«مفاوضات الجوع».. على طاولة الأثرياء

زعماء 45 دولة يناقشون في روما صباحا كيفية استئصال الجوع في العالم ويستمتعون بأطيب الطعام الإيطالي الفاخر مساء

اطفال من بنغلاديش يتشاركون طبقا من الارز على رصيف احد شوارع العاصمة دكا (رويترز)
TT

كان زعماء 45 دولة يتناقشون في قمة الأمن الغذائي في روما في الصباح ويحللون أسباب الغلاء وارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 56 في المائة خلال الأشهر الماضية الذي وضع حدا للغذاء الرخيص وكيفية استئصال شأفة الجوع في العالم ثم يستمتعون بأطايب الأكل الايطالي الفاخر في المساء. القمة التي دعت اليها منظمة الأغذية والزراعة للامم المتحدة (الفاو) جاءت في اللحظة المناسبة وعقدها في هذا الوقت يمثل انجازا كبيرا بعد تضخم الأسعار ونقص انتاج الحبوب وزيادة أسعار النفط وكوارث تقلبات الطقس بين الجفاف والفيضانات وتحويل الذرة وقصب السكر الى وقود للسيارات وكانت السياسة الدافع الأول لعقد مثل هذا الاجتماع وخوف الكثيرين من حدوث الاضطرابات والثورات والاطاحة بالحكومات فمن كان يشتري كيسا من الارز في الدول الفقيرة لم يعد بمقدوره سوى شراء كأس واحد. وقد حضر القمة التي ختمت أعمالها (مساء الخميس 5 يونيو) قادة ورؤساء 45 دولة من مختلف القارات وعدد قياسي يقارب 1700 صحافي وآلاف من رجال الأمن الايطاليين كانوا في حراسة مشددة للوفود. المؤتمر كان فرصة لمتابعة السياسة الدولية عن كثب وكيف تتأثر وتتفاعل الاعتبارات المحلية والضغوطات المصلحية مع الاستراتيجيات الدولية وتطورات عهد العولمة وقوى الدول العظمى والحكومات المانحة ومنظمات المجتمع المدني. نجوم المؤتمر كانوا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي ورئيس الوزراء الاسباني خوزيه لويس زاباتيرو مع غياب ممثلين على هذا المستوى الرفيع من بريطانيا والمانيا وحتى ايطاليا التي افتتح رئيس جمهوريتها جورجيو نابوليتانو المؤتمر وشاركه رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني خاصة في نطاق المراسم ودعوات العشاء الرسمية. مّثل اليابان رئيس وزرائها ياسو فوكودا لكن الولايات المتحدة اكتفت بحضور وزير زراعتها أرشيبالد شيفر، وكان نجما المؤتمر في الهجوم والتحدي الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد الذي قاطعه الساسة الايطاليون كليا وكذلك بابا الفاتيكان ورئيس زيمباوي روبرت موغابي المحكوم عليه بالمقاطعة من قبل الدول الغربية أما رئيس السنغال عبد الحي واد فقد هاجم المدير العام للفاو جاك ضيوف السينغالي ومنظم المؤتمر فيما يبدو أنها مماحكة محلية حول انتخابات الرئاسة المقبلة في السنغال. الرئيس المصري حسني مبارك استهول قضية الوقود الحيوي وكيف تحول البرازيل منتوجها الزراعي الى محروقات بينما اعتبر الرئيس البرازيلي لويس لولا ذلك حقا من حقوق السيادة وبدا مبارك أكثر اهتماما بالزيارة الرسمية لايطاليا بعد القاء خطابه.

