الحياة على الرصيف

الهروب إلى المستقبل في مصر يبدأ من الشارع ويحتضن الأحلام والآلام.. وربما الأوهام

مصريون يعاينون قطع ثياب في أحد أسواق القاهرة الشعبية («الشرق الاوسط»)
TT

على أحد أرصفة ميدان رمسيس بوسط القاهرة استعد أحمد لفرش بضاعته وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة، عقب فاصل من الجري والهروب برفقة زملائه الباعة، على إثر صفارة إنذار أطلقها أحدهم محذرا من هجوم الشرطة التي تكافح إشغال الطريق.

طريقة الهروب أصبحت أقرب للاستجابة الغريزية على طريقة فئران عالم النفس الروسي الشهير بافلوف ما إن يسمع الصفارة حتى يلملم البضاعة في سرعة البرق، ثم يتجه بها إلى أحد الشوارع الخلفية ومنه إلى أحد المخازن الكائنة بالدور الثاني بإحدى العمارات، حتى تهدأ العاصفة، فيعود إلى مكانه في الشارع. كثيرا ما يختلف أحمد مع باعة منافسين وربما يصل التراشق إلى الاشتباك بالأيدي ولكن كل تلك الرواسب تزول في مواجهة السلطة. «مش عايز أجرب الكعب الداير تاني» بهذه العبارة بدأ أحمد حديثه ردا على تعجب «الشرق الأوسط» من هلعه عند وصول أفراد البلدية. «الكعب الداير» بحسب أحمد هو التردد اليومي على مكان احتجاز بضاعته لمدة لا تقل عن 23 يوما، يتعطل خلالها عن العمل، ويتعرض للوم الدائم من مالك البضاعة على إهماله وتقصيره في حمايتها، بالإضافة إلى إمكانية دفعه غرامة باهظة تلتهم كل مكاسبه.

يبدأ أحمد عمله في الثانية عشرة ليلا، وينتهي في الخامسة صباحا، ويتبقى أمامه خمس ساعات فقط قبل أن يستيقظ للذهاب إلى أحد معاهد الخدمة الاجتماعية بحي مدينة نصر بشمال القاهرة في العاشرة صباحا، وبعد عودته في الخامسة مساء إلى منزله يتناول غداءه ويجلس مع شقيقتيه وأخيه يشاهدون سويا برامج التلفزيون لساعة قد يغفو قليلا خلالها ثم يستيقظ على لمسة يد أمه وهي تذكره بقرب نزوله إلى العمل.

يتقاضى أحمد 25 جنيها يوميا نظير وقوفه على «فرش» الملابس، وهو واحد من بين أربعة يمتلكها حسين جابر في وسط القاهرة ويأتي بمحتوياتها من مكاتب التوكيلات، أو من تجار السلع المهربة.

على عكس الجميع يعتبر أحمد الرصيف نقطة البداية لأحلامه، فهو يصر على أن الـ25 جنيها ستساعده على استكمال تعليمه الجامعي دون الضغط على والده ماديا لأن «شقيقاتي أولى بماله»، كما ستساعده أيضا على الالتحاق بدورات اللغة الإنجليزية كي يصبح مؤهلا خلال أعوام قليلة على الالتحاق بعمل حكومي مرموق في وزارة سيادية يعمل فيها والده موظفا.

حلم الصعود الاجتماعي الشرعي البطيء الذي يبدأه أحمد من الرصيف قابله حلم آخر أكثر سرعة وإغراء، فهو يكتب الشعر ويمتلك موهبة التلحين والغناء، ويتمنى أن يصبح ملحنا مشهورا على غرار عمرو مصطفى مثله الأعلى ولكن تجربة مؤلمة واجهته مؤخرا غيرت أشياء كثيرة داخله، فقد انتهى من كتابة وتلحين ثلاث أغنيات وقدمه الوسطاء لمدير أعمال مطرب مصري شاب يحمل لقب «دكتور» وأعطاه أغانيه، وعاد إلى بيته منتشيا يحتضن حلمه و«يطبطب» عليه بيديه بعد أن آن الأوان لخروجه إلى النور، لكن الحلم تبخر بتبخر مدير الأعمال، وعدم الرد على توسلاته الهاتفية، وضياع فرصة إثبات حقه قضائيا لعدم توثيق الكلمات والألحان وجهله بأهمية ذلك، ولم يجد أمامه إلا الكلمات التي شدا بها محمد منير «قبل ما تحلم فوق.. احلم وانت فايق.. قبل ما تطلع فوق.. انزل للحقايق.. جايز حلم ف غمضة عين.. عايز يتحقق ف سنين.. وجايز يبقي الحلم اتنين.. وتحققهم قبل دقايق».

