المغرب على الخط

خارطة الإرهاب في المغرب منذ 16 مايو 2003: هيمنت عليها نظرية «الدومينو» وغابت فكرة «الفقر المسالم»

TT

عندما أعلنت السلطات المغربية تفكيكها لخلية إرهابية في الناضور وفاس منتصف شهر مايو (أيار) الحالي، فإن ذلك جاء استمرارا لمسلسل طويل بدأ منذ التفجيرات الدامية ليوم 16 مايو 2003، التي أودت بحياة 45 شخصا في عدد من مناطق الدار البيضاء، وبدت تلك التفجيرات وكأنها حادث غريب عن الواقع المغربي، المتسم بكثير من الهدوء والاستقرار، وهو الهدوء الذي اصطلح على تسميته قبل تلك الأحداث باسم «الاستثناء المغربي». كانت تلك التفجيرات وداعا حقيقيا لفترة استقرار وسط بحر من أعمال العنف في منطقة شمال أفريقيا، حيث كانت الجزائر ولا تزال هدفا لعمليات مسلحة دامية بدأت منذ إلغاء العملية الانتخابية عام 1991، التي كانت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» على وشك الفوز بها، واستمرت أعمال العنف إلى اليوم، بعد أن دخل تنظيم «القاعدة» على الخط، وأصبح يوقع الهجمات الحالية باسمه، بعد أن كانت العمليات السابقة توقع باسم جماعات جزائرية بنسبة مائة في المائة.

تونس بدورها لم تسلم من هجمات مسلحة كان أبرزها الهجوم الذي تعرض له المعبد اليهودي «الغريبة» في جزيرة جربة التونسية، وهو معبد تعوّد سياح يهود على زيارته كل عام، حيث يوجد مرقد احد قديسيهم. وغير بعيد عن تونس هناك مصر وبلدان عربية أخرى كثيرة عانت من العنف السياسي طويلا، قبل أن يصل لظاه إلى المغرب، لتنطبق نظرية «من المحيط إلى الخليج»، لكن بطريقة محزنة هذه المرة. وإذا كان «الاستثناء المغربي» قد توقف بشكل دراماتيكي في مايو 2003، فانه منذ ذلك التاريخ أصبح الوضع شبيها بقطع «الدومينو»، حيث أن كل عملية تفكيك لشبكة إرهابية معينة تكشف عن شبكة أخرى، وكل متهم يعتبر خطيرا يكشف عن متهم أخطر منه. هكذا كانت المسافة الزمنية الفاصلة بين 16 مايو 2003 و19 مايو 2008 حافلة بتفكيك شبكات كثيرة، بعضها نجحت في تنفيذ عملياتها، أو جزء منها على الأقل، والأخرى كانت تعد لذلك، حسب المعلومات التي توردها السلطات المغربية.

ومنذ وقوع تفجيرات الدار البيضاء قبل ثماني سنوات، أعلن الأمن المغربي عن تفكيك عدد كبير من الخلايا التي وصفها بالإرهابية، وهي خلايا إما أنها كانت موضع شبهات ويمكن أن تعد لأعمال عنف، أو أنه تم ضبطها في حالة الإعداد لذلك، أو أنها نفذت بالفعل تفجيرات دامية. آخر هذه الشبكات التي تم ضبطها تضم 11 شخصا، وفق مصادر رسمية مغربية، كان يشتبه في تخطيطها لضرب مصالح تابعة للاتحاد الأوروبي، وفندق شيراتون في العاصمة البلجيكية بروكسل.

وأعضاء هذه الشبكة يعكسون بشكل عام خارطة باقي أعضاء الشبكات التي تم تفكيكها في المغرب خلال السنوات الست السابقة، فأحد أعضائها مهاجر في بلجيكا، وآخر من مدينة الناضور (شمال)، وآخر من مدينة فاس، وهي واحدة من أعرق وأكبر المدن المغربية. إن وجود مهاجرين بين أفراد هذه الشبكات أصبح شيئا مألوفا. ولعل المثال الأبرز على الثقل الذي شكله أفراد من شمال البلاد، هو التفجيرات التي عرفتها قطارات العاصمة الإسبانية مدريد في 11 مارس (آذار) 2004، حيث كانت النسبة الأكبر لمدن شمالية مغربية مثل طنجة وتطوان. وفي سياق ذلك، تعودت التقارير الأمنية المغربية أيضا على ربط كل شبكة يتم الكشف عنها بالشبكة التي سقطت من قبل، لذلك فإن آخر شبكة أعلن عن تفكيكها كانت على علاقة بمحمد الرحا، الذي سبقت إدانته من قبل بتهمة الإرهاب، وهو أيضا مهاجر في أوروبا، ويحمل الجنسية البلجيكية.

