الهندسة والإرهاب.. أية علاقة؟

دراسة في 12 بلداً تربط بين العلوم الدقيقة والتوجه نحو العنف.. والسعودية استثناء

TT

يقول القائد العام لـ«القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» عبد المالك دروكدال، في حوار نشره التنظيم المسلح على موقعه الإلكتروني عام 2005، إن مقياس التحكم في التكنولوجيا كان أساس «تدرجه» في المسؤوليات ضمن كتائب العمل المسلح. ويضيف هذا الزعيم المسلح الذي نال شهادة الباكالوريا عام 1989 في شعبة الرياضيات، والتحق بجامعة جزائرية درس فيها ثلاث سنوات تخصص الكيمياء: «لقد أسندت لي مهمة صنع المتفجرات بمجرد التحاقي بصفوف المجاهدين (عام 1993) بحكم تخصصي العلمي واطلاعي على المواد الكيميائية والقواعد الميكانيكية». قد تبدو حالة هذا الشاب معزولة وسط عشرات آلاف المتخرجين الجامعيين في العالم العربي والإسلامي. لكن رصد حالات عشرات الشبان المسلمين ممن درسوا تخصصات كالهندسة والعلوم الدقيقة، ثم تحولوا إلى التشدد وصاروا قيادات في العمل المسلح، يدق ناقوس الملاحظة. ودفعت حالات دروكدال وعشرات آخرين، أصبحوا أيضاً من القيادات العليا للعمل المسلح في دول عربية ومسلمة، باحثين اجتماعيين بارزين في بريطانيا إلى البحث عن وجود علاقة محتملة بين دراسة العلوم الدقيقة والتحول للتشدد الديني. وبعد التدقيق في حالات 404 شبان تحولوا إلى التشدد والعنف، خلص معدا الدراسة الحديثة، ديغو غامبيتا، عالم الاجتماع بجامعة أوكسفورد، وستيفن هيرتوغ من جامعة دارهام، إلى أن الإسلاميين الذين درسوا تخصصات مثل العلوم أو الهندسة أو الطب كانوا الأكثر تمثيلاً ضمن المتعلمين من أعضاء المجموعات الإسلامية العنيفة، ووجدا تحديداً أن المهندسين يمثلون النسبة الأكبر. وفي تفسيره للظاهرة، قال غامبيتا الذي قاد الدراسة لـ«الشرق الأوسط» إن «الذين يدرسون الهندسة يصبحون فاقدين للتسامح في مجال تحديد الحقيقة»، مشيراً إلى أن دراسة الهندسة والعلوم الدقيقة تجعل في الغالب صاحبها ينظر إلى الأمور عبر اللونين الأبيض والأسود فقط.

وخلصت الدراسة الضخمة الواقعة في أكثر من 25 ألف كلمة إلى أن «196 من بين 404 جهاديين كانوا قد انخرطوا في دراسة عليا في فترة ما» في حياتهم. ووضعت الدراسة التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط» في البداية أربع فرضيات للعلاقة بين الهندسة والعنف، أولها: ما إذا كان وجود عدد كبير من المهندسين ضمن المتشددين جاء بمحض الصدفة، أو أن المهارات التقنية لهؤلاء جعلتهم أكثر جاذبية للتجنيد، أو أن ذهنيتهم جعلتهم يتوافقون بشكل جيد مع التشدد، أو أن تشددهم يمكن إرجاعه إلى الظروف الاجتماعية الصعبة التي عاشوها بدولهم. وخلصت الدراسة إلى أن تداخل العاملين الأخيرين هو الأكثر ترجيحاً لتفسير الظاهرة.

ووجد معدا البحث حضوراً بارزاً للمهندسين وسط المتشددين دينياً في كل الدول الـ 12 التي شملتها الدراسة، وهي مصر والسعودية والجزائر والمغرب وفلسطين والكويت ولبنان والأردن وسورية ودولة الإمارات وماليزيا وسنغافورة. وأكد غامبيتا لـ«الشرق الأوسط» أن الدولة الوحيدة التي كانت استثناء هي المملكة العربية السعودية. ولم تقدم الدراسة تفسيراً محدداً لهذا الاستثناء.

