سجين الـ 542 عاما

إسرائيل تتحضر لإطلاق سراح سمير القنطار.. وعائلته تستعد لتحتفل معه بعيد ميلاده الـ46

TT

بعد 11 يوما، يحتفل سمير القنطار بعيد ميلاده الـ46 بين أهله، إلى جانب أمه وإخوته. 22 يوليو (تموز) هذا العام لن يكون كالأعوام الـ 29 التي عرفها القنطار في سجنه في اسرائيل. سيعود إلى لبنان ضمن صفقة تبادل الاسرى بين حزب الله واسرائيل والتي من المتوقع ان تتم خلال أيام، تاركا وراءه فلسطين التي عاش طويلا على أرضها من دون ان يعرفها. سيترك خلفه سنوات قضاها من أجل قضية، قضية تحرير فلسطين. بعد بضعة أيام سيقف سمير عند الحدود اللبنانية الجنوبية يحلم بحرية وطن، فلسطين، بعد حرية الأسرى.

لن يمضي سمير القنطار 542 عاما في سجون الإحتلال الإسرائيلي، كما حكم عليه في يناير (كانون ثاني) 1980. سمير سامي القنطار، المولود في بلدة عبيه (قضاء عاليه) في 22 تموز 1962، سيعود هذا العام ليحتفل بعيد ميلاده في مسقط رأسه مع أهله والأقارب والأصدقاء وآخرين لا يعرفهم، ولكنهم جميعا يعرفونه.

الوالدة سهام، 71 عاما، أنجزت الاستعدادات لاستقبال ابنها. وضعت لائحة طعام ومأكولات تكفي لسنوات، وفيها الكثير من البيض المقلي. فسمير يحب البيض المقلي. غرفته بانتظاره، كما دائما، لكنها هذه الأيام تبدو أكثر إشراقا. يبدو فرح اللقاء طاغيا رغم أن سمير لم يعد بعد. لكن شوق الانتظار تصحبه هذه المرة ابتسامات الفخر والاعتزاز. إلا ان هذه الفرحة ينغصها غياب الوالد، الذي توفي بنوبة قلبية في العام 1986، وشقيقته سناء، التي توفيت قبل الوالد في العام 1982 بعد نزيف في الدماغ.

بسام الشقيق الأصغر لسمير يكاد لا يذكره. وهو لم يكن قد بلغ العامين من عمره عندما اعتقل شقيقه. حمل قضيته إلى مختلف المحافل الدولية. لم يهدأ ولم يكل. كان حاضرا في كل التحركات الهادفة لتحرير الأسرى. كان في استقبال زوار لبنان الدوليين رافعا صورة شقيقه عاليا في كل المناسبات، مناديا بالحرية لسمير ورفاقه خلف قضبان سجون الاسرائيلية.

يقول بسام «سيكون هناك استقبال شعبي عارم على طول مسار خط وصول سمير ورفاقه إلى الاحتفال المركزي الذي سيقام في بيروت». ويقول ان سمير سيذهب إلى بلدته عبيه في اليوم التالي لوصوله، لضمان برنامج أعد مسبقا بين مجموعة استقبالات شعبية ستقام له على الطريق الذي سيسلكه من بيروت، وصولا إلى مسقط رأسه في عبيه، حيث سيكون بانتظاره أبناء البلدة وأبناء الجبل.

لا يختلف حال بسام عن حال شقيقه عبد الله والشقيقات سميرة وحنان ورائدة ولميس. الجميع بانتظاره إضافة إلى أفراد العائلة الصغيرة. هناك أمهات كثيرات سيستعدن عبر سمير صور أبنائهن الذين قضوا خلال مواجهة الاحتلال على مدى سنوات. سمير لن يكون فردا أو أسيرا محررا. سمير سيكون عنوانا لمرحلة مقبلة ترفض معاملة الأسرى العرب بأنهم أقل شأنا من غيرهم. هناك في مخيم البريج في فلسطين أم أخرى لسمير تنتظر تحريره الذي سيبعده عنها ولكنها فرحة. إنها أم صديقه وزميله في إحدى زنزانات الاحتلال. إنها أم جبر وشاح التي تعرفت الى سمير في العام 1985 وقالت له إنه ابنها الأول وجبر ابنها الثاني. وظلت تزوره حتى العام 1999، لكنها منعت من زيارته بعد ذلك لأسباب أمنية. ولسمير في فلسطين إخوة وأشقاء لم تلدهم أمه. جميعهم حملوا صوره وساروا في المسيرات مطالبين بتحريره وهو بطل فلسطين المقاوم. ومن تلك العائلات عائلة المجدلاوي الفلسطينية التي قررت ان تتبنى قضية القنطار، فكان محمد المجدلاوي يذهب كل يوم اثنين ولمدة 11 عاماً إلى مقر الصليب الأحمر في فلسطين حاملا صورة سمير وكان في البداية يرافقه صديقاه اللذان تعبا ولكنه لم يتعب. سمير القنطار يحمل الجنسية الفلسطينية منذ بداية العام 2006 بناء على مبادرة أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية، مروان البرغوثي، الذي طالب السلطة الفلسطينية بمنح الجنسية الفلسطينية للمناضلين لكل من القنطار وسلطان العجلوني عميد الأسرى الأردنيين كتكريم من الشعب الفلسطيني لتضحياتهم.