ومنذ تفجيرات 16 مايو 2003، فإن الشبكات التي تم الكشف عنها أو تفكيكها تتموقع على شكل قطع دومينو. أحيانا تقترب أو تتباعد هذه القطع، لكن هناك صلات شبه دائمة بين أفرادها. وفي منتصف فبراير (شباط) الماضي أعلنت السلطات المغربية عن تفكيك شبكة وصفتها بـ«الإرهابية»، وهي شبكة عرفت في ما بعد باسم «شبكة بلعيرج»، نسبة إلى اسم مهاجر مغربي يعيش في بلجيكا، اتهم بإدخال أسلحة الى المغرب، وتجنيد أشخاص من داخل المغرب وخارجه، هذه الشبكة أيضا تم ربطها بشبكات سبقتها. يقول محمد ضريف، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية في المغرب، انها ستكشف ألغاز العملية المسلحة، التي عرفها المغرب في وقت مبكر من قبل، أي في سنة 1994، عندما اقتحم مسلحون فندق أطلس أسني في مدينة مراكش (جنوب)، وقتلوا وجرحوا سياحا من اسبانيا، وهي عملية قالت السلطات المغربية وقتها إنها كانت مدبرة من الخارج، ولا امتدادات داخلية لها.

الإعلان عن تفكيك شبكة بلعيرج أصاب الكثيرين بالدهشة، بالنظر إلى أن أعضاء في هذه الشبكة لم يكونوا سوى شخصيات حزبية بارزة، من بينهم قياديون من حزب «البديل الحضاري»، المعروف بمواقفه الوسطية، بل أيضا بميولات بعضهم نحو اليسار، إضافة إلى وجود أسماء أثارت الكثير من التساؤلات مثل مراسل قناة «المنار» اللبنانية، التابعة لحزب الله. ودفع الكشف عن هذه الشبكة الحكومة المغربية إلى سحب رخصة «البديل الحضاري»، التي حصل عليها قبل وقت قصير فقط، أي في سنة 2006. غير أن الإعلان عن تفكيك شبكة بلعيرج، واعتقال قيادة حزب «البديل الحضاري»، جعل الصحافة المغربية وجمعيات من المجتمع المدني تلقي تساؤلات كثيرة حول مصداقية الرواية الرسمية، وتسم القرار الحكومي بحل هذا الحزب بأنه «متسرع ولم يستند الى حكم القضاء».

وقبل الكشف عن شبكة بلعيرج، التي وصفها محللون بأنها ذات ميول شيعية، كان المغاربة على موعد مع الكشف عن شبكة أخرى هي شبكة «أنصار المهدي»، التي يحيل اسمها أيضا إلى إمكانية وجود ميول شيعية لدى أعضائها، حتى إن كانت طبيعتها لا تشي بميل نحو التشيع، إن لم يكن العكس تماما.

تفكيك «أنصار المهدي»، أكد بدوره نظرية «قطع الدومينو» في مجال خارطة الشبكات الإرهابية في المغرب، حيث أن قائد هذه الجماعة حسن الخطاب، المحكوم حاليا بالسجن مدة ثلاثين سنة، سبقت إدانته من قبل بالسجن مدة سنتين في قضية الشبكة التي نفذت أول التفجيرات في المغرب سنة 2003. وحين خرج من السجن بعد قضاء فترة العقوبة، عمل على تشكيل شبكة أخرى مختلفة في طبيعتها وأهدافها. وحسب تقارير الأمن المغربي، فإن شبكة «أنصار المهدي» استطاعت أن تخترق، ولو بشكل محدود، صفوف الجيش والشرطة، كما أنها استطاعت استقطاب أفراد من مستويات اجتماعية جيدة، على عكس الخلايا السابقة التي كانت تضم في الغالب أشخاصا مما يعرف باسم «قاع المجتمع»، أو من العاطلين أو ذوي الوظائف والمهن المتواضعة.

