سكان «باب التبانة» ينتظرون في جحيم «اللاحرب واللاسلم»

يعتاشون على النفايات ويفضلون السجن على الجوع

فتاة لبنانية تقف خلف باب داخل منزلها المهدم بعد الاشتباكات بين السنة والعلويين في طرابلس (رويترز)
TT

ما تزال حالة اللاحرب واللاسلم تشل منطقتي باب التبانة (غالبية سنية) وجبل محسن (غالبية علوية) في مدينة طرابلس. والمقاتلون تارة يخفون اسلحتهم بناء على طلب الجيش وتارة أخرى يشهرونها ليتبين انهم جاهزون لمعارك طويلة وضارية. المنازل الواقعة على خطوط التماس التي أحرق العديد منها وتضررت بمجملها ماتزال خاوية، ومئات العائلات لا تجرؤ على العودة. ويؤكد سكان في باب التبانة، ان مجرد تبادل شتائم بين أطفال من الطرفين-وهو كثيراً ما يحدث- يمكن أن يعيد اشتعال المعارك مجدداً. المحلات القليلة التي فتحت أبوابها يقول أصحابها: «نفتح فقط ليشعر الناس بالأمان. بيفكروا باب التبانة بعبع، الزعماء هم البعبع». حالة من الغضب الشديد على السياسيين -كلهم بدون استثناء- تسيطر على أهالي المنطقة الفقيرة التي وصلت إلى حافة الجوع بعد أن شلت بالكامل. والمواطنون الذين كانوا منذ ايام يتحدثون بجرأة وحماسة ويعطون اسماءهم الحقيقة، باتوا يتحفظون، لأسباب أمنية -كما يقولون- فهم قد يتعرضون للأذية إن ذهبوا إلى جبل محسن للعمل مستقبلاً، وعدد منهم مطلوب القبض عليهم بتهم مختلفة. «نريد ان نعمل ولا نريد من أحد أن يساعدنا» يقول أحد المتحدثين، يجيب طلال عيسى: «نريد منهم ان يمحوا أسماءنا من لوائح المطلوبين لقوى الأمن. بدأوا يلاحقوننا، كثيرون هنا مطلوبون بتهم سرقة وخلع وحرق محلات ومنازل بسبب الأحداث الأخيرة، وبعضنا يسجن بسبب مخالفات قديمة. نحن نعاقب، لكن أهالي جبل محسن عندهم غطاء سياسي». يجيب آخر «لا نريد حرباً، نريد أن نعيش، عندي ستة أولاد واحد منهم فقط في المدرسة. في التبانة مدرستان فقط لا تكفيان، ودخولهما يحتاج واسطة سياسية، لا اريد أن أذل نفسي لسياسي». يرد ثالث: «المدارس الرسمية هنا سائبة، طلابها يحملون السكاكين، وليس فيها علم ولا نظام، لماذا نرسل أطفالنا اليها؟ يقول الشاب طلال عيسى وهو يشير إلى صبي في الثامنة تقريباً يشعل ناراً ويذيب مواد معدنية: «انظري، إنه يجمع النحاس من الزبالة ويذيبه، ثم يبيعه بدولارين لتأكل عائلته. نصف السكان هنا يعتاشون من البحث في المهملات، أنا ايضاً افعل ذلك لأعيش، نجمع المعادن والمواد البلاستيكية ونبيعها للتجار ليعاودوا تدويرها، بهذه الطريقة يحصل واحدنا أحياناً على 7 دولارات في اليوم. يوجد شبان يتمنون لو يسجنوا كي يأكلوا شوربة ومعكرونة وبرغل أليس افضل من الطون والسردين الذي يأتينا من المعونات. الشباب هنا يشحذون السيجارة». أحمد محمود ،18 سنة، يؤكد هو الآخر انه يعيش وأهله مما يجده في الزبالة، «هذا أفضل من العمل معاوناً في دكان حيث لا احصل على 7 دولارات في الأسبوع. لكن ما نربحه نصرفه احياناً على صحتنا نصاب بأمراض وضيق تنفس لكثرة النبش في النفايات». يتدخل ممدوح العلي الذي تعرض دكانه لتفجير: «ممنوع دخول باب التبانة أيها النواب! هكذا اكتبي عن لساننا في جريدتكم، رأيناهم في الدوحة يقبلون بعضهم بعضاً على ماذا اتفقوا؟ هل اتفقوا علينا؟ هم يأكلون الكافيار ونحن نموت من الجوع. نعم، نحن جوعى». علي حسين العلي: «طبعاً، يجوعوننا لنخضع للأمر الواقع ونقول حاضر. يتفقوا ويحلوا عنا». أحد سكان المبنى الذي وقع فيه انفجار غادر، يرينا سريراً في الشارع، ويقول انه بات ينام في العراء، أما أهله فهم لاجئون في إحدى المدارس «لا أذهب لأزورهم ولا اريد ان اراهم. هل تريدينني أن ارى أمي ذليلة ومشردة وأبكي». يتدخل آخر: «جنوا علينا، رفعوا السقف وتبادلوا الاتهامات وشحنونا بالمذهبية، وورطونا في حرب. عملوا حرب طائفية وهم جالسون على الكراسي». يقول بعضهم: «هذه المرة لن ننتخب أحداً، لماذا ننتخبهم، وهم لا يتذكروننا إلا في الانتخابات؟». ويقول آخرون: «سنضع ورقة بيضاء». نسألهم عن الأموال التي جمعوها، حيث جالت مجموعات من باب التبانة على الأسواق، وطالبت التجار بتبرعات لشراء سلاح بحجة أن أهل السنة مستهدفون. تعلو الأصوات: «هؤلاء كاذبون جمعوا الأموال باسمنا وباسم الدفاع عن السنة وسرقوها، وضعوها في جيوبهم».