قرر أحمد بحسب تعبيره أن يصحو ويبدأ مستقبله الحقيقي من الرصيف ولو بخطوات بطيئة.

أحمد الذي يقطن منطقة «الشرّابية» الشعبية بشمال القاهرة، تعبر حياته وخطواته عن جزء من أزمة الطبقة الوسطى في مصر فالأب يعمل في وظيفة إدارية بوزارة سيادية ويتقاضى 2000 جنيه شهريا تكفي بالكاد النفقات اليومية لأسرة مكونة من أربعة أبناء، ولد وبنت في المرحلة الجامعية وبنت في الثانوية العامة وطفل في المرحلة الابتدائية والأم ربة منزل لا تعمل، وتلتهم جمعية شهرية (نظام خاص للادخار بالتعاون مع آخرين) 300 جنيه من المرتب لتدبير نفقات الدروس الخصوصية للثانوية العامة، تعتمد الأسرة في أغلب الأحيان على إعانة نصف سنوية تأتي من بيت العائلة في المنوفية (بوسط دلتا مصر) هي نصيب الأب من ريع قطعة أرض صغيرة في قريته، وتسير الأمور « بالزق» مثلما يقول أحمد. خرج أحمد من تلك الحسبة المعقدة منذ خمس سنوات تقريبا وبالتحديد عندما كان عمره 16 عاما، فبحسب تأكيده كان يريد أن يكفر عن تقصيره الدراسي واضطرار أبيه لإلحاقه بإحدى المدارس ذات المصروفات لتعويض ضعف مجموعه في المرحلة الإعدادية، فنزل لسوق العمل حتى لا يشكل بندا إضافيا على ميزانية الأسرة، رغم رفض أبيه لذلك» لأنه كان عايزني أشتغل حاجة تليق بقيمتي»، والقيمة التي تليق به في نظر والده أن يصبح مهندسا أو طبيبا أو وزير «بيه» يفتخر به أمام الناس. ولكن المهندس والطبيب والوزير الذي كان والده يحلم أن يصبح أحدهم يأخذون نصيبهم الآن من المعاناة وشظف العيش في ظل بطالة بلغت نسبتها 17 % بحسب إحصاء لمركز دعم واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، وكذلك في ظل انخفاض الأجور مقارنة بارتفاع معدلات التضخم التي وصلت إلى 19.7% في مايو الماضي، وارتفاع أسعار السلع بنسبة.121% خلال العام الحالي بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري. كما أن حلم والده أن يصبح «بيه» (أي بيك يجلس على كرسي منصب مرموق في الدولة) أصبح مستحيلا في ظل ارتفاع نفقات التعليم المميز في مصر، فالجامعة الأميركية التي هي قاعدة انطلاق للنخبة في السلطة تبلغ تكلفة السنة الدراسية فيها ما يقرب من 16 ألف دولار، في حين تتراوح مصروفات البرامج المميزة في الجامعات المصرية الحكومية كأقسام اللغة الإنجليزية بكليات الحقوق والتجارة والعلوم السياسية ما بين 4 إلى خمسة آلاف جنيه للسنة الدراسية الواحدة، وهي مبالغ أصبحت عبئا على الأسرة المصرية التي تنتمي للطبقة الوسطى في ظل الغلاء الحالي ومن ثم أصبح باب التعليم أكثر ضيقا للصعود الاجتماعي. بل إن فرصة التحاق أحمد بوظيفة من الأساس «على كف عفريت» خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الواسطة لها اليد الأعلى في اقتناص الوظائف في مصر فبحسب استطلاع أجراه مركز دعم واتخاذ القرار تبين أن 70 % من الوظائف تأتي بالواسطة».

