أم الدنيا تعيش على قانون الطوارئ.. منذ 26 عاما

معارضون مصريون يخشون أن يكون بديله القادم أسوأ منه.. والمواطنون لا يعرفون حتى أنه يطبق

الشرطة المصرية تعتقل شخصين من الاخوان المسلمين خلال احدى التظاهرات في القاهرة («الشرق الاوسط»)
TT

لم يتسبب قانون على مدى تاريخ مصر المعاصر في إحداث حالة من الجدل السياسي مثلما فعل قانون الطوارئ. وعلى الرغم من معارضة كل القوى السياسية له، باستثناء الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، فان الحكومات المصرية المتتالية أصرت على تمديد العمل به على مدى الأعوام السبعة والعشرين الماضية، منذ تطبيقه عقب اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981.

تغيير شكلي حدث في عام 2005 وأثناء الحملة الانتخابية للرئيس محمد حسني مبارك والتي كان من بين بنودها تبني قانون جديد لمكافحة الإرهاب تمهيداً لإلغاء قانون الطوارئ. وقامت الحكومة المصرية وقتها بتشكيل لجنة مكونة من تسعة خبراء قانونيين برئاسة الدكتور مفيد شهاب، وزير المجالس النيابية والشؤون القانونية، ويعد من أبرز القانونيين في مصر قبل أن يعين وزيراً، لوضع بنود مشروع القانون الجديد الذي تصور البعض إمكانية سرعة الانتهاء من وضعه لإنهاء حالة الطوارئ التي تعيشها مصر. الا ان هذا الأمر لم يحدث، اذ جاءت موافقة مجلس الشعب (الغرفة الأولى في البرلمان المصري) في الثلاثين من إبريل (نيسان) عام 2006، على تجديد العمل بقانون الطوارئ لمدة عامين اعتبارا من يونيو (حزيران) 2006 حتى نهاية مايو (أيار) 2008، وهو القرار الذي لقي معارضة قوية داخل البرلمان من قبل نواب الإخوان المسلمين والنواب المستقلين الذين ارتدوا وقتها أوشحة سوداء كتب عليها «لا للطوارئ». بطبيعة الحال ولأن المجلس «سيد قراره» كما يردد دائماً رئيسه الدكتور فتحي سرور، فقد تمت الموافقة على القرار بأغلبية ساحقة بلغت طبقاً لما تم الإعلان عنه 257 عضوا من النواب الذين حضروا جلسة مجلس الشعب، فيما رفضه 91 نائبا، بينما غاب عن تلك الجلسة الهامة 116 عضوا! ورغم أن الدكتور مفيد شهاب كان قد صرح منذ نحو عام عند سؤاله عن مشروع قانون مكافحة الإرهاب الذي تأخر الإعلان عنه، بأنه سواء تم الانتهاء من مناقشة وإقرار قانون مكافحة الإرهاب قبل نهاية مايو عام 2008، أو لم يتم الانتهاء منه، فإن الحكومة ستلغي العمل بقانون الطوارئ بحلول هذا التاريخ، إلا أن عدم الإعلان حتى الان عن موعد محدد لتقديم مشروع القانون الجديد للبرلمان لإقراره، جعل مصادر حكومية رفيعة المستوى تؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن الاتجاه الحالي داخل الحكومة هو لتجديد العمل بقانون الطوارئ لفترة إضافية لحين الانتهاء من صياغة قانون مكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي سيواجه معارضة شرسة من قبل الاعضاء المستقلين من ناحية، والإخوان المسلمين من ناحية أخرى، وبخاصة أن جماعة الإخوان المسلمين يعد كوادرها من أكثر الفئات التي يطبق عليها قانون الطوارئ.

