط من خلال الاعتماد على رموز الحقبة السوفياتية لإعادة بناء الهوية الوطنية وإلحاق الضعف بالمؤسسات وتقويضها من خلال إزالة أي خيار حقيقي من الانتخابات والقضاء على استقلالية البرلمان وإعادة إقرار السيطرة الكاملة للدولة على وسائل الإعلام وتقييد حرية المجتمع المدني في التنمية والتأثير على النقاشات السياسية، مما أسفر عن تنامي الفساد والفشل في إقرار حكم القانون أو سلطة قضائية مستقلة. وقد استبدل بوتين مؤسسات الدولة بشبكة من العملاء الموالين له، الذين ارتبط معظمهم بصلات بالمجتمع الأمني المنتمي للحقبة السوفياتية. ومنح بوتين لهؤلاء العملاء سلطات موسعة للإشراف على الحكم الروسي وقطاعات حيوية من الاقتصاد. ولا شك أن سعي بوتين لاستعادة مكانة روسيا العظمى، واتباعه نهجاً رأسمالياً استبدادياً وسياسات توازن القوى، يضعه على طريق الدخول في مواجهة مع الغرب. وبصورة عامة، يمكن القول إن النموذج الذي انتهجه بوتين لتحديث روسيا بلغ مداه، وبات من الضروري استغلال الفرصة التاريخية السانحة الآن.

على الجانب الآخر، يعتبر ميدفيديف أول زعيم لروسيا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي يصل إلى السلطة في وقت لا تلوح في الأفق نذر أزمة تهدد وجود البلاد. وتتمثل مهمة ميدفيديف الأساسية، ليس في إطلاق ثورة أو تحقيق الخلاص الوطني، وإنما في تنفيذ إصلاحات تكنوقراطية تقر حكم القانون وتحرر طبقة رجال الأعمال الناشئة من سيطرة الهيئة البيروقراطية. في هذا الإطار، اقترح ميدفيديف التركيز على محاور أربعة: بناء مؤسسات حقيقية، تحسين البنية التحتية، دعم الابتكار ومساعدة نمو الاستثمارات. من أجل تحقيق هذه الأهداف، يحتاج الرئيس الروسي الجديد تغيير النهج الذي تتبعه البلاد، خاصة أن النظام الراهن لا يدعم تنمية المؤسسات، ويقيد الاستثمارات والإبداع، ما سيخلق صعوبة في ترجمة الإنفاقات إلى تحسينات حقيقية بالبنية التحتية. ولا بد أن هذا الأمر كان واضحاً أمام ميدفيديف عندما تولى مسؤولية تنفيذ «المشروعات الوطنية»، حيث تم إنفاق ملايين الدولارات دون طائل كبير. ومن الواضح أن الأوضاع الحالية ليس بإمكانها ترجمة الإنفاقات، مهما بلغت ضخامتها، إلى عملية تحديث حقيقة (مهما كانت متواضعة). ومع أن بوتين سيبقى رئيس الوزراء، فإن الأمر سيرجع إلى الرئيس في نهاية الأمر للشروع في إعادة بناء مؤسسات مستقلة ومحاربة الفساد وإقرار حكم القانون. ومن الواضح أن ميدفيديف يؤمن بهذه القيم، لكن يفتقر إلى قاعدة القوة التي بإمكانها دعم رؤيته. بيد أن قاعدة القوة تلك توجد بالفعل داخل روسيا في صورة الطبقة الوسطى الصاعدة. عام 2001، ضمت الطبقة الوسطى الروسية قرابة 4 ملايين نسمة (أو 8 ملايين نسمة حال حساب من يعولوهم). إلا أنه بحلول يونيو (حزيران) 2007، تنامى عدد أبناء الطبقة الوسطى بسرعة بحيث أصبحت تشكل قرابة 25% من السكان أو حوالي 35 مليون نسمة. في إطار الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تنصيبه رئيساً للبلاد، أعلن ميدفيديف رغبته في «رؤية أكبر عدد ممكن من الأفراد» ينضمون إلى الطبقة الوسطى الروسية من أجل أن يتمكنوا من الحصول على مستوى جيد من التعليم والخدمات الصحية. علاوة على ذلك، يحمل الهدف الذي حدده الكرملين برفع متوسط دخول الأسر الروسية ليتوافق مع نظيره داخل الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2020، بداخله رؤية لإحداث توسع كبير بالطبقة الوسطى خلال السنوات المقبلة. ومن المحتمل أن يخلف اتساع الطبقة الوسطى داخل المجتمع الروسي آثاراً كبيرة على مستقبل التنمية الاقتصادية والسياسية بالبلاد. في المقابل، نجد أن الطبقة الوسطى في ظل رئاسة بوتين، خاصة الجزء الخاص برجال الأعمال، تعرضت للإقصاء من العملية السياسية وسقطت ضحية الفساد وغياب حكم القانون. والآن، أصبحت هذه الطبقة تمثل جمهوراً انتخابياً بمقدوره دعم رؤية ميدفيديف للتغلب على هذه المشكلات. بيد أن الرئيس ميدفيديف بحاجة إلى البدء بإحداث انفتاح بالمجتمع الروسي وتقليص القيود المفروضة على حرية التعبير ودعم حرية الإعلام والمجتمع المدني ووقف اضطهاد جماعات المعارضة المؤيدة للديمقراطية. ويحتاج الرئيس الجديد لإثبات قدرته على تنظيم انتخابات حرة ونزيهة بصورة حقيقية ودمج الطبقة الوسطى الصاعدة في العملية السياسية. وضع روسيا على الساحة العالمية: بينما لم تبدأ معركة ميدفيديف السياسية على الصعيد الداخلي بعد، من المحتمل أن يتضح تأثيره على السياسة الخارجية الروسية على الفور. علاوة على ذلك، فإنه رغم مناصرته بوتين بوضوح فيما يتعلق بالسياسات الداخلية، سيكون هو الصوت الممثل لروسيا في المحافل الدولية الجوهرية، مثل قمة مجموعة الثماني، وفي الحوار مع القادة الأجانب. وبمرور الوقت واكتسابه خبرة في التعامل مع القضايا الرئيسة على صعيد السياسة الخارجية، خاصة انه يفتقر إلى أي خبرة دولية حقيقية، سيحدث ميدفيديف بلا شك تغييراً في أسلوب الدبلوماسية الروسية. وعلى ميدفيديف أن يثبت قدرته على تعزيز المصالح الروسية دون إقحام بلاده في مواجهات جديدة مع الغرب أو الدول المجاورة، مثل جورجيا وأوكرانيا. وبينما لجأ بوتين على التوجهات الانفرادية القوية والخطابات المتعجرفة لإقناع الروس بأنه استعاد مكانة موسكو كقوة عظمى، سيتعين على ميدفيديف إثبات مقدرته على تحقيق نتائج إيجابية ملموسة. يذكر أنه خلال الشهور السابقة لعقد الانتخابات الرئاسية، أعربت أصوات قوية من داخل النخبة التجارية والبيروقراطية الروسية عن شكوكها إزاء ما إذا كانت السياسة الخارجية الروسية متوافقة مع المصالح الاقتصادية والتجارية للبلاد على المديين القريب والبعيد، وكذلك مدى قدرة البلاد على تناول التحديات القائمة على الصعيد الداخلي وبمنطقة الجوار والحيلولة دون انهيار العلاقات مع الدول الغربية التي تشكل مصدر الجزء الأكبر من الروابط التجارية والاستثمارية الروسية. ويتمثل تحدي آخر في كيفية ترجمة الخطابات إلى انجازات حقيقية فيما يخص تناول القضايا الصعبة، مثل نشر مظلة الدرع الصاروخي الأميركي والبرنامج النووي الإيراني والعلاقات الروسية ـ الغربية في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. ومن المتوقع أن تكون أول زيارة خارجية لميدفيديف إلى كازاخستان والصين لإعادة التأكيد على الرؤية الروسية لعالم متعدد الأقطاب. ومن المتوقع أن يراود غالبية القادة الأجانب الفضول للتعرف على الكيفية التي سيتعامل بها الرئيس الروسي الجديد مع تعددية الأقطاب على الصعيد الداخلي. وفي الواقع، فإن حقبة بوتين داخل روسيا لم تنته بعد.

* زميل المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (في مجال الشؤون الروسية والأورو ـ آسيوية)