وفي الحالة المغاربية مثلاً، وقفت «الشرق الأوسط»، على أربع حالات لشبان درسوا علوماً هندسية ودقيقة، وصاروا من قيادات العمل المسلح في المغرب العربي. وتبدو حالة دروكدال، 38 سنة، المعروف أكثر بـ«أبي مصعب عبد الودود» ساطعة باعتباره حالياً الشخصية الأولى في الفرع المغاربي من تنظيم «القاعدة» الكوني؛ فهو أحد أبرز حاملي الشهادات العلمية ممن تولوا «مناصبَ» قيادية في العمل المسلح منذ اندلاعه بالجزائر مطلع تسعينات القرن الماضي. وكان دروكدال في صغره نابغة في المدرسة، بحسب شخص يسكن معه في حي زيان بمفتاح التي يبعد عن العاصمة الجزائرية بحوالي 30 كيلومتراً إلى الجنوب. ويقول: «لقد كان عبد المالك متميزاً عن أترابه بعبقريته في العلوم التكنولوجية، وتحديداً في الإلكترونيك والكيمياء». ويحاول أحد من درس معه في بلدة مفتاح وصفه لـ«الشرق الأوسط»، متحاشيا ذكر اسمه، فيقول: «كان ذكياً جداً وخجولاً في ذات الوقت، كثير المطالعة بل يلتهم الكتب التهاماً، ولم يكن متدينا قط بل تظهر عليه في بعض الأحيان علامات العلماني، ولم ينتم إلى الإسلاميين حتى عندما كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أوج عنفوانها نهاية التسعينات من القرن الماضي، وقد كان يحب الانعزالَ ولا يريد أن يطلع الغير على شؤونه الخاصة». وتفيد شهادات أخرى، بأن «عبد الودود»، كان مولعا بإضفاء تحسينات على الأجهزة الإلكترونية وتطويرها، واستحداث أخرى، وكان ذلك مقدمة ليصبح خبيراً في صنع المتفجرات في «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي تأمَّر عليها عام 2005، وظل قائداً على رجالِها بعد أن تغيرت التسمية إلى «القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي» مطلع عام 2007.

التحق دروكدال بجامعة البليدة (50 كلم جنوب غربي العاصمة)، للعلوم التكنولوجية ـ قسم الكيمياء. ويقول في حواره المنشور على موقع الجماعة عام 2005 إنه بقيَّ في الجامعة ثلاث سنوات. وبعدها توجه إلى معاقل «الجماعة الاسلامية المسلحة» بإيعاز من سعيد مخلوفي، أحد المنظرين السابقين للعمل المسلح في الجزائر.

وفي عام 1996، تم تكليفه من قبل قائد الجماعة آنذاك جمال زيتوني برئاسة ورشات التصنيع العسكري، بـ«المنطقة الثانية« (شرق العاصمة) في هيكل التنظيم المسلح. ثم عين مسؤولاً عن التعليم والتكوين العسكري لعناصر الجماعة، إلى أن خلف نبيل صحراوي على رأس «الجماعة السلفية» بعد مقتل الأخير صيف 2004.

ويذكر مراد خطاب مسؤول «اللجنة الإعلامية» في التنظيم سابقاً، والذي وقع في كمين لمصالح الأمن ثم أطلق سراحه نهاية 2006، أن دروكدال كان يصلح ويقوم بنفسه بصيانة أسلحة رجاله، ويصنع لهم المتفجرات لاستخدامها في الكمائن ضد الجيش. ويضيف خطاب أن القادة المسلحين من ذوي الشهادات العلمية، في عهد «الجماعة المسلحة» كانت تلاحقهم تهمة «العمالة والولاء للإخوان المسلمين» الذين يضمر لهم السلفيون الجزائريون حقداً دفيناً. لكن الوضع تغير مع اختفاء الجماعة وتعويضها بـ «الجماعة السلفية» التي فتحت المجال لـ«كفاءات» علمية لتولي المسؤولية فيها. ومن ضمن هؤلاء «الكفاءات» تظهر الشخصية المغاربية الثانية التي تحولت للعنف بعد دراستها الهندسة. ويتعلق الأمر بصلاح قاسمي مسؤول الدعاية بـ«القاعدة»، وناطقها الرسمي الذي كثيراً ما تبث الفضائيات صوته عندما يتبنى التنظيم عملياته العسكرية. ويعد قاسمي الشهير بـ«أبي محمد البسكري» أحد قيادات «ديوان الزعيم»، فهو أمين سر دروكدال وكاتبه الشخصي.

