ثمن الحرية

نسيم نسر اختار الانفصال عن زوجته الإسرائيلية وترك أبناءه وتنازل عن الجنسية الإسرائيلية ليعود إلى لبنان

نسيم نسر بعد اطلاق سراحة (أ.ف.ب)
TT

لا يبذل زائر بلدة البازورية في جنوب لبنان عناء كبيرا ليهتدي الى منزل عائلة الأسير اللبناني نسيم نسر.

أعلام حزب الله الصفراء التي ترفرف على سطح البيت وفي محيطه تبقى الدليل الأيسر الى جانب صور نسيم المعلقة على المدخل والمذيلة بجملة ردّدها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله مرات عدة وهي «نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون». هذه البلدة الهادئة الجميلة بموقعها وطبيعتها الخلابة تتسم بخصوصية تميزها عن باقي قرى الجنوب ليس لشيء الا لأنها مسقط رأس السيد حسن نصر الله، لكن انتماء نصر الله اليها لم يغيّر شيئا من الواقع الحزبي والميول السياسية لأبنائها المعروفين منذ زمن بتنوع انتماءاتهم الحزبية. هذه الانتماءات تظهر جليا منذ أن تطأ قدم الزائر مدخل البلدة، حيث تتنوع وعلى طول الطرق الداخلية الصور والأعلام الحزبية، من تلك الخاصة برئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري «الرجل الأعز: أمة نبيه بري»، وصورة الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الشهيد جورج حاوي، الى صور موسى الصدر والشيخ راغب حرب وأعلام الحزب القومي السوري والبعث العربي الاشتراكي. لا يعكس الدخول الى بيت عائلة نسر المتواضع، حيث تتوزع في غرفه صور حسن نصر الله، جو التشدّد الديني الذي يطبع منازل عناصر الحزب ومعظم مؤيديه. هي عائلة بسيطة بطبيعة حياة أفرادها الذين يحرصون على أن يجتمعوا جميعهم كبارا وصغارا بمن فيهم النسوة لملاقاة زائرهم والتعبير عن فرحتهم بالافراج عن ابنهم الأسير بعد غياب 16 عاما، ويشيرون الى أن تاريخ عائلتهم السياسي كان محسوبا على حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي حين كان زوج عمته أحد اعضاء قيادته القطرية، وكان نسيم أحد مناصريه بعدما انفصل عن صفوف الصاعقة المنشقة عن حركة فتح، وكان له مشاركات دائمة في التظاهرات والتحركات الشعبية من دون أن ينغمس في زواريب الحرب الأهلية كما قال أخوه عمران. أما اليوم فاختلف الوضع تماما واصبح الجميع يعلنون مناصرتهم لحزب الله وهم «فداء السيد حسن نصر الله».

ولد نسيم نسر في 22 نوفمبر(تشرين الثاني) 1967 في بلدة البازورية من أب مسلم شيعي لبناني وأم يهودية، وهو السادس في عائلة مؤلفة من اربع بنات وثلاثة شبان. غادر لبنان الى الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تعيش عائلة والدته، في 27 سبتمبر (أيلول) 1992 بموجب قانون العودة الذي يتيح لكل يهودي في العالم الحصول على الجنسية الاسرائيلية. وكان يهدف من خلال هذه الخطوة الهروب من الحرب اللبنانية وتحقيق حلمه بالهجرة بعدها الى أوروبا أو أميركا سعيا وراء العمل وتأمين المستقبل. لكن ذلك الأمل لم يتحقق وأمضى هناك حوالي عشرة أعوام في منطقة حولوم. تزوج خلال هذه الفترة مرتين من مواطنتين اسرائيليتين من اصل روسي، وهو أب لصبي، 13 عاما، ولابنتين، 10 و7 سنوات، يتكلمون العبرية ولا يتقنون العربية. وكان يعمل دهانا لفترة قبل أن يفتح محلا صغيرا لبيع المواد الغذائية. ويعلّق عمران شقيق نسيم على مسألة زواج اخيه من نساء اسرائيليات قائلا «هذا خياره الشخصي، ونحن لم نكن نعلم بتفاصيل حياته اليومية، كذلك لم نكن في موقع يخولنا أن نقول له ماذا عليه أن يفعل لأن التواصل معه كان شبه مفقود».