ورغم العلاقة التاريخية الطويلة التي تربط بين المصريين وبين قوانين الطوارئ إلى الحد الذي بات فيه المواطن العادي غير مهتم بالحديث عنها سواء كانت لمكافحة الإرهاب أو لغيره، إلا أنه من المؤكد أن السنوات السبع والعشرين الاخيرة تعد الفترة الأطول في تاريخ مصر التي يستمر فيها تطبيق هذا القانون. فهناك خمس سوابق في علاقة مصر بقانون الطوارئ مع اختلاف النظام، فقد تم تطبيق هذا القانون لأول مرة في الفترة من سبتمبر (أيلول) 1939 إلى أكتوبر (تشرين الاول) 1945، بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، ثم تم إلغاؤه ليعلن العمل به مرة ثانية في الفترة من مايو 1948 إلى إبريل 1950 لاندلاع حرب فلسطين. ثم جاءت المرة الثالثة ليطبق فيها القانون في الفترة من يناير (كانون الثاني) 1052 حتى يونيو 1956. أما المرة الرابعة التي عاشت فيها مصر في ظل قانون الطوارئ فكانت في الفترة من نوفمبر (تشرين الثاني) 1956، إلى مارس (آذار) 1964، نتيجة العدوان الثلاثي على مصر. وجاءت المرة الخامسة عقب هزيمة الخامس من يونيو عام 1967 لتستمر طيلة حكم الرئيس السادات حتي مايو 1980، لتعيش مصر لمدة 15 شهرا بدون قانون طوارئ، حتى أكتوبر 1981، حين اغتيل الرئيس المصري الراحل أنور السادات (1918 – 1981)، ليعلن صوفي أبوطالب رئيس البرلمان الأسبق الذي تولى الرئاسة بشكل مؤقت بعد اغتيال السادات ـ حسب نصوص الدستور المصري ـ العمل بقانون الطوارئ للمرة السادسة في تاريخ البلاد، لحين الخروج بالبلاد من الأزمة التي عصفت بها بوقوع حادثة الاغتيال. وقتها ظن الناس أن القانون لن يطول العمل به لسنوات طويلة وبخاصة بعد استهلال الرئيس حسني مبارك عهده بالإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين زج بهم في المعتقلات في سبتمبر عام 1981 ، ولكن خاب ظن الجميع وظلت الهيمنة لقانون الطوارئ الذي يتكون من 20 مادة فقط، بينما يتضمن مشروع قانون مكافحة الإرهاب، حسبما أعلن الدكتور مفيد شهاب رئيس اللجنة المكلفة صياغة القانون، 58 مادة، وهو ما دفع البعض من المتخوفين منه الى الاعلان بأنه سيكون أكثر تشددا من قانون الطوارئ ذاته ليتلاءم مع الفترة المقبلة عليها مصر والتي من المتوقع أن تشهد تغيرات سياسية.

وفي محاضرة له مؤخرا في جامعة عين شمس، أوضح الدكتور شهاب أن مواد مشروع القانون الجديد تمت صياغتها بعد دراسة التشريعات المقارنة في مجال مكافحة الإرهاب ومقارنة هذه التشريعات بالتشريعات والأنظمة القانونية السارية في مصر بالإضافة إلى مراجعة الإجراءات والتدابير الخاصة بجمع الاستدلالات والتحري والاستعانة بالقانون النموذجي الذي أعدته الأمم المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب ودراسة كافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة، سواء المبرمة في إطار الأمم المتحدة أو جامعة الدول العربية أو الاتحاد الأفريقي أو منظمة المؤتمر الإسلامي. كما أوضح أن مشروع القانون يتناول إلى جانب أحكام التأثيم والعقاب، تدابير للوقاية من الأعمال الإرهابية ومكافحتها، تستجيب للالتزامات التي تفرضها الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وكذلك أحكام التعاون الجنائي الدولي في مجال مواجهة ظاهرة الإرهاب على مختلف الأصعدة الثنائية والمتعددة الأطراف، بالإضافة إلى استيعاب أحكام القانون للنماذج الإجرامية المستحدثة في مجال الأعمال الإرهابية. وعلى الرغم مما قيل عن انتهاك مشروع القانون الجديد لحرية المصريين، الا أن شهاب شدد على أن القانون الجديد يضمن عدم المساس بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية إلا في أضيق الحدود وبالقدر الذي تستلزمه متطلبات أمن المجتمع، موضحاً أن القانون الجديد لمكافحة الإرهاب يتكون من ثلاثة كتب، الأول بعنوان «الجرائم والعقوبات» ويتضمن بعض الأحكام العامة بشأن نطاق سريان القانون من حيث الأشخاص والمكان، وتحديد المقصود بالأعمال الإرهابية وبالمنظمة الإرهابية وتمويل الإرهاب، حتى لا يترك الأمر مبهما بالنسبة للقائمين على تنفيذ القانون أو المخاطبين بأحكامه. وأضاف أن كافة الإجراءات الاستثنائية الواردة ضمن أحكام القانون ستخضع لرقابة القضاء باعتباره ضمانة مهمة لا يمكن التفريط فيها. ويحدد الباب الثاني الجرائم الإرهابية والعقوبات المقررة لها، سواء ما ورد منها في قانون العقوبات أو في القوانين الجنائية الخاصة بالإضافة إلى ما يقتضى الأمر تأثيمه من صور السلوك الأخرى التزاما بالاتفاقيات الدولية واسترشادا بالتشريعات المقارنة. وسيتم من خلال هذا الباب الإحالة إلى جرائم معينة في قانون العقوبات والقوانين الجنائية الخاصة والنص على اعتبارها جرائم إرهابية لغرضها الإرهابي أو لوسيلة ارتكابها. أما الباب الثاني والمعنون بـ«الأحكام الإجرائية»، فيتضمن تناول الإجراءات الاستثنائية بحيث يحال ـ كأصل عام ـ إلى الإجراءات العامة الواردة في قانون الإجراءات الجنائية. أما الكتاب الثالث «التعاون الجنائي الدولي في مجال مكافحة الإرهاب»، فيتضمن بيانا بأحكام صور التعاون الجنائي الدولي كالإنابة القضائية والمساعدة القضائية وتنفيذ الأحكام الأجنبية والاتفاقيات الثنائية وتسليم المتهمين والمحكوم عليهم ونقل المحكوم عليهم في الجرائم الإرهابية.