تدرج قاسمي، 42 سنة، في مستويات التعليم بمنطقة نائية في ولاية بسكرة (400 كلم شرق العاصمة)، ونال شهادة الباكالوريا والتحق بالجامعة وتخرج فيها بشهادة مهندس في الهندسة المدنية. وكان أبو محمد مهتما بتوفير العتاد الإلكتروني لـ«الجماعة» المسلحة، ومسؤولاً مباشراً عن الترويج لأعمالها في الداخل والخارج، مما كان سبباً في سجنه مدة 8 سنوات. وبعد خروجه من السجن استأنف نفس النشاط، وكلفته «الجماعة السلفية» منذ مطلع 2000 بإقامة اتصالات مع كل الجماعات الجهادية في العالم عن طريق الانترنت. ويذكر مصدر أمني أن أولى الاتصالات مع تنظيم أبو مصعب الزرقاوي (2005) التي أفضت إلى انصهار «السلفية» في تنظيم أسامة بن لادن (خريف 2006)، هو الذي قام بها. وإلى جانب دروكدال وقاسمي، كان القائد السابق للتنظيم نبيل صحراوي المدعو «مصطفى أبو ابراهيم»، من بين ذوي الشهادات العلمية، فهو حاصل على شهادة مهندس في الهيدروميكانيك. ويقول قريبون منه إن تمكنه من العلوم الشرعية وحيازته شهادة عليا كانا من المقاييس التي أهلته لخلافة حسان حطاب على رأس «الجماعة السلفية» عام 2003. وقتل صحراوي على أيدي الجيش في يونيو (حزيران) 2004.

كما يعد يحيى جوادي المكنى «يحيى أبو عمار» قائد كتائب التنظيم في الصحراء حالياً، من بين الحاصلين على شهادة جامعية، حيث درس العلوم الدقيقة. ويقول خطاب إن دروكدال وقاسمي وصحراوي وجوادي كانوا يمثلون كتلة واحدة في التنظيم، وكانوا قريبين من بعضهم بعضا. أما الحالة الرابعة، فموجودة في المغرب المجاور. ويتعلق الأمر بالمسؤول العسكري المفترض في «الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة»، سعد الحسيني، 39 سنة، الحائز شهادة الإجازة في الفيزياء. ويقبع الحسيني حالياً في سجن مغربي، وتجري محاكمتهُ ضمن خلية تضم أيضاً 18 شخصاً آخر بشبهة التورط في التحضير لعمليات إرهابية.

ويشدد غومبيتا على أن نتائج دراسته ليست مطلقة، وأن نسبة تحول مهندس مسلم إلى التشدد الديني تبقى ضئيلة. إلا أنه يشير إلى أن هذه النسبة تساوي ضعفين أو ثلاثة أضعاف نسبة انخراط متخرجين من تخصصات أخرى في التشدد. وهو لا يغفل الجوانب الأخرى في التحول للتشدد مثل الظروف الاقتصادية، وهو في تفسيره هذا يتقاطع مع خبراء يرصدون الظاهرة في العالم العربي. وفي هذا الإطار، يعزو عبد الناصر جابي، الأستاذ الجامعي المختص في علم الاجتماع بالجزائر، حضور الجامعيين في التنظيمات المسلحة، إلى ارتفاع نسبة حاملي الشهادات العليا في البلاد منذ سبعينات القرن الماضي، وطبيعي، حسبه، أن يضع مَنْ يدرسون ظاهرة الارهاب في حسبانهم توفر الجماعات المسلحة على عناصر متعلمة ومتفوقة في اختصاصات علمية درستها في الجامعة. وقال جابي لـ«الشرق الاوسط»: «المعروف في كل الحركات الاسلامية عبر العالم سواء كانت سلمية أو عنيفة، أنها سعت لتجنيد عددٍ كبيرٍ من الأشخاص في أوساط المتعلمين الذين درسوا علوماً دقيقة».

في المقابل، يركز جابي على الفئة الأخرى من قيادات العمل المسلح، فيقول: «شاهدنا قياديين احترفوا تصليح السيارات، وإسكافيين وغيرهم ممن يمكن وصفهم بالمهمشين في المجتمع». وتابع: «الجبهة الاسلامية للانقاذ الجزائرية مثلا (التي خرجت من عباءتها الجماعة المسلحة)، جندت الكثير من المتعلمين لكنهم كانوا دائما تحت سيطرة غير المتعلمين». إلا أن غامبيتا وهيرتوغ يفيدان بأنهما خلصَا من بحثهما إلى أن الكثير من الإسلاميين المتشددين لا يعانون اقتصادياً. وفي كثيرٍ من الأحيان يكونون أكثرَ تعليماً من نظرائهم الذين لا يتحولون للعنف، وبعضهم وفق وتلقى تحصيلاً جامعياً. وأكثر من هذا، الكثير منهم تخرج في الهندسة، وهي مهنة لم تكن ترتبط دائماً بالحركات الدينية. قد يكون المثال الأبرز على هذا التحليل، الشاب المصري محمد عطا، الذي تخرج مهندساً معمارياً ثم خصص سنواتٍ من عمره في التحضير لقيادة المجموعة التي نفذت هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 بالولايات المتحدة.

