دولة «حزب الله»: «الأمر لنا»

الطاعة أساس آيديولوجيته.. والأساطير والحديث عن ملائكة تساعد «المقاومين» تترسخ في عقول مؤيديه

حزب الله يستعرض قواته في احياء ذكرى يوم القدس العام الماضي في الضاحية الجنوبية («الشرق الاوسط»)
TT

بعد الانقلاب الذي نفذه حزب الله في بيروت والجبل الاسبوع الماضي، ظهرت تساؤلات كثيرة حول الحزب وسلاحه ودولته ومشروعه. وتساءل الكثيرون ما اذا كان هذا الانقلاب رد فعل شعبيا عفويا على قرارين صدرا عن مجلس الوزراء لم يعجبا قائد الحزب السيد حسن نصر الله، ام أنه محضر ومنظم كتنظيم الحزب وشعبه الضاحية الجنوبية، معقله.

رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة يرفض ان يصدق ان ما جرى في بيروت ليس سوى ردة فعل عفوية، بل يؤكد انه كان مدبرا منذ شهور على الاقل وقد نفذ بدقة وبرمجة. ويضيف انه لم يكن يتوقع ان يوجه الحزب سلاحه الى الداخل مهما توفرت الذرائع.

المراقبون للساحة اللبنانية يوافقون السنيورة على ان ما جرى لم يكن عفويا. فـ«بروفة» اقتحام بيروت كانت ترمي الى أبعد من ارغام الحكومة على التراجع عن قراريها. ويضيفون ان القيمين على «دولة حزب الله» لا يقدمون على اي خطوة تحت تأثير الانفعال أو الغضب. ولا يمكن لهؤلاء ان يتورطوا فيعرّضون سلاح الحزب «المقدس» الى النقاش في الدوحة وامام اعين اللجنة الوزارية العربية ليتم تناوله كمصدر خطر ليس على اللبنانيين فقط وانما على العالم العربي «السني»، وهم الذين كانوا يخوّنون من يطرح قضية السلاح من اللبنانيين على طاولة حوار داخلية.

لكن الامر حصل ودخلت «دولة حزب الله»، مرحلة كسر محرماتها. وفي محاولة لفهم سلوك حزب الله هذا، لا بد من معرفة كيف يتكون مجتمع أو دولة حزب الله.

جولة في غرب العاصمة اللبنانية وضاحيتها الجنوبية كافية لتكشف ان فرع «المقاومة الاسلامية في لبنان» فرض شعاراته ولافتاته في كل الاحياء. وكأنه يقول: الامر لنا ومن لا يعجبه أصبح يعرف أي مصير ينتظره. ففي غفلة عن الوعي الاجتماعي اللبناني تسربت «دولة حزب الله» الى الرأي العام الشيعي الذي لا يصدق ولا يناقش الا ما تلقنه اياه «الوحدات الاعلامية» لهذه الدولة. يكفي ان يلفظ اسم السنيورة مثلا امام اي «شيعي حزبوي» سواء كان استاذ جامعة او طبيباً او بائع خضار او مزارعاً او عامل بناء لتحصل على ردود فعل مستنسخة. كلهم يصنفون السنيورة عميلا للصهيونية العالمية وللادارة الاميركية. وكلهم يحملونه وحده دون سواه مسؤولية الويلات الاقتصادية في لبنان. كلهم يعتقدون ان المحكمة الدولية مسيّّّسة فقط لتنال من الحزب وسلاحه. كلهم يؤمنون ان الدولتين الوحيدتين اللتين دفعتا لإعادة اعمار لبنان بعد العدوان الاسرائيلي في يوليو (تموز) 2006، هما قطر وإيران. الاطلاع على كتاب الدين الذي يدرس في مؤسسات «حزب الله التعليمية يكشف جانبا من نشأة «الفكر الحزبوي». لا تطرق فيه الى الخلفاء الراشدين الدروس تقفز من سيرة النبي محمد (صلعم) الى الامام علي بن ابي طالب. الخلفاء الراشدون ترد سيرتهم في كتاب التاريخ. اما في درس الدين فيتلقن التلاميذ ان ابنة النبي (صلعم) واحدى زوجات الامام علي فاطمة الزهراء قتلت سحقا خلف الباب على يد عمر بن العاص.

ويقول الكاتب والمفكر وابن الضاحية الجنوبية لقمان سليم ان «من يعرف الحزب وتركيبته يعرف جيدا انه لم يأت من الساحة العامة الى غرفة النوم وانما كان دائما في غرفة النوم وخرج الآن الى الساحة العامة. هدف حزب الله عندما انطلق لم يكن تحرير القدس. ولم يشغل بالهم موضوع مزارع شبعا. بدأوا مع جملة كتبت على حائط في الضاحية هي: «اختي، حجابك أغلى من دمي». هذا هو المفتاح الذي نضيعه اليوم. ومع تعاقب الأيام صارت عبارة «مبروك الحجاب» من يوميات النساء في «جمهور دولة الحزب».