تجارة الغذاء: وصلت أسعار المواد الغذائية مؤخرا الى أعلى مستوى منذ ثلاثين سنة واقترح ضيوف اعادة الاهتمام بالزراعة وتعبئة الموارد التي لا تقل عن 30 مليار دولار سنويا لحل مشكلة الغلاء والجوع مطالبا بالأفعال لا بالأقوال وكذلك طالب رئيس البنك الدولي روبرت زوليك بالأفعال المحددة وبحرية التجارة وإزالة العوائق لكنه أغفل دور السياسة والشركات المتعددة الجنسيات. اتهم بان كي مون الحكومات بالرضا عن أسعار المواد الغذائية الرخيصة لسنوات طويلة وغض النظر عن السياسات الخاطئة التي تقود الى الفقر والجوع حتى وصلنا «الى منعطف خطير الآن» بينما اتهم الرئيس الايراني انخفاض قيمة الدولار وزيادة أسعار الطاقة لتوفير تكاليف الحروب بأنها مخطط مصطنع للأيادي الخفية التي تسيطر على الأسعار. ساسة العالم محترفون لتلك المهنة وأغلبهم فاز بالانتخابات وكلامهم المنطقي الجيد بدا موجها لشعوبهم أولا لكن الجميع اتفق على أن العالم وصل الى مفترق طرق انما الحل النهائي لن ينطلق من مقررات روما بل سيسافر الى اليابان بعد شهر حين تعقد قمة الثماني G8 وبعدها سيطوف الكرة الأرضية ليعاد بحثه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر (ايلول) المقبل. ضيوف يفكر مثل المزارعين بضرورة زيادة زراعة الأراضي وغرس النبتات في بدء الخريف حتى لا يضيع الموسم المقبل ويطلب من الدول المانحة أكثر من مليار ونصف من الدولارات للفاو لدعم شراء البذور والأسمدة في الدول النامية لكن تمرير الاجندة الدولية واستصدار القرارات سيأخذ وقتا أطول من ذلك علما بأن نقطة البداية ستنطلق من مقررات روما وعلى شركات وتجار الغذاء وأسواق المضاربات على السلع الزراعية أن تنتظر المؤشرات الحقيقية في الأشهر القادمة وتقييم العرض والطلب وتراجع الاستيراد قبل تحديد الأسعار.

زوبعة نجاد: حفلت زيارة الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد الى روما بالأحداث والاستفزازات، فقد استبق زيارته بالهجوم الشديد على اسرائيل والولايات المتحدة وتنبأ بزوال كل منهما ثم كرر نفس الخطاب التصادمي في مؤتمره الصحافي الذي عقده في العاصمة الايطالية داخل منظمة الفاو وكأنه جاء في مهمة سياسية بحتة ولم يتردد في الإجابة على اسئلة الصحافيين الاسرائيليين مستغربا كيف يقبلون بظلم الفلسطينيين ثم يتساءلون لماذا تصبح اسرائيل مكروهة، وأكد أن ايران تريد السلام وأن «أدبياتها تتحدث دوما عن الصلح والمحبة» وحين سئل عن تصفية العلاقات مع اميركا بعد انتخاب رئيس جديد أجاب بأن ايران تمد يدها لمن يريد السلام والصداقة لكنه أضاف «الويل لمن يحاول أن يهاجمها». الحكومة الايطالية كانت محرجة من زيارة نجاد وقاطعت الزيارة وصرح وزير الداخلية الايطالي روبرتو ماروني بأن تصريحات الرئيس الايراني «جمدت الدم في العروق وأثارت القلق في الديمقراطيات الغربية» أما وزير الخارجية السابق اليساري ماسيمو داليما فأعلن أن تصريحات أحمدي نجاد بررت موقف الجهات الرسمية التي لا تريد لقائه، لكن الرئيس الايراني لم يبدو مهتما بما يجري فقد هاجم «القوى الشيطانية» التي تعمل داخل الأمم المتحدة ثم التقي مجموعة كبيرة من رجال الأعمال والصناعيين الايطاليين في فندق الهيلتون ودعاهم الى زيادة استثماراتهم في ايران موضحا «أن ايران هي أكثر دول العالم أمانا والشريك الاقتصادي الأول لايطاليا أما كلام الولايات المتحدة فهو مجرد دعاية فارغة». السياسي الايطالي الوحيد الذي التقى أحمدي نجاد كان روبرتو فيوري زعيم احد التنظيمات الفاشية الصغيرة الجديدة المعارضة لخط الحكومة الايطالية اليمينية أما الصحافي أحمد رفعت من أصل ايراني فلم يتمكن من حضور المؤتمرات الصحافية لأن رجال الأمن الذين يعرفون معارضته للوضع القائم في ايران منعوه من الدخول خشية اثارة أزمة جديدة مع أحمدي نجاد.