اعتقل نسر في 3 حزيران 2002 أي بعد 40 يوميا من وفاة والده، وذلك حين ضبطته السلطات الاسرائيلية يتكلم عبر الهاتف مع مسؤول في حزب الله، وفرضت عليه مراقبة مشددة الى أن ألقت القبض عليه. وخلال المحاكمة لم تثبت الأدلة أن نسر نقل الى قيادة الحزب أي معلومات عسكرية مهمة فاكتفت المحكمة الاسرائيلية باصدار حكم بحقه يتهمه بالتعاون مع جهة معادية، ليسجن لمدة ست سنوات امضاها في سجن مدني انفرادي انتهت منذ حوالي شهر. وكانت طبيعة سجنه المدنية تطرح سؤالا عن جدية اتهام نسر ومدى علاقته بحزب الله، خصوصا ان المتهمين بالعمالة يوضعون في سجن عسكري وتطبق عليهم احكام عسكرية. أمضت عائلة نسر سنوات الانتظار وهي تتواصل مع ابنها المعتقل نادرا عبر الهاتف أو عبر الصليب الاحمر اللبناني، فلم تكن تعلم ما اذا كانت سنوات سجن ابنها ستنتهي قريبا أم ان اسرائيل ستمددها. كانوا يكتفون بما يعلنه أمين عام حزب الله في خطاباته في ما يتعلّق بملف الأسرى. وهم يعتبرون ان الافراج عن نسيم ليس نتيجة طبيعية لانتهاء مدة عقوبته بل هو ثمرة من ثمار جهود الحزب، «لأن من الممكن أن تمتنع اسرائيل عن اطلاق سراحه اذا شاءت ولا شيء يمنعها من القيام بذلك.

16 سنة مرت والسيدة فالنتين صايغ لم تلمح وجه ابنها. هذه السنوات الطويلة التي تعكسها تجاعيد وجهها لم تغير من عاطفة الأم شيئا، بل ان شوقها لرؤية ابنها يتضاعف يوما بعد يوم وتختصره مقولة «ان الغائب يبقى أعز الابناء الى أن يحضر». منذ لحظة معرفتها بخبر اطلاق سراح ابنها لم يغمض لها جفن، وبقيت طوال الوقت منشغلة بالتحضير لاستقبال نسيم. أفرغت له غرفتها الخاصة وأحضرت له سريرا جديدا ولم تسمح لاحد ان يستخدمه غيره، كما أبقت على الصور التي تجمعها مع والد نسيم الحاج موسى معلقة على الجدران. وتقول «ينتابني شعور الاسى والحزن لأن زوجي توفي قبل أن يرى ابنه الذي دخل البيت ولم يجد اباه بانتظاره. كان حتى آخر لحظة من حياته يحمل كل يوم صورة نسيم ويخرج بها الى الشرفة ليتمكن من رؤيته بوضوح تحت أشعة الشمس».

هذه الغصة انسحبت بالتأكيد على نسيم الذي زار جبانة البلدة لقراءة الفاتحة على روح والده يوم الافراج عنه قبل أن يقصد بيت العائلة في البازورية، حيث كان أبناء المنطقة بانتظاره للاحتفال به. وترفض أم عمران أن يقال عنها انها يهودية وتؤكد «أنا مسلمة شيعية جعفرية منذ أكثر من 55 عاما». أحبت ابن جيرانها المسلم حين كانت تعيش مع عائلتها في منطقة وادي أبو جميل في بيروت. تزوجته من دون رضا أهلها وخصوصا والدتها التي تصفها بالمتعصبة، ولكن لم يبد أهل زوجها أي اعتراض على الموضوع. وكان الحاج موسى يمازح أبناءه قائلا لهم «والدتكم خطفتني وأخذتني أسيرا». عقدت قرانها على يد شيخ شيعي ولم تكن قد بلغت الـ 18 ما اضطرها الى الانتظار سنة وخمسة أشهر قبل أن تتمكّن من تسجيل زواجها في الدوائر الرسمية، ليعلن بعدها والدها رضاه عن هذا الزواج بعدما تصالحت معه.

ربّت أولادها على الطريقة الاسلامية، ارتدت الحجاب وتنتظر قدوم نسيم لأداء مناسك الحج، «كل مشاريع العائلة مؤجلة بانتظار اطلاق سراحه». قطعت علاقتها بأخواتها وأهلها منذ عشرات السنين وتعتبر أنهم لم يساعدوا ابنها خلال وجوده في فلسطين المحتلة، كما قطعوا علاقتهم به عندما عرفوا أنه على علاقة مع حزب الله. تصف فالنتين ابنها بالشاب المقدام الذي لم يكن يتوانى عن مساعدة الآخرين. الحرب اللبنانية لم تتح له استكمال دراسته ووصل فقط الى الصف الرابع الابتدائي ليعود بعدها ويعمل مع والده في مطعم للفلافل في قريته. وتقول عنه «يتميز بروحه المرحة. الضحكة لم تكن تفارق شفتيه. كان يحب أن يلعب كرة القدم، ويولي مظهره الخارجي اهتماما واضحا. وقع في حب إحدى فتيات القرية وكاد ينتحر من أجلها. ويجمع اخوته على انه لم يكن شابا متدينا، الامر الذي تغير عند دخوله المعتقل حيث اصبح يؤدي فروض الصلاة ويطلب من أخواته ارتداء الحجاب.

