لبنان في عيون السوريين

يعتبرون الاهتمام بشؤون لبنان حقا وواجبا.. خوفا من رياح قد تأتي منه

TT

كشف تصاعد الأزمة اللبنانية الأخيرة، قبل انعقاد مؤتمر الدوحة، عن مشهد إعلامي سوري جديد، لم يكن ظاهراً على هذا النحو في السنوات السابقة. فالشأن السياسي الخارجي الذي كان حكراً على الإعلام الرسمي حتى وقت قريب جدا، شهد تطوراً لافتاً، إذ تم كسر هذا الاحتكار من خلال تصدي الإعلام «المستقل» للخوض في غمار الشأن السياسي، والتصدي للرد على الحملات الإعلامية الخارجية، أو لشن هجوم معاكس بشكل مباشر وصريح، فيما ظل الإعلام الرسمي محافظاً على لغته المعتادة في التحفظ والاكتفاء بالعناوين العريضة، من دون الخوض في التفاصيل، وبما ينسجم مع الدبلوماسية السورية.

طريقة تعاطي الإعلام السوري مع الأزمة اللبنانية، بدت وكأنها عملية تقاسم في الأدوار، ما كانت لتكون، لولا أن الإعلام «المستقل» في سورية، بدأ يأخذ دوره إلى جانب الإعلام الرسمي، الذي كان طوال أربعة عقود ماضية يستأثر بالأدوار كلها على صعيد السياستين الخارجية والداخلية. وبنظرة سريعة إلى الإعلام المستقل، خلال السنوات الأولى من عمره بعد عودته إلى الحياة عقب صدور قانون المطبوعات عام 2001، وصدور أكثر من 200 مجلة وصحيفة أسبوعية وشهرية وفصلية، نجد أنه كان محظوراً على هذه المطبوعات الخوض في الشأن السياسي، لتتجه نحو الاقتصاد والشأن المحلي الخدماتي والثقافة والمنوعات... إلى أن اشتدت الضغوطات الخارجية على سورية بعد عام 2005، فسُمح، لمن يرغب من تلك الوسائل، بالتعرض للشأن السياسي. الا ان هذا السماح كان بشكل محدود، من خلال الافتتاحيات في دور مساعد للتصدي للهجمات الخارجية. وكان ذلك قبل اتخاذ قرار بالترخيص لأول قناة تلفزيونية سورية مستقلة «الدنيا»، والسماح بإصدار يومية سياسية مستقلة «الوطن»، اللتين مارستا دورهما إلى جانب الإعلام الرسمي، مع منح هوامش للمضي خطوات أبعد من دون تحفظ حين تستدعي المواقف.

إلا أن ذلك لم يظهر بوضوح إلا مع تصاعد الضغوط، التي كانت الأزمة في لبنان خلفية لها في أغلب الأحيان، ما شكل دافعا للدخول في لعبة الحملات الإعلامية والفعل ورد الفعل، والرأي الرسمي والرأي المستقل. وهنا لا بد من الإشارة إلى الإعلام الإلكتروني السوري، الذي سبق وأسس لهذه الحالة، حيث دخل معترك الشأن السياسي منذ سبع سنوات، كونه لا يحتاج إلى ترخيص إصدار، كما لا توجد قوانين ناظمة له. فعوضت في ذلك الحين المواقع الالكترونية إلى حد بعيد، غياب الإعلام المستقل عن السياسة منذ عام 2000، وانتزعت دوراً لم يعط لها، واستقطبت اهتمام عشرات الآلاف من القراء السوريين داخل البلاد وخارجها من مستخدمي الانترنت.