ورغم تأكيد الدكتور مفيد شهاب أن قانون مكافحة الإرهاب يختلف اختلافا كليا عن قانون الطوارئ الذي يعطي صلاحيات استثنائية واسعة لرئيس الجمهورية أو من يفوضه في ذلك، إلا أن مختلف القوى السياسية أكدت معارضتها سواء لمد حالة الطوارئ أو تمرير قانون مكافحة الإرهاب في البرلمان بدون إشراك القوى السياسية المختلفة في صياغة بنوده أو التباحث بشأنه، ومن بين هؤلاء محمد حبيب النائب الأول لمرشد جماعة الإخوان المسلمين، أكبر فصيل معارض في مصر والذي وصف المقارنة بين قانون الطوارئ وقانون مكافحة الإرهاب بقوله «نحن نعقد المقارنة بين إبليس وشيطان». واعتبر أن كلا القانونين يقيدان الحريات ويعطلان الدستور. ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين من أكثر الفصائل المعارضة التي يطبق عليها قانون الطوارئ، حيث دائما ما يعتقل أفرادها أو تصادر أموالهم. إلا أن حبيب أكد أن الجماعة لا تطالب بإلغاء قانون الطوارئ، وإنما تطالب بوقف العمل به فقط مع الإبقاء عليه، وهو ما يفسره حبيب بقوله: «هذا القانون من المفترض أن يطبق في الحالات الاستثنائية فقط على أن يوقف العمل به فور انتهائها، وبما أننا في مصر لا توجد لدينا حالة استثنائية تبرر فرض قانون الطوارئ المطبق منذ 27 عاما، لذلك نحن ندعو إلى ايقاف العمل به». وطالب حبيب القوى السياسية المصرية ألا تعول كثيرا على مساندة الجماهير لها في حركة الاحتجاج ضد قانون الطوارئ أو قانون مكافحة الحريات، لانشغال الجماهير بالسعي وراء لقمة العيش والدليل، كما قال، اعتصامات عمال غزل المحلة الذين أضربوا عن العمل احتجاجا على تدني أجورهم، لا احتجاجا على سياسات الحكومة المصرية.