لكن رواية اختراق الأجهزة العسكرية من طرف «أنصار المهدي» تجد الكثير من المشككين في صحتها، بل ذهب البعض إلى اتهام الخطاب نفسه بأنه «جاسوس مدسوس» في صفوف الإسلاميين المغاربة، خصوصا التيارات المتشددة، وأن كل ما يفعله هو تجنيد أفراد والكشف عنهم للسلطات بعد ذلك.

وتطرح قضية المستويات الاجتماعية والمهنية لأفراد الشبكات الإرهابية في المغرب، سؤالا آخر حول طبيعة خارطة هذه الشبكات، التي أصبحت، بعد ثماني سنوات من أول عملية إرهابية في البلاد، تطرح أسئلة ملحة حول النمو المطرد للمستوى الاجتماعي والمادي لأفرادها.

كانت الأغلبية الساحقة من منفذي تفجيرات الدار البيضاء 2003 من سكان أحياء فقيرة جدا، إن لم تكن معدمة، بل إن العاهل المغربي الملك محمد السادس نفسه، أعطى أوامر سريعة بإعادة هيكلة ضواحي المدن الكبرى، وبالخصوص ضواحي مدينة الدار البيضاء، في محاولة للقضاء على مدن القصدير، التي تخرج منها أغلب الانتحاريين، والتي كانت عبارة عن ممالك صغيرة يمارسون فيها قوانينهم الخاصة. وبعد أحداث 2003، قفزت إلى الواجهة الإعلامية أسماء أماكن لم يكن الكثيرون يسمعون بها، مثل دوارالسكويلة، وهو مدينة صفيحية في ضواحي الدار البيضاء، وكاريان طوما، وهي حارة كبيرة في ضواحي نفس المدينة، حيث تسكنها المئات من الأسر المعدمة، والشيء نفسه ينطبق على ضواحي مدن أخرى، مثل فاس والرباط وطنجة، وغيرها من المدن التي أصبحت تخرج العشرات من أفراد شبكات العنف في البلاد.

هذه المناطق البائسة، وعلى الرغم من أنها كانت تعتبر دوما براميل بارود حول المدن، إلا أنه لم يسبق أن نظر إليها المسؤولون المغاربة نظرات توجس، استنادا الى نظرية «الفقر المسالم» في المغرب، وهي نظرية شائعة كان الكثيرون يؤمنون بمصداقيتها، على اعتبار أن ضواحي المدن الفقيرة كانت تتحرك فقط، أو بعضها على الأقل، بين الفينة والأخرى خلال اضطرابات اجتماعية، مثل مناسبات الإضرابات العامة، التي تدعو لها الاتحادات العمالية، وأحيانا بعد الإعلان عن زيادات في أسعار المواد الاستهلاكية، بل حتى أعمال الشغب المرتبطة بنتائج مباريات كرة القدم.

لكن هذه النظرة النمطية للمستويات الاجتماعية لأفراد الشبكات الإرهابية، أو على الأقل تلك التي تصفها السلطات المغربية بانتهاج أسلوب العنف، ستتغير بعد أحداث 2003، وأصبح المغاربة يفاجأون من كون شبكة واحدة يمكن أن تضم بائع بيض، ومهندس دولة، وإسكافيا، وتاجرا كبيرا، ومثقفا إلى جانب شخص أنهى بالكاد مرحلة تعليمه الابتدائية. وفي خلية بلعيرج مثلا، توجد أسماء لامعة مثل المرواني والمعتصم والركالة، وفي الوقت نفسه أشخاص من دون أي مستوى تعليمي، إضافة إلى بلعيرج، الذي حملت الخلية اسمه، والذي يشار إليه على أنه الاسم الأقوى والأخطر في الشبكة، وله امتدادات استخباراتية في أوروبا، حيث يشار إليه ايضا كونه عميلا سريا للمخابرات البلجيكية، وسبق له أن نفذ عددا من عمليات الاغتيال فوق التراب البلجيكي، لكنه ظل ينفي هذه التهم باستمرار، ويقول عن الأسلحة التي تم ضبطها من طرف السلطات المغربية، أدخلت الى المغرب منذ أوائل عقد تسعينات القرن الماضي، وكان الهدف منها هو تحويلها الى الجماعات المسلحة الجزائرية التي كانت تقاتل الدولة الجزائرية، أو على الأصح الجنرالات الجزائريين، بعد توقيف المسلسل الانتخابي الذي كان سيحمل الإسلاميين إلى الحكم قبل حوالي 20 عاما.