ولا يتوقف بحث غامبيتا وهيرتوغ على ظاهرة التشدد الديني الحديث بل يعود إلى الوراء إلى «مصر السبعينات» حيث بدأت القصة ككل، كما يقولان. ومن خلال بحثهما يخلصان إلى نفس النتيجة، لكن اعتماداً على دراسة أخرى قام بها عالم الاجتماع المصري سعد الدين ابراهيم. فهذا الأخير حاور 34 عضواً في اثنتين من المجموعات المتشددة، ووجد أن 29 منهم كانوا إما طلاباً جامعيين أو خريجين جامعيين. ومن بين 25 من هؤلاء، لاحظ ابراهيم أن 9 كانوا مهندسين و6 كانوا أطباء و6 كانوا مهندسين زراعيين وصيدلانيين و2 كانا يدرسان علوماً عسكرية تقنية وواحداً فقط كان يدرس الأدب. وكان المهندسون حاضرين أيضا في مجموعة أخرى ناشطة في مصر هي الجماعة الإسلامية التي أنشئت عام 1969 من قبل شكري مصطفى، وهو مهندس زراعي. وشكري أصبح متشددا خلال عمليات التحقيق القاسية داخل سجني طرة وأبو زعبل في مصر. وينتمي مستجوبون آخرون إلى مجموعة أخرى عرفت باسم «جماعة الفنية العسكرية» التي كانت وراء محاولة انقلاب عسكري عام 1974. وأنشئت هذه المجموعة في السبعينات من قبل صالح سرية، وهو فلسطيني يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم. وكان شخصية بارزة في القسم التعليمي بجامعة الدول العربية.

ولا يغفل البحث أيضاً «الدور المحوري» الذي لعبه مهندس كهربائي آخر، هو محمد عبد السلام فرج، في إنشاء جماعة مصرية متشددة أخرى هي «جماعة الجهاد» المسؤولة عن اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات عام 1981، وتحولت لاحقاً إلى الجماعة الأكثر بروزاً في التشدد الديني مصرياً وعالمياً. وعثرت الدراسة البريطانية على إشارات عن العلاقة بين التشدد الديني ودراسة الهندسة خارج المنطقة العربية. فقد اتضح أن اثنين من ثلاثة رجال شاركوا عام 1987 في تأسيس «عسكر الطيبة»، المجموعة الباكستانية المتشددة التي تنشط خصوصاً في إقليم كشمير، كانا مدرسين بجامعة الهندسة والتكنولوجيا في لاهور. ويتعلق الأمر بظفر إقبال وحافظ محمد سعيد اللذين لعبا الدور الرئيسي في إنشاء مركز الدعوة والإرشاد، وهو الجناح السياسي لمجموعة «عسكر الطيبة». وفي جنوب آسيا، جندت «الجماعة الإسلامية» العديد من أعضاء الكليات التقنية؛ بمن فيهم مهندسون وكيميائيون. ووجدت الدراسة أن ثلاثة من المشتبه بهم الرئيسيين في التفجيرات التي استهدفت السفارة الأسترالية بجاكارتا في سبتمبر (ايلول) 2004، كانت لهم خلفية علمية هندسية. وكان باحثون كثيرون قد تطرقوا في مناسبات عدة لقائمة بالعوامل التي أدت إلى تحول مئات الشبان المتعلمين إلى التطرف في العالمين العربي والإسلامي، بدءاً بفشل مشاريع التحديث، وتوقف الحراك الاجتماعي، وضعف التنمية الاقتصادية، وهزيمة العرب في حرب 1967 مع إسرائيل، وإرث الفترة الاستعمارية.

لكن من شأن الدراسة البريطانية أن تقدم تفسيراً أكثر دقة، ونادراً ما يجري التطرق إليه، لسبب انجذاب طلاب العلوم الدقيقة نحو التطرف. وربما تساعد نتائج هذه الدراسة القائمين على العملية التعليمية في معالجة بعض الخلل، وتحديداً تطعيم التخصصات الهندسية والعلمية الدقيقة بمزيد من المواد الإنسانية.