يقول الشيخ محمد علي الحاج، وهو أحد رجال الدين الشيعة: «اذا دققنا في تركيبة حزب الله وسمعناه يطالب بالمشاركة في السلطة، لا بد ان نفكر بتوجيه نصيحة الى جنبلاط وجعجع والحريري بأن يطالبوا الحزب بالمشاركة في الشورى».

ويُروى في كواليس الحزب ان قريب احد الشهداء الذين سقطوا في «غزوة» بيروت والجبل، حاول عبثا معرفة كيف «استشهد» قريبه واين قتل. لم يسمح لأهله برؤية جثته. احضروا الجثة ودعوا العائلة الى الدفن. لم يستطع القريب حبس دموعه، امسك به عناصر الحزب واخذوه جانبا وقالوا له: «اصمت. ليس لدينا رجال يبكون» .

وفي كواليس الحزب حكايات كثيرة تؤشر لأنه يسعى الى تمييز نفسه عن غيره بكل الوسائل المباحة والممنوعة، يحمل في دهاليزه الكثير من الهنات غير الهينات التي لا يسمح بتداولها، فهو بُني على اسس عقائدية دينية صرفة. يقول سليم: «التكليف الشرعي هو نتيجة البنية الدينية والتركيبة العقائدية... لا يمكن محاربة حزب الله كما تُحارب الاحزاب الشمولية الاخرى. يجب ابتكار اسلوب جديد لمحاربته». اما الحاج فيوضح انه «في ايديولوجية الحزب الطاعة تقع في المكان الاول. الطاعة تمنع امكان بروز اي انشقاق او تفكير وتحليل. هي الاساس، اما المرسوم التطبيقي للطاعة فهو التكليف الشرعي. حزب الله بنيته فاشية. والتكليف الشرعي صيغة مطاطة لا محتوى لها ويمكن ان يوضع في هذه الصيغة كل ما يريده الحزب. اما السلوك الحسن فهو سلوك صوري. السلوك الحقيقي فهو صم الآذان والانعزال في الطاعة».

الحزب فرض تحية خاصة بين ناسه. لا يخاطب احدهم امرأة الا بعبارة «يا حاجّة». كرس مشهد الثياب ذاتها وطريقة ترك اللحية تنمو بالشكل ذاته. ثقافته اخترقت المأكل والملبس. سيطرت على الناس. الناس ليسوا مع الحزب بالعقل وانما باللباس والمأكل والنوم والزواج وكل وجوه الحياة. تقمص الناس هذا الشخص الجديد الذي لا يتعرى من شكله خوفا من الغربة بين الجماعة. تم ذلك من خلال الاستيلاء على المساجد وبناء الحسينيات والمدارس وفرق الكشافة وخزانات المياه المكتوب عليها «لا يوم كيومك يا ابا عبد الله».