وتقول أمينة بوعياش، رئيسة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، لـ«الشرق الأوسط»، إنه لا يمكن الجزم بأن وجه الإرهاب في المغرب يتغير، أي أنه يتحول من استقطاب من هم على الهامش في المدن الفقيرة إلى استقطاب أشخاص من ذوي مستويات اجتماعية متميزة، لأن الذين وجهت إليهم التهم اخيرا في قضايا الإرهاب، مثل خلية بلعيرج، هم أبرياء على أن تفصل العدالة في قضاياهم، وأن قضية خلية بلعيرج، التي يوجد من بين أفرادها قياديون حزبيون وأشخاص ميسورون ماديا، تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عنها، وأنه لا يمكن الجزم في هذه القضية إلى أن تقول العدالة كلمتها.

وتضيف بوعياش أن جهاز القضاء في المغرب يجب أن يكون قويا، وأن يرد الاعتبار للذين تثبت براءتهم. وحول حجم الاعتقالات التي جرت في المغرب بعد العمليات الإرهابية، والتي قدرت بالآلاف، ومدى توافقها مع حجم التهديدات الإرهابية التي تعرض لها المغرب، قالت بوعياش إنه لا توجد لديها ولا لدى المنظمة المغربية لحقوق الإنسان أو منظمات حقوقية أخرى صورة واضحة عن طبيعة التهديدات التي يتعرض لها المغرب، مشيرة إلى أن كل العمليات التي حدثت في المغرب أو في الخارج من قبل فاجأت الجميع، مثل أحداث 11 سبتمبر (ايلول) في الولايات المتحدة، وتفجيرات 16 مايو 2006 في المغرب، وتفجيرات القطارات في 11 مارس 2004 في العاصمة الإسبانية مدريد.

وتؤكد بوعياش أن الأساس في كل ما جرى هو احترام حقوق الإنسان واعتماد مبدأ البراءة إلى أن تثبت التهمة.

ومن جانبه، يرى محمد ضريف، الباحث المغربي في شؤون الحركات الإسلامية، ان بنية الشبكات الإرهابية في المغرب، كما هو الحال في باقي بلدان العالم العربي، يمكن ان تتغير باستمرار وتستقطب أفرادا من كل الطبقات.

وحول تناسب حجم الاعتقالات مع طبيعة التهديدات، يقول ضريف إن هناك تجاوزات حدثت بالتأكيد في معالجة موضوع الإرهاب في المغرب، وان العاهل المغربي الملك محمد السادس نفسه أشار إلى هذه التجاوزات في حوار أجرته معه صحيفة «إيل باييس» الإسبانية سنة 2005. ان ما يثير الانتباه أيضا في خارطة الجماعات المتشددة أو الإرهابية في المغرب، هو الانتماء الجغرافي لأفرادها. ويكفي النظر حاليا إلى مئات المعتقلين في قضايا الإرهاب في المغرب، والذين يتوزعون على عدد من السجون المغربية، ليتم اكتشاف أن نسبة كبيرة منهم تنتمي للمنطقة الشمالية للمغرب. إن وجود أعضاء من منطقة شمال المغرب أصبح بدوره شيئا مألوفا بالنظر إلى أن هذه المنطقة ظلت تشكل على الدوام قلعة محافظة تختلف في الكثير من تقاليدها عن باقي مناطق المغرب. كما أن وجود أشخاص من مدن مغربية كبرى مثل الدار البيضاء أو فاس أو مراكش أصبح بدوره معتادا.

لكن بغض النظر عن القناعات، فإن المهاجرين المغاربة الذين أضحوا يشكلون نسبة كبيرة من أعضاء شبكات العنف، هم في جزء كبير منهم من سكان شمال المغرب، الذين أصبحوا يغادرون منطقتهم بضع سنوات فقط بعد استقلال البلاد، واستقروا بشكل نهائي في عدد من البلدان الأوروبية، مثل بلجيكا وهولندا وفرنسا وألمانيا والبلدان الإسكندنافية، قبل أن تصبح إسبانيا خلال العقدين الأخيرين الوجهة المفضلة للمهاجرين المغاربة من هذه المنطقة.