في منطقة خلدة جنوب بيروت شقة صغيرة، لا تعرف مالكها، نوافذها مشرعة على البحر تنتظر عودة القنطار الذي انطلق من شاطئ مدينة صور في 22 إبريل (نيسان) 1979 إلى فلسطين المحتلة، بواسطة زورق صغير مع مجموعة من الفدائيين، حيث نفذ عملية في مدينة نهاريا قُتل فيها 6 إسرائيليين بينهم عالم الذرة داني هاران. هذه العملية التي حملت اسم «جمال عبد الناصر» انتهت باشتباكات مع عناصر من الجيش الإسرائيلي دامت أكثر من 4 ساعات. وقضى اثنان من أفراد المجموعة، هما عبد المجيد اصلان ومهنا المؤيد، واعتقل القنطار بعد ان أصيب بخمس رصاصات في جسده، مع أحمد الابرص الذي أطلق سراحه عام 1985 في اطار عملية تبادل الأسرى بين إسرائيل والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة.

انضم سمير إلى جبهة التحرير الفلسطينية في العام 1977، وكان لا يزال فتى في الـ 15 من عمره. اعتقل لأول مرة في 31 يناير (كانون الثاني) 1978 على يد جهاز المخابرات الأردنية عندما حاول عبور الحدود الأردنية ـ الإسرائيلية مع عضوين آخرين في جبهة التحرير الفلسطينية التي كان ينتمي إليها. وكان من المقرر أن يقوم ورفاقه باختطاف حافلة إسرائيلية من أجل المطالبة بإطلاق سراح أسرى لبنانيين. وأفرج عنه في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1978 مقابل حرمانه من دخول الأردن مجدداً.

وتنقل القنطار بين معظم السجون الإسرائيلية، كالدامون والرملة المركزي وعسقلان والصرفند وبئر السبع والجلمة ونفحة وشطا وجنيد والتلمون وهداريم. بخلاف ما يعتقد البعض لم يتمكن القنطار من متابعة دراسته بالمراسلة من داخل سجنه إلا بعد سلسلة من التحركات كان آخرها إضرابه عن الطعام لمدة 19 يوما. والتحق في العام 1992 بجامعة تل أبيب المفتوحة وتخصص بمادة العلوم الإنسانية والاجتماعية. وفي سبتمبر (أيلول) 1998 منحته الجامعة المفتوحة درجة بكالوريوس في الأدبيات والعلوم الاجتماعية. ولم يقتصر اهتمام سمير بحقه بالتعليم فهو خاض عشرات الإضرابات عن الطعام من أجل تحسين شروط العيش الإنسانية داخل المعتقلات، وقضى خلال هذه الإضرابات عدد من الأسرى. القنطار الذي ناضل من أجل فلسطين أثار إعجاب فلسطينية من عرب الـ 48، أمضت في السجن 7 سنوات. نشأت بين الإثنين علاقة حب انتهت بعلاقة عذرية لم تستمر طويلا لأن القنطار كان يخشى عليها وكان يتمنى لها حياة طبيعية خارج جدران السجن وأجواء المعتقلات. وانتهى الأمر بطلاق رفضت كفاح تسلم ورقته.

رفض سمير كتابة رسالة اعتذار إلى أهالي الإسرائيليين الذين قتلهم، لكنه أبدى ندمه على أمر واحد هو أنه لم يشارك في التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 لأنه كان معتقلا.

ولمن يقول برأفة الجندي الإسرائيلي والسجون الإسرائيلية، يروي القنطار في إحدى رسائله أنه صلب عاريا وتعرض للضرب طوال ايام بلياليها فيما كان رأسه داخل كيس بلاستيكي. ويتذكر عملية إزالة بعض الرصاصات من جسمه من دون مخدر، فيما تركت رصاصة في رئته اليمنى سببت له مرض الربو الذي يعاني منه حتى الآن.