«الشغل مش عيب وأنا أعتبر نفسي إنسانا ناجحا» هكذا استطرد أحمد في حديثه معي بينما تعلو وجهه ابتسامة التفاؤل، ثم قطع حوارنا زبائن جدد التقطت أيدي أحدهم «تي شيرت»، يحمل علامة شركة «أديداس» الشهيرة، وتابع: «هؤلاء طلاب في الجامعة اعتادوا الشراء مني كل فترة، يأتون في وقت متأخر من الليل ثم يختارون إحدى قطع الملابس المقلدة التي تكون أقرب للأصل، ويلبسونها على أنها أصلية».

يشبه أحمد زبائنه فيرتدي هو الآخر «تي شيرت» يحمل علامة تجارية لماركة ملابس رياضية عالمية، اشتراه قبل أسبوعين من محل بشارع «شبرا»، موضحا «المهم أن يكون شكله شيك، بصرف النظر عن ثمنه».

مثل كثير من أبناء الطبقة الوسطى الآن يستمتع أحمد «بالنسخة المقلدة» من حياة الطبقة المخملية في مصر، يرتدي نفس ملابسهم، ويشاهد القنوات المشفرة عن طريق «الوصلة» (وهي اختراع شعبي للتغلب على الثمن الباهظ للاشتراك فيها)، ويحمل «موبايل» يقترب ثمنه من الألفي جنيه اشتراه من مدخراته، لا زال مصرا على أن الرصيف هو المكان الأنسب لبداية تحقيق أحلامه، مع تلاشي البدائل الأخرى، فالسفر للخارج لا يؤيده لأن الهجرة أصبحت «مرادفا للموت» مع إغلاق أوربا لأبوابها ومئات الجثث التي يلفظها البحر كل صباح بعد غرق المراكب.

ولكن رغم إيمان أحمد بالرصيف، ورغم إظهاره تصالحه مع نفسه بقوله «إنه سعيد بعمله»، ما لبث أن أظهر عكس ذلك عند حديثه عن تجربته العاطفية مع إحدى جاراته التي أنهاها منذ أسابيع «التقيتها لآخر مرة قبل أيام من زواجها، أحبها بشدة منذ أربع سنوات ، ولذلك قررت الانفصال عنها، فكيف أرتبط بها وأنا مازلت هنا».

نطق أحمد بوحه الأخير واختفى مثل الشبح، على إثر صفارة إنذار أطلقها زميله الواقف على بعد 50 مترا، معلنا مجيء الشرطة.. اختفى ومعه آماله وآلامه وبضائعه.. خشية تكرار رحلة «الكعب الدائر». ربيع الجلوي (35) صعيدي ينتمي لمنطقة «بنويط» بأسيوط بجنوب مصر، لا يهتم بمستقبله الآن بقدر اهتمامه بمستقبل ولديه، عربة التين الشوكي التي يدفعها على رصيف شارع العريش بمنطقة الهرم، تكفي بالكاد قوت يومهما وتدخل بنود الملبس والإيجار الشهري لشقته في منطقة العمرانية وكذلك المناسبات السنوية كمجيء رمضان والأعياد تحت جملة (خليها على الله)، يبدأ يوم الجلوي في العاشرة صباحا بذهابه إلى أحد تجار الجملة في العمرانية ثم يبتاع منه كمية من التين بسعر 18 جنيها للقفص، من الممكن أن يذهب مباشرة إلى منطقة الخطاطبة بالجيزة ويبتاع مباشرة من الفلاحين لكنه يعجز عن ذلك لأن الفلاح لن يوافق على بيعه بخمسين جنيها فقط.. في منتصف شارع العريش يبدأ في إعداد التين وغسيله ورصه وفي الظهيرة تنطلق رحلته الحقيقية للبحث عن مكان في المستقبل لأولاده، ينتهي من البيع غالبا في الرابعة فجرا بحصيلة لا تتجاوز 30 جنيها ترتفع إلى خمسين في مواسم الصيف ومجيء العرب للسياحة في مصر، في الغالب يقضي الجلوي ليلته بجانب عربته في الشارع لأن تلك السويعات القليلة لن تكفيه للذهاب والمبيت في منزله ثم العودة مرة أخرى.