ومع حلول منتصف عام 2008، يمكن القول إن ملامح جديدة نسبياً للمشهد الإعلامي السوري، راحت تتبلور. ويمكن اعتبار التعاطي مع الأزمة اللبنانية الأخيرة ومؤتمر الدوحة نموذجاً حياً، كشف بعضاً من هذه الملامح الجديدة نسبيا. فمثلاً، من خلال مراقبة الصحف والمواقع الالكترونية في الأسبوع الأخير، يلاحظ أن موقع «شام برس»، وصحيفة «الوطن» توليا شن حملات مضادة ضارية للرد على وسائل الإعلام ذات التمويل السعودي، على خلفية توتر العلاقات بين البلدين بسبب الأزمة في لبنان، بينما الإعلام الرسمي المتمثل بوكالة الأنباء السورية (سانا) والصحف الرسمية الثلاث (الثورة وتشرين والبعث) ومعها التلفزيون السوري، اتخذ مسافة فاصلة عن التوترات، مع إظهار تحيز لحلفاء سورية في لبنان. فحين أعلنت سورية موقفها من المواجهات المسلحة في لبنان، باعتبارها «شأنا داخليا»، وضعت صحيفة «الثورة» خبر الشأن اللبناني في الموقع الثالث على الصفحة الأولى تحت عنوان «حل الأزمة بإلغاء القرارات الأخيرة والعودة إلى الحوار... نصر الله: السلاح للدفاع عن السلاح.. وقرار الحكومة إعلان حرب». وأولت الصحيفة أيضا اهتماماً بارزاً بخطاب أمين عام حزب الله حسن نصرالله. في المقابل، أظهرت «سانا» اهتماماً أكبر بالحدث، وتضمنت الصفحة الرئيسة من موقعها الالكتروني خمسة أخبار رئيسية، أولها الموقف الذي عبر عنه الرئيس الأسد من الأزمة واعتبارها شأناً لبنانياً داخلياً، ومن ثم خبر بعنوان «عناصر ميليشيا السلطة تستسلم.. ووسائل إعلام تيار المستقبل تتوقف عن العمل». أما المواقع الالكترونية الإخبارية، فقد أعلنت استنفارها وأعطت الحدث أولوية طغت على غالبية العناوين ضمن صياغات هجومية مباشرة. فشن موقع «شام برس» حملة ضارية على رموز الأكثرية في لبنان، ونشر أكثر من عشر مقالات ما بين خبر وتعليق وتحليل، مؤيدة للمعارضة ومنددة بالأكثرية. واعتنى الموقع بالأخبار الخاصة ذات الطابع الاستخباراتي، حول خفايا وكواليس سياسية. فراح ينقل مثلا أخباراً عن مصادر في المعارضة اللبنانية، او عن مواقع إسرائيلية أو مصادر خاصة.

وعلى سبيل المثال في اليوم الأول لسيطرة المعارضة على بيروت نقل عن مصادر لبنانية أن «وسام الحسن (رئيس شعبة المعلومات في الأمن الداخلي) فر إلى السفارة الأميركية في عوكر والقوى التي تسلمت مكتبه هذا الصباح اكتشفت وثائق تثبت تعامله المباشر مع إسرائيل». إلا أن موقع «داماس بوست» التزم بالسير وفق الخط الرسمي، وركز على المواقف الرسمية من خلال أخبار منقولة من مواقع أخرى من دون أي تغيير، ما عدا استثناءات قليلة. أما موقع «سيريا نيوز» الأوسع انتشارا، ففضّل أن يكون انعكاساً للصحافة الرسمية في التعاطي مع الحدث بدون أي اجتهاد. وغداة انعقاد مؤتمر الدوحة، تم رصد وقائعه من زاوية الموقف الرسمي الداعم للجهود القطرية، فاكتفت صحيفة «البعث» بتغطية وقائع المؤتمر بالاعتماد على أخبار الوكالات مع التركيز على تصريحات رموز المعارضة اللبنانية، وأعطته مانشيت الصفحة الأولى: «مؤتمر الحوار اللبناني في الدوحة يسجل انطلاقة إيجابية: لجنة سداسية للانتخابات.. وثلث ضامن في الحكومة». في المقابل، آثرت «الثورة» إبراز خبر الدوحة على خلفية خبر خاص من بيروت وهو «اعتداء ميليشيا السلطة على مقر لحزب البعث في بيروت»، في حين اهتمت افتتاحيتها بانتقاد زيارة بوش إلى المنطقة، لتقوم مديرة التلفزيون السوري ديانا جبور، عبر مقالاتها الأسبوعية في الصفحة الأخيرة للصحيفة بالتحذير من «مؤامرة» تجري في لبنان، متوقفة عند تزامن الأزمة «مع بدء احتفالات إسرائيل بتأسيسها وقدوم الرئيس الأميركي لأداء رقصة الوداع الأخيرة».