العالم ليس للبيع: اتضح بعد ثلاثة أيام من المناقشات أن الدول الصناعية والنامية متفقة على تشخيص الوضع الراهن لكن ليست لدى الجميع رؤية عالمية واحدة وأن مسألة الوقود الحيوي تتطلب المزيد من المشاورات بعد أن عرقلت الموافقة عل البيان النهائي للقمة وأن السياسات الداخلية والخارجية لأقطاب المؤتمر تلعب دورها ولا يستطيع أحد أن يبيع العالم أو يستغفله، فالولايات المتحدة تعتقد أن الحل على المدى القصير يكمن في زيادة المعونات الغذائية الطارئة للدول الفقيرة المتضررة خاصة في افريقيا وفي المدى البعيد ربما تحل المنتجات الزراعية المعدلة وراثيا قضية الجوع ونقص التغذية، أما فرنسا فقد أعلنت زيادة معوناتها الى مليار يورو (مليار ونصف دولار) هذا العام لمواجهة نتائج تضخم أسعار المواد الغذائية وظهر أن كلا من البرازيل والولايات المتحدة على غير استعداد لوقف انتاج الوقود الحيوي من الذرة والمحاصيل الزراعية. الجميع يعترف بان الأزمة الحالية ليست من النوع العابر لكن عدم التوازن بين العرض والطلب نتيجة تحول الملايين في الصين والهند نحو استهلاك اللحوم لأن كل كيلوغرام من اللحم يستوجب استخدام 7 كيلوغرامات من الحبوب قد يكون فرصة للمنتجين للربح انما المشكلة هي أن المزارعين في البلاد الفقيرة مستهلكون ايضا ولا توجد لديهم الموارد المالية الكافية لشراء الأغذية بأسعارها المرتفعة. من سيكون الرابح أو الخاسر من الأزمة الحالية: الشركات الكبرى التي تبيع المواد الغذائية أم المزارعون الصغار؟ وهل ستتنازل الامم الغنية فعلا لصالح البلدان الأشد فقرا؟

هل ستنفذ توصيات قمة الأمن الغذائي وتتأقلم السياسة الدولية مع الوضع الجديد أم ستبقى مثل قرارات القمة الأولى التي نظمتها الفاو عام 1996 بحضور أكثر من مئة رئيس ووعدت بإنقاص عدد الجوعى من 850 مليونا الى نصف هذا العدد والآن نرى أن الخطر يحدق بمائة مليون نسمة من الجائعين الجدد ليصل العدد النهائي الى 950 ملين شخص فالدول المانحة قلصت من معوناتها الخارجية فعليا بدلا من أن تزيدها كما وعدت. التفاؤل كان يسود أجواء القمة الحالية لكننا لن نعرف اذا كانت الأفعال قد استبدلت الأقوال قبل حلول العام القادم، واذا لم يتم أي تقدم فقد نبهنا بان كي مون الى أن سكان العالم سيزيدون على 7 مليارات نسمة بحلول عام 2030 ومن الضروري زيادة الانتاج الغذائي بنسبة 50 في المائة والا هل سينتظر الجياع الموت البطيء دون اللجوء الى العنف وهل سيجد حتى الأغنياء صعوبة في توفر الغذاء القابل للشراء أم أن زيادة الاهتمام بالزراعة والثورة الخضراء الموعودة في افريقيا ستكون بداية صحوة دولية وأنه «لا داعي للثورة فالبطيخ متوفر للجميع».