برزت قضية الاسير اللبناني نسيم نسر الى العلن عام 2004 اثر اتمام عملية تبادل الاسرى الأخيرة بين حزب الله واسرائيل التي رفضت الافراج عنه معتبرة اياه مواطنا اسرائيليا لا يحق لحزب الله التفاوض بشأنه. عندها تقدم نسر الى المحكمة الاسرائيلية بطلب اسقاط الجنسية الاسرائيلية عنه، ولكن طلبه لم يلق استجابة سريعة بل ان السلطات الاسرائيلية حاولت استعمال ابنته الصغرى ورقة ضغط عليه بعدما رفض البقاء في فلسطين المحتلة رغم الاغراءات والتقديمات التي عرضت عليه. وأتت هذه الضغوط أيضا من زوجته التي خيّرته بين التخلي عن الجنسية الاسرائيلية وبين اولاده وزواجه لأن القانون الاسرائيلي يعطيها الحق في تقرير مصيرهم. لكنه بقي مصرا على العودة الى لبنان واضطر الى الانفصال عن زوجته فوافقت عندها المحكمة العليا الاسرائيلية على طلبه وسحبت منه الجنسية. وأعلن يوم وصوله الى لبنان أنه اتفق مع زوجته السابقة على لقاء ابنتيه كل فترة خارج فلسطين المحتلة. في 27 أبريل (نيسان) الماضي أعلن خبر اطلاق سراح نسر في الأول من مايو (ايار) من دون أن يذكر أحد الطرفين اللبناني والاسرائيلي ان اطلاقه يأتي ضمن عملية تبادل. وفي حين أوحى بعض المسؤولين الاسرائيليين أن الافراج عن نسر جاء بمثابة بادرة حسن نية لتسهيل المفاوضات مع حزب الله، اعتبرت الجهات القضائية الاسرائيلية أن هذه الخطوة أتت بمعزل عن المحادثات بشأن صفقة التبادل، الأمر الذي طرح أسئلة حول دور حزب الله في هذه القضية خصوصا أن الافراج يأتي بعد انتهاء فترة عقوبة نسر بشهر واحد. عند الساعة الثانية عشرة من ظهر الاحد الماضي وصل نسر الى لبنان عن طريق معبر الناقورة على الحدود اللبنانية الفلسطينية بواسطة الصليب الأحمر اللبناني، ونظم له حزب الله احتفالا بالمناسبة في غياب الحضور الرسمي اللبناني، واستقبله استقبال الأبطال بعدما أدى عناصر من الحزب له القسم والتحية العسكرية وقال عنه مسؤول منطقة الجنوب في حزب الله الشيخ نبيل قاووق «نسر المعتقلين الذي أطلقه نسيم المقاومة» من دون اي توضيح لدور نسر في العمل والتجسس لصالح المقاومة. لكن «المفاجأة المدروسة» كانت أن حزب الله سلّم الصليب الاحمر في اللحظة الأخيرة صندوقا يحتوي على أشلاء لمقاتلين اسرائليين قتلوا في حرب يوليو (تموز) 2006، الأمر الذي غيّر مسار العملية من مجرّد تسليم الى تبادل من دون اعلان مسبق. وهكذا يبدو أن الافراج عن نسر الذي كان اسمه مدرجا على قائمة التبادل سيفتح الباب واسعا أمام عملية التبادل الكبرى والمنتظر أن تضم عميد الأسرى اللبنانيين سمير القنطار، وهي بذلك خطوة لتعزيز الثقة بين الطرفين المعنيين لتعبيد الطريق أمام «الصفقة الكبرى». تتمنى السيدة أم عمران أن ينخرط ابنها الذي أكد أنه سيتابع طريق المقاومة رغم كل ما تعرّض له، في صفوف حزب الله. فهي لا تكف عن ذكر السيد حسن نصر الله الذي تعتبره فخرا للبنان ورمزا للمقاومة ولولاه لم يفرج عن ابنها وعن كل الأسرى. تشكر الله على رؤية ابنها بعد طول غياب وتطلب من الله أن تنعم أمهات الأسرى بملاقاة أبنائهن في أقرب وقت.