وفي إشارة غير مباشرة إلى مؤتمر الدوحة قالت الكاتبة، إن «الاحتفال الإسرائيلي- الأميركي لم يكتمل بهدية لبنانية ذات أغلفة وشرائط عربية، واستطاع العرب هذه المرة أن يحولوا شرائط تزيين المشروع التدميري إلى شروط وشرطة أجلت الهدية وربما فوتتها». وكان من اللافت أن صحيفة «تشرين» يأتي خبر مؤتمر الدوحة عنواناً ثالثاً على صفحتها، وتعطي الأولوية لخبر عن انتقاد الإعلام الأميركي للرئيس بوش، وآخر عن كشف معلومات عن دور إسرائيل وأميركا في جرائم القتل على الساحة اللبنانية. صحيفة «الوطن» اليومية الوحيدة المستقلة في سورية، أظهرت مواقف أكثر حدة فأفردت عنوان الأولى على كامل الصفحة وهو: «قطر تحبط كل محاولات إفشال الحوار»، وبدوره استمر موقع «شام برس» بحملته من دون هوادة. بالنظر إلى حجم اهتمام الشارع السوري بالموضوع اللبناني، يحتل الإعلام المستقل المكانة الأقرب من حيث حجم الاهتمام الشعبي. فعدا الشأن الداخلي المتعلق بأحوال المعيشة، وارتفاع الأسعار وسياسة الحكومة الاقتصادية، يمكن اعتبار الوضع في لبنان موضوعاً دائم الحضور في أحاديث السوريين السياسية، التي تتسم أحيانا بالملل وأحيانا أخرى باليأس من تحسنه. لكن ذلك لا يقلل من المساحة التي يشغلها، وإن طرأ عليها تنويع بالموضوعين العراقي والفلسطيني، فغالبية السوريين، وبالأخص الذين يعيشون قريباً من المناطق الحدودية، لا يشعرون أن لبنان بلد آخر، بل هو جزء من سورية ومتنفسها، ولا يمكن تحمل إصابته باعتلال أو اضطراب، ويمكن لأي من المتابعين لنشرات الأخبار أن يعدد أسماء النواب اللبنانيين السابقين والحاليين، والزعماء السياسيين ومواقفهم، ويعطيك رأياً واضحاً في سياسة الحكومة اللبنانية الداخلية والخارجية؛ حيال ذلك لا يمكن للاعلام السوري أن يكون محايداً، وبالتالي فإن غالبية السوريين لا يمكنهم قراءة ما يجري في لبنان بعيداً عن مصالح بلادهم، ولطالما نظر الكثيرون إلى كون لبنان «خاصرة رخوة»، أو ساحة يمكن أن تستخدم ضد سورية ضمن مخاوف تكرست تاريخياً عبر أكثر من حدث سياسي في تاريخ البلدين. فإذا عدنا إلى فترة الانقلابات، من المعروف أنها كانت تدبر في بيروت. وخلال فترة الانفصال استخدم المصريون الصحف اللبنانية لشن أعنف الهجمات على سورية، وكلما شاءت الدول الكبرى الضغط على سورية جاءت عن طريق لبنان. من هنا فإن ما يبدو غير مفهوم لكثير من اللبنانيين من اهتمام السوريين في شؤون بلدهم، يبدو حقا وواجباً في نظر السوريين، «ليس طمعا بلبنان، بل خوف من رياح قد تأتي منه»، حسب تعبير عاصم البالغ من العمر 52 عاما، هو مهندس ويقول إنه متابع للشأن السياسي. ويرى عاصم انه من حق كل لبناني أن يتخوف من الهيمنة السورية، ولكنه في الوقت ذاته يطالبهم بتفهم مخاوف السوريين، ويقول: «مشكلة لبنان أنه بلد خدمات بالفطرة، وفي بلد الخدمات كل شيء جائز، كما أن التركيبة السياسية اللبنانية وديمقراطية الطوائف جعلته بلداً مفتوحا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ايجابية وسلبية».