«تيار المستقبل» هو الجهة السياسية الأبرز حالياً، التي تقدم معونات لمنطقتي باب التبانة وجبل محسن، وهي معونات غذائية، وتعويضات مادية. ويتحدث منسق تيار المستقبل في الشمال عبد الغني كبارة عن 3272 طلب ترميم للممتلكات أحصاها التيار للتعويض على السكان في المناطق المتضررة من الجهتين. وثمة مكتب للمساعدات يقدم معونات طبية في طرابلس ويستقبل 100 حالة في اليوم بصرف النظر عن توجهات الناس السياسية. ولتيار المستقبل عتب على الجيش الذي لا يبدو حازماً بما فيه الكفاية لضبط الوضع في مناطق الاقتتال «لقد رفع السياسيون جميعهم الغطاء عن المخلين بالأمن، فلماذا لا يحسم الجيش أمره، ويلعب دوره كاملاً؟». ويضيف كبارة: «لتيار المستقبل خطة متكاملة لهذه المنطقة وللنهوض بها، وقد بدأت لكن الأمور تحتاج وقتاً. هناك الجانب السياسي والجانب الإنساني، ولا نريد ان نفرق بين الناس بسبب توجه سياسي أو مذهبي. هذا هو دورنا ونحن راضون بهذا الدور حتى لو انتقدنا».

المواطنون الذين قابلناهم في باب التبانة يقولون انهم محسوبون، شاؤوا ام أبوا، على تيار المستقبل، لكنهم لا يريدون ان يحسبوا على أي أحد. التيار يقدم مساعدات لكنها لا تكفي، فالحاجات كبيرة، وثمة كثافة سكانية. يجول بنا الشاب طلال عيسى الذي فقد منزله في أحياء معدمة، حيث تكاد لا تجد بيتاً في التبانة لم يصب بقذيفة أو طلقة، يعرفنا على غسان السيد الذي أصيب بيته بانفجار، له زوجة في المستشفى وولدان، وآخر ضرب بيته ووزع اولاده على بيوت الأهل والأقرباء. يخبرنا عن محمود مصطفى الفران الذي احترق منزله بقذيفة، وذهب إلى مخفر الشرطة ليشتكي فقبض عليه، لأنهم اكتشفوا باسمه مخالفة قديمة قدرها 300 دولار، وآخر يجمع المعادن من النفايات قبضوا عليه لأنهم شكوا بسلوكه المريب.