كذلك فرض سلوكيات خاصة على كوادره. وعلى عكس ما يعتقد العامة من ان امتيازات هذه الكوادر تبدأ بالسلطة المطلقة ولا تنتهي بتطبيق «الاجتهادات الشيعية الخاصة»، ومنها زواج المتعة. في هذا الموضوع تحديدا توضع الحدود، لا سيما اذا كان تطبيق هذا الاجتهاد مثار أزمات اجتماعية مسيئة الى السمعة. قد يبعد مسؤول حربي عن موقع القرار اذا لم يلتزم الحدود. لكن لا بأس بتنفيذه زواج متعة كـ«أمر مهمة» اذا دعت الضرورات الامنية او الاستخباراتية الى ذلك. وبمعزل عن الكوادر وحياتهم السرية للضرورات الامنية، يعيش مريدو الحزب بأمان ويموتون بأمان. علمّوهم ان «ابا الحسنين» الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، سيكون حاضرا معهم في القبر لحظة الحساب وسيشفع لهم ويساعدهم في الاجابة عن اسئلة ملاكيّ القبر وبالتالي سيؤمن لهم دخولهم الجنة وبكل تأكيد. الاساطير ايضا تدخل على خط الثقافة الرافدة لـ«دولة حزب الله». برزت في حرب يوليو (تموز). وضعت الكتب عن بطولات اسطورية لأن الملائكة كانت تحارب مع المقاومين. قد تحدثك سيدة جامعية عن خوف الجنود الاسرائيليين من مقاتلين بلا رؤوس كانوا يهاجمونهم بالسيوف. هذه الكتب لاقت رواجا كبيرا في «دولة حزب الله». واليوم يروجون لحكايات مماثلة. يقولون ان الامام المهدي المنتظر ساعد المقاومين وحماهم خلال اقتحام بيروت. كما انقذ احد المقاتلين من براثن الاشتراكيين. حمله من بين ايديهم. الشيخ محمد علي الحاج يرفض تسخير الأئمة في هذا الاستقطاب. كذلك يرفض إغراق نصر الله في المنحى الديني الفقهي. يقول: «في خطابه السياسي نصر الله ليس منسجما مع التركيبة الدينية لرجال الدين الشيعة الذين درسوا في النجف. الحلم والتسامح صفتان ميزتا هؤلاء قبل المد الايراني. لكن استخدام نصر الله العنف اللفظي لا علاقة له بروحية الفقه الشيعي وأصوله». يتوقف سكان الضاحية العريقون عند الفتاوى التي صدرت لتبيح لعناصر الحزب في الثمانينات قتل مسلمين سنة ومسيحيين ومسلمين شيعة من خط مغاير. كذلك فتاوى سرقة البنوك في الحرب الاهلية وفتاوى تبييض الاموال. يقول أحدهم: «الانكى انهم يدفعون الخمس من هذه الاموال الى المراجع الدينية الشيعية وكأنهم يستحصلون على براءة ذمة». لكن موقف الذين يتجنبون النقد العلني لجملة ممارسات بقيت «سرية» في تاريخ «حزب الله»، لا يلغي نجاحه في تأسيس دولته. لا تقتصر هذه الدولة على مدارس الحزب ومؤسساته التعليمية والاستشفائية والاجتماعية والدينية. هناك مؤسسات مسيحية ومسلمة شبيهة على امتداد الاراضي اللبنانية. العنوان الاساسي هو «الفضيحة» في هيمنة «حزب الله» على المدارس الرسمية. يقول لقمان سليم: «هذه الهيمنة تعكس التناقض الصريح مع فكرة الدولة السيدة المستقلة. اكيد يجب ان تخضع مدارس الحزب ومدارس غيره من المذاهب لرقابة الدولة. لكن العكس هو ما يحصل. الحزب يضع يده على مدارس الدولة في مناطقه والتي يمولها المال العام. كذلك المستشفيات الحكومية. اصحاب الحاجة الى المدرسة الرسمية والمستشفى الرسمي يحتاجون الى تأشيرة سياسية من الحزب والا ينتظرون ويتعرضون الى الذل. ولا يمزح الحزب عندما يتعلق الامر بوضع اليد، فتسلطه واضح على موارد الدولة تحت عنوان الشبكة الاخطبوطية من المؤسسات والجمعيات. لا استطيع ان امنع ايران من ان تضخ اموالها الى الحزب لكني اطلب الى الدولة ان توقف من يستولي على مرافق هي مؤتمنة عليها».

هناك احدى المحاولات الاحصائية التي تشير الى واقع شعبية «حزب الله». الاحصائية تقول ان حوالي 20% من الشيعة يشكلون نواة صلبة، افرادها مغسول دماغهم نهائيا عقائديا ومعيشيا. وهناك 50% من الشيعة يدغدغهم انتماؤهم الطائفي الى الحزب القوي والالهي والقادر على مواجهة اسرائيل والولايات المتحدة والداخل اللبناني، كذلك يفيدهم هذا الانتماء. وهناك حوالي 30% من الشيعة يحملون الهواجس ولا يؤيدون الحزب. منهم من يجهر بموقفه هذا ومنهم من يكتم اعتراضه على الحزب وسط محيط مؤيد منغلق. هذه الارقام تبدو معقولة. الحزب لا يستطيع ان يكون راعيا وابا لأكثر من 20% وحاضنا بشكل عام ومن دون التزام كامل لأكثر من 50%. بعد حرب يوليو (تموز) 2006 ارتفع منسوب الانبهار بالحزب. حصل تماثل بين الشيعة والحزب الذي اعطاهم فورا حفنة من المال، ليس بالصدفة ان ترافق ذلك مع نظرية ان الشيعة يتعرضون الى هجوم من الداخل المتواطئ مع الخارج العدو الصهيوني والاميركي، وان احداً لا يحمي الشيعة الا الحزب. وهكذا برزت فئة من الناس لا تشارك الحزب نمطه وايديولوجيته، لكنها معجبة بأمينه العام حسن نصر الله. الحزب بعد هذه الحرب ذهب بمشاريعه الى اماكن بعيدة. وصل الى اليسار الشيعي واستقطبه، كما استقطب الناس الذين لا يفرض عليهم وضعهم الاجتماعي الالتحاق به. ولا علاقة لهم بمدارسه ومؤسساته وموائده. وجدوا فيه ملاذا معنويا وعنصر تباهٍ.