القنطار الذي اعتاد إرسال الخطابات عبر محاميه كان قد ترك رسالته الأولى قبل أن ينطلق إلى نهاريا وقال فيها: «في هذه اللحظات وقبل أن أمضي في الطريق الطويل، طريق الشهادة والشرف، لا بد ان أخاطبكم أتحدث اليكم، امضي الآن وربما لن أعود، ولكن الثقة أن كل الثوريين سوف يتابعون الطريق الذي نشقه اليوم بدمائنا والذي شقه قبلنا الآلاف من أبناء وطننا العربي، أضحي اليوم من أجل فلسطين لأن طريق فلسطين هي طريق المناضلين وطريق الحرية نحو وطن عربي موحد.. أرفعوا راية الكفاح المسلح عالية خفاقة، لأنه بغير النضال لا تأتي الحرية ولا يكون السلام... والدتي: عندما تصلك هذه الكلمات ارفعي راية النصر عالية وزغردي للأيام القادمة لأنني ماضٍ من أجل سعادتك وتحقيق أمانيك. والدي: عندما أرقد بسلام فوق ربوع فلسطين أكون قد أكدت ان بنادق الثوار وتضحياتهم لا بد أن توصلك إلى فلسطين لتعيش أنت واخوتي وشعبي بسلام فوق ربى الوطن».

خاطب سمير أبناء الوطن العربي يحثهم على النضال وكان حاضرا في محطات لبنانية عدة، رافضا التنازل عن حق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. رسائل سمير كانت حاضرة على موقعه الإلكتروني على شبكة الإنترنت قبل أن تطالعنا أخيرا رسالة اعتذار على الموقع تقول: «هذا الموقع قيد إعادة البناء بعد أن تم إغلاقه من قبل شركة أميركية بعد تلقيها شكاوى من جهات إسرائيلية». وبدت تحت هذه العبارة صورة المعادلة الجديدة التي أرستها المفاوضات بين إسرائيل وحزب الله عبر وسيط ألماني يمثل الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بحيث تظهر صورة القنطار مقابل صورة الجنديين الأسيرين لدى المقاومة الإسلامية بدل صورة القنطار مقابل الطيار الإسرائيلي المفقود رون أراد الذي طالما ربطت إسرائيل مصير سمير بمصيره. ومن المعروف أن حزب الله فشل في إدراج سمير القنطار ضمن عملية التبادل الأولى مع إسرائيل في يناير (كانون الثاني) 2004 ولكنه تمكن من تحرير 23 أسيرا لبنانيا وأسرى عربا، واستعاد جثامين مقاومين لبنانيين مقابل العقيد الاحتياط في المخابرات الإسرائيلية ألحنان تننباوم وجثث 3 جنود إسرائيليين هم عدي أفيطان وعمر سواعد وبيني أفراهام. ولم يستطع الحزب إدراج سمير في أي من عمليات التبادل السابقة.

لسمير علاقة خاصة بالقراءة وهو يقول: «إنني دائما أتلقف كل رواية او قصيدة او كتاب سياسي يتحدث عن المقاومات التي خاضتها العديد من شعوب العالم ضد المستعمرين والغزاة والطغاة. من سبارتاكوس وثورة العبيد في روما الى لويس كارلوس بريستس في البرازيل وشي غيفارا في كوبا وبوليفيا إلى عبد القادر الحسيني وعمر المختار وتمرد الماوماو ونضال الشعب الفيتنامي وصولاً الى ثورة الامام الخميني في ايران».

القنطار يعود ليجد صوره العملاقة مرفوعة في بعض المناطق اللبنانية على أنه بطل من أبطال المقاومة والمواجهة ضد الاحتلال، فيما ينظر إليه البعض على أنه سبب الحرب الإسرائيلية على لبنان.

مع خروج سمير إلى الحرية يقفل ملف الأسرى اللبنانيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ولكن لن ينتهي السجال بتحرير القنطار، لأن البعض كان ولا يزال يتحدث عن كلفة تحريره، محملا حزب الله المسؤولية عن الدمار الذي لحق بلبنان والضحايا الذين سقطوا خلال حرب تموز 2006. في مقابلة أجرتها معه صحيفة «معاريف» ونشرت في 8 يوليو 2005، قال القنطار إن محاميه نقل إليه اقتراحا بترشيح نفسه للبرلمان اللبناني، ولكنه رد آنذاك بأنه لا يستطيع الخدمة كعضو برلمان من السجن الإسرائيلي ولا يريد استغلال معاناته كي يكسب مقعدا في البرلمان.. فهل سيكون سمير القنطار عنوان معركة انتخابية في المقبل من الأيام؟.