أما الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع المعارض، فيرى أنه لا ضرورة سواء للابقاء على قانون الطوارئ أو سن تشريع جديد لمكافحة الإرهاب، وقال: «استطاعت مصر أن تقضي على ظاهرة الإرهاب عندما كانت على أشدها خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، بدون سن تشريعات مقيدة للحريات». ودعا السعيد إلى وقف العمل بقانون الطوارئ ، مؤكدا أن نواب حزبه في البرلمان ـ يمثله عضوان في مجلس الشعب ـ سيرفضان مد العمل بقانون الطوارئ في حالة عرض هذا الأمر على البرلمان في أي وقت. مجدي أحمد حسين الأمين العام لحزب العمل «المجمد» كان له رأي آخر عبر عنه بقوله: «بدلا من أن نبحث عن قانون جديد بديل لقانون الطوارئ، علينا أن نطالب الحكومة بتطبيق قانون الطوارئ أولا». وأوضح حسين أن قانون الطوارئ ينص على السماح للمعتقل بالاتصال بمحاميه وذويه خلال 24 ساعة من اعتقاله، وأن يحقق معه بدون تعذيب، وأن من يفرج عنه لا يجوز اعتقاله ثانية، إلا أنه قال: «كل هذا لا يحدث، فالمعتقل قد يقضي شهورا في السجن قبل أن يسمح له بالاتصال بذويه، كما أن التعذيب يبدأ من لحظة القبض عليه، ومن تقرر النيابة الإفراج عنه تعتقله الأجهزة الأمنية في نفس اليوم». التخوف مما تعده الحكومة من مشروع جديد لمكافحة الإرهاب امتد لنشطاء حقوق الإنسان، ومن هؤلاء بهي الدين حسن رئيس مركز القاهرة لحقوق الإنسان الذي أكد أن قانون مكافحة الإرهاب الذي تعده الحكومة المصرية أسوأ بكثير من قانون الطوارئ المطبق حاليا، مبررا هذا الاعتقاد بقوله: «قانون مكافحة الإرهاب سيحول قانون الطوارئ من حالة طارئة استمرت 27 عاما، إلى حالة اعتيادية تستمر إلى ما شاء الله»، ولهذا فنحن أمام خيارين أحلاهما مر. فهناك جيل كامل على الأقل ولد وعاش في ظل قانون الطوارئ المطبق منذ عام 1981، بكل قيوده على الحريات العامة والتقاضي والحبس والاعتقال».

وعلى النقيض من السياسيين، تأتي غالبية المواطنين في مصر غير مهتمين بالقوانين المطبقة إلا إذا مستهم بشكل شخصي، تاركين السياسة «لناسها» كما يقولون، ولينحصر اهتمامهم في توفير الخبز الذي بات أزمة بحاجة للحل في مصر. وكما يقول صبري الذي يعمل نادلا بأحد مقاهي وسط القاهرة، بأنه لم يعلم بوجود ما يعرف بقانون الطوارئ الا منذ شهرين فقط حينما تم اعتقاله لمدة ثلاثة أيام بدون سبب واضح، رغم الاعاقة الواضحة في يده أثناء عودته من عمله في ساعة متأخرة من الليل، في كمين بوسط القاهرة. وعندما سأل الضابط عن سبب اعتقاله، قال له: «إنه قانون الطوارئ». ويقول صبري: «لم أكن أعرف عن قانون الطوارئ سوى ما جاء في مسرحية «تخاريف» للفنان محمد صبحي في نهاية الثمانينات، عندما تقمص شخصية حاكم أحد البلدان، وطلب من حكومته اعتقال كل من يدعى طارق، وعندما سأله مسؤول بحكومته عن السبب أجاب إنه قانون الطوارئ!».

على النقيض من صبري، نجد أحمد عبد الرؤوف وهو طالب جامعي في العشرين من عمره، لكنه لا يعرف شيئا يسمى «قانون الطوارئ»، فهو «غير مهتم بالسياسة» على حد قوله. ويقول إن لا علاقة له بالقوانين باستثناء قانون المرور الذي يعرفه عن ظهر قلب حتى لا يقع تحت طائلته وهو يقود السيارة. وبين هذا وذاك يأتي الحاج محمد عبد الحميد، سائق سيارة أجرة في نهاية الخمسينات من عمره، تفاصيل وجهه محفور عليها التعب والاجهاد نتيجة لعمله 12 ساعة يوميا لتوفير رزق أولاده، والذي نفث دخان سيجارته المصرية الصنع قبل أن يعبر عن رأيه في قانون مكافحة الإرهاب بقوله: «لا علاقة لي بهذه الأشياء ولا أهتم بها، فأنا هدفي الوحيد هو الجري وراء لقمة العيش، بالإضافة الى أن الحكومة ستفعل ما تريده، أما انا فلا أفكر الا في تدبير نفقات زواج بناتي في ظل هذا الغلاء المستوحش».

صبري وأحمد والحاج محمد، ثلاثة نماذج لملايين المصريين، الذين لا يهتمون بالقوانين السياسية فيما ينصب اهتمامهم على تدبير نفقات المعيشة، وهو ما يرجح أنه أيا كان ما ستفعله الحكومة المصرية من تمديد لقانون الطوارئ أو تمرير قانون مكافحة الإرهاب، فإنه لن يلاقي اعتراضا شعبيا، إلا من بعض الطبقات النخبوية من المثقفين والسياسيين المعارضين.