على هذه الخلفية، يمكن فهم الأسباب التي جعلت السوريين خلال الأسبوع الأخير، يتسمرون أمام الشاشات، لمتابعة آخر أخبار لبنان، على أمل التوصل إلى حل برعاية عربية، لما ينطوي عليه ذلك من آمال بعودة المياه إلى مجاريها في العلاقات السورية ـ السعودية والسورية ـ المصرية. وهو ما ينتظره الشارع كنتيجة طبيعية بعد توصل اللبنانيين إلى اتفاق من شأنه أن يحل الأزمة ويبشر بانفراج عربي. لكن ما أثار القلق، كان الهجوم الذي شنته صحيفة «الثورة» على السعودية ومصر يوم الأربعاء الماضي على خلفية استقبال الرئيس الأميركي جورج بوش مع الإعلان صباحاً عن التوصل إلى اتفاق الدوحة، إذ بدا التوقيت غير مفهوم، خاصة أن صحيفة «الوطن» التي ثابرت على مهاجمة الدور السعودي والأميركي في الدوحة، كانت قد خففت ذلك كثيراً، قبل يوم من إعلان التوصل إلى اتفاق! إعلامي سوري مخضرم، حاول تفسير موقف «الثورة»، الذي يعتبر خارجا عن تقاليد الإعلام الرسمي الذي ينأى عن الانتقاد المباشر للأنظمة العربية وللحكام العرب، بأن رئيس التحرير ربما كتب افتتاحيته في وقت مبكر من اليوم السابق للنشر، حين كانت كل الدلائل تشير إلى احتمال فشل مؤتمر الدوحة. وفي حملة استباقية للرد على هجمة محتملة ضمن الأجواء المتوترة السائدة، بمعنى آخر ربما كان هناك «سوء تقدير» حسب تعبير الإعلامي، الذي أصر على عدم ذكر اسمه. واستبعد أن يكون الرأي الذي كتبته «الثورة» فيما يتعلق بالسعودية ومصر يعبر عن «وجهة نظر رسمية على الأقل من حيث التوقيت»، لافتاً إلى وجود توجه سوري منذ انعقاد قمة دمشق باتباع «سياسة التهدئة والنأي عن لغة التصعيد».

في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن وسائل الإعلام السورية الرسمية والمستقلة، خرجت يوم أمس لتعلن الترحيب باتفاق الدوحة في صيغة احتفالية خالية من أي تعبير منحاز، سوى الإشادة بالتوافق. إلا أن العنوان الأبرز كان من نصيب الإعلان عن بدء مفاوضات غير مباشرة بين سورية وإسرائيل عبر القناة التركية، ما يعني أن موضوع السلام والمفاوضات والعلاقات مع الغرب وأميركا سيكون لها الأولوية في الفترة القادمة. بغض النظر عن الموقف من أداء الإعلام السوري خلال الأسبوع الأخير، لا بد من التوقف عند التغير الذي طرأ على هذا الأداء ومدى قدرته على الإقناع بأن الإعلام الرسمي والإعلام المستقل ليسا وجهين لعملة واحدة. فقد دأبت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الخارجية على التعريف بصحيفة «الوطن» بـ«الشبه رسمية» مع أنها الصحيفة السورية اليومية الوحيدة المستقلة، وأيضا المواقع الالكترونية السورية الإخبارية بـ«المقربة من السلطة» مع أنها نبتت خارج دوائر المؤسسة الرسمية.