ما حصل ان الحزب استطاع ان يخلط بين مفهوم الانتماء بالولادة الى بيئته الاجتماعية. تمكن من تجسير العلاقة انطلاقا من الانتماء البيولوجي او المناطقي. لذا تم تقديم فروض الولاء للجماعة. وعوضا عن قطع حبل السرة وبلوغ سن الرشد عاد مريدو الحزب الى رحم الجماعة. ولكن الى متى ستستمر هذه النجومية وهل ستبقى الفرص متاحة لها في التركيبة اللبنانية والمعطيات الاقليمية والدولية؟

يجيب سليم: «ربما هناك ما لا يلتقطه رادار الناس الذين لا يدورون في فلك الحزب. هناك من يظن ان نصر الله يتناول الشاي مع المهدي المنتظر وغيره من اولياء الله الصالحين. وما يدعم فرص النجومية هو ان حصانة لبنان اصبحت اضعف مما كانت عليه غداة ثورة الارز في مارس (آذار) 2005. خسرنا جزءا منها وكانت لا تزال في مرحلة النمو. هذا احد اسباب قوة حزب الله. حتى اثبات العكس حزب الله سيواصل الضغط على الجسم اللبناني. وسيبقى سيف الخوف الذي يسلطه الحزب قائما». الحزب لم يعد بحاجة الى ممارسة العنف اليدوي على الناس. بعد كل ما فعله داخل المجتمع الشيعي وخارجه صار الناس يخافون منه سلفا. كذلك لم يعد يحتاج الى شراء ود جمهوره كما في السابق. فـ«البونات» التي كانت تمنحهم تسهيلات في الدفع على امتداد متاجر الغبيري وبرج البراجنة وحارة حريك غابت. ولكن الا يعترض الناس او يرفضون سيف الخوف المصلت عليهم وتؤدي سلوكيات الحزب الى ردة فعل عكسية لاسيما في صفوف الشيعة المعروفين اصلا بنزوعهم الى الثورة.

يواجه هذا الطرح بمقولة «السلطة تولد السلطة» ما دام الحزب ممسكا بالشيعة. ولن يكون سهلا تنشيط الحالات الرافضة في الوسط الشيعي. وهنا علينا ان نتذكر ان الحزب لا يتهاون في نظامه الامني فقد تردد كلام عن اعدام اكثر من 30 شخصا من دون محاكمة لهم بتهمة التجسس خلال حرب صيف 2006. لكن الامن لا يتعارض مع مسحة ديموقراطية بعد التأكد من عدم تأثيرها. فـ«دولة حزب الله» تترك المعارضين لها، لا سيما اذا كانوا من المفكرين للمحافظة على مظهر ليبرالي يحسن صورتها.

ما هو مستقبل حزب الله؟

المرحلة المقبلة قد تحمل الجواب. او يكون الجواب قد اعطيَ عندما استدرج الحزب الى الساحة اللبنانية الداخلية وابعد عن الساحة التي تعطيه زخمه بمواجهة اسرائيل. او ان الجواب يكمن في قرار ضمني لدى اسرائيل بعدم منح الحزب فرصة اي مواجهة مهما حاول استفزازها استدراجها لتتركه يواجه بعد انزلاقه الى استخدام سلاحه في الداخل.

لكن انهيار حزب الله ليس امرا بسيطا. فهو يرفد 40 الف فرصة عمل وهو يؤمن التعليم لحوالي 100 الف تلميذ. وانهيار هذا الواقع يردنا الى ضياع البوصلة. طالما الدولة لا تقوم لها قيامة سيبقى حزب الله ولا بديل شيعي له. ويرى الكثيرون ان الخروج من حالة «حزب الله» لن يكون سليما الا عندما يواجه الشيعة الحزب وليس غيرهم.

لكن ما ثمن هذه الخطوة وهل تمكن الحزب من استثمارها في السياسة؟ وما مدى احتمال ان يستسلم اهالي بيروت لهذا الاحتلال الذي وان انسحب ظاهريا لا يزال يملك القدرة على معاودة الكرة عندما يرتئي ذلك؟

للبحث صلة. «دولة حزب الله»، كما قال «فخامة» امينها العام لا تزال شابة، ولا تزال تنشب أظافرها في الجسد الوهن للدولة. وفي انتظار ان يتحقق الشق الداخلي من القرار 1595 ستبقى هذه الدولة تتصرف وفق قاعدة: «الامر لنا».