عربة الجلوي التي تكلفت 600 جنيه واشتراها من «فاروق الأسيوطي» التاجر المتخصص في صنعها، مصدر رزقه الوحيد وهي لا تحمل التين الشوكي إلا في الصيف فقط، فبعد انتهاء موسم زراعته ودخول الشتاء تحمل الليمون أو البرتقال ولكن «رزق الصيف واسع يا بيه»، والرزق الذي قنع به الجلوي لا يتعدى 10 جنيهات فوق المعتاد «الحمد لله المهم أربي ولادي كويس وربنا يسترها».

لا يخفي الجلوي مرارته من مطاردة البلدية له ففقدان عربته بمثابة فقدان حياته ومستقبله، و150 جنيها قيمة الغرامة كفيلة «بقطم وسطي».

يحكي الجلوي عن إحدى مطاردات البلدية له قائلا: «خدوا مني العربية، زعل تاجر الجملة على حالي إداني واحدة تانية، بعد ربع ساعة خدوها هي كمان، شفت الحظ».

استعد الجلوي لفرد مجموعة من شكائر الإسمنت الفارغة ليغفو سويعات قليلة، ثم داعب زوجته التي جاءت برفقة أخيها لتزويده ببعض الطعام قائلا «خلي بالك من الولدين، أنا جاي قبل الظهر ومعايا الفلوس»، وبعد أن مشت قليلا بادرني «يا أخي محدش بيصبر على حد، الواد عند 10 سنين والمدرس عايز خمسين جنيها ثمن الدرس الخصوصي».

وإذا كان الجلوي وجد في صغيريه رائحة المستقبل وانتزع من بين أنياب الرصيف جنيهاته التي يؤمن أنها قادرة على حجز مكان تحت الشمس لهما، فإن مصطفى عادل (23 عاما) كان أقوى عزيمة وحيوية، فبقدر صراعه مع الرصيف من أجل بناء مستقبله تمكن من مصادقته وتحقيق صفقة أكثر عدلا من صفقة الجلوي.

تخرج مصطفى من مدرسة (مبارك كول) وهي مدرسة فنية ذات طابع خاص أنشئت في مصر بالتعاون مع ألمانيا، كان مصطفى يتقاضى مصروفه من المدرسة قدره مائة جنيه شهريا ومثلها من أبيه المحاسب بإحدى الشركات الخاصة، وبعد أربع سنوات تخرج في المدرسة والتحق بأكاديمية الفراعنة لعلوم للحاسب الآلي، قضى فيها أربع سنوات أخرى ولكن كان يعمل في الوقت نفسه بأحد محلات الملابس بمنطقة وسط البلد بالقاهرة براتب قدره 300 جنيه، كانت حصيلة السنوات الثماني خمسة آلاف جنيه دفع أربعة آلاف منها كمقدم لسيارة مستعملة ماركة «فيات 128» وقسّط بقية الثمن وهو 20 ألفا بواقع 500 جنيه شهريا.

عربة مصطفى هي حياته مثلما كانت عربة الجلوي، يذهب بواسطتها كل أسبوع تقريبا إلى منطقة العتبة بوسط القاهرة ليشتري مجموعة من الأحزمة والملابس الداخلية والقمصان من مكاتب التوكيلات ومحلات الجملة وأشهرها محلا بدر، والشمس، وأحيانا يذهب لمنطقة القنطرة شرق قناة السويس لشراء السلع الأجنبية ثم يعود مفترشا بضاعته التي يبلغ مجمل ثمنها 1500 جنيه على هيكل سيارته، يشتري الحزام بثمانية جنيهات ونصف يبيعه بعشرة، يوقف السيارة محملة بتلك البضائع بجانب الرصيف 10 ساعات تقريبا من الرابعة مساء إلى الرابعة فجرا ثم يعود بخمسين جنيها، ويواصل رحلة المستقبل التي يتمنى أن يتخللها شراؤه لمحل ملابس، بمنطقة معروفة.

في سبيل شرائه لحلم العمر لا يعارض مصطفى فكرة السفر للخارج، «هتقصر المسافة شوية»، ولكن «أنا عموما مش مستعجل، عمري 23 سنة بس، ومتفائل الحمد لله».