باب التبانة مع جبل محسن هما إدارياً منطقة واحدة، تقع عند المدخل الشمالي لمدينة طرابلس الأقرب إلى سورية. وجهة جبل محسن تبدو أكثر ارتفاعاً بحيث تطل على باب التبانة وتربط بينهما حارات وممرات ضيقة وأزقة، وادراج قديمة. ويصعب على الزائر ان يرى مسافة فاصلة بين الطرفين، بل ان البيوت تتداخل وتكتظ. وفي المنطقة الوسطى أي قريباً من شارع سورية الذي بات خط تماس للمتحاربين، تختلط منازل لعائلات سنية وعلوية، مما يجعل حياة هؤلاء جحيماً مقيماً، ويضطرون للهرب عند كل معركة. وزيادة على ذلك ثمة صلات قربى وزيجات وعلاقات تجارية بين الطرفين. وما يمكن أن يراه الزائر من بؤس وفقر في باب التبانة سيجد موازياً له في جبل محسن، فالمنطقتان محرومتان وابتليتا بحروب فتحت في بداية الحرب الأهلية ولم تغلق لغاية الآن، رغم سنوات الهدنة.

ثمة من يعيد العداوة بين الطرفين إلى مطلع الحرب الأهلية، وهناك من يقول ان الفتنة ولدت حتى قبل ذلك. لكن ما هو معروف ان الخلاف الفلسطيني السوري في لبنان، تفجر في ابشع صوره في هاتين المنطقتين، فقد مال الجبل بطائفته العلوية إلى النظام السوري، فيما انحازت باب التبانة لياسر عرفات وقضيته العربية التحررية، ودعمت كل جهة طرفها بالأسلحة، ودارت معارك متقطعة منذ عام 1980 وحتى عام 1986 حيث ارتكبت مجزرة في باب التبانة تحت غطاء سوري راح ضحيتها مئات القتلى. وماتزال هذه المجزرة حية بفظائعها في أذهان الجيل الجديد الذي يتناقل رواياتها وتفاصيلها ويقاتل مدفوعاً بدموية ذكرياتها التي لا يكف الآباء عن التحدث بها. ومنذ تلك المجزرة فرضت سورية سيطرتها على المنطقة، ولم تدر معارك تذكر حتى خروج الجيش السوري من لبنان، حيث عادت النار المختبئة تحت الرماد للاشتعال. وربما بسبب هذه الهدنة الطويلة القسرية لم يهتم أي طرف بحل مشكلة باب التبانة وجبل محسن المزمنة، ولم تعقد مصالحات حقيقية بين الطرفين على غرار ما حدث في الجبل، ولم يتم بحث مصير المفقودين او الذين يعتقد انهم موجودون في السجون السورية. لهذا ما يزال الجرح نازفاً ورخواً، خاصة ان جبل محسن بات محسوباً على المعارضة في الوقت الحالي في باب التبانة توالي في غالبيتها فريق 14 آذار. وبصرف النظر عن العقد السياسية التي تكبل إنماء المنطقتين، والحروب التي زادت من إفقار السكان، والسلاح المنتشر بكثرة في الجانبين، فإن الإهمال الرسمي لباب التبانة يجعلها تصنف من بين الأفقر في لبنان، وجبل محسن ليس أفضل حالاً، لكن الإحصاءات حوله تبقى أكثر شحاً. يعيش في باب التبانة حوالي 55 الف شخص في ما يقدر عدد سكان جبل محسن بحوالي 40 الفاً، ولا يزيد عدد العلويين في منطقة شمال لبنان كلها عن 5% من عدد السكان، لكن رغم ان السنة غالبية كبيرة إلا انهم يشعرون بضيم كبير في باب التبانة، ويعبرون عن إحساس شديد بالإهمال والاستغلال السياسي. فنسبة البطالة تكاد تكون من بين الأكبر في لبنان، ويمازحك السكان ويقولون انها 95% بعد اشتعال المعارك الأخيرة اذ ان غالبيتهم من العمال ويتقاضون اجراً يومياً وقد تم تسريحهم من أعمالهم، بسبب تغيبهم، إما للمشاركة في القتال او لعدم قدرتهم على مغادرة المنطقة بسبب القصف. وقد تهدم 10% من مباني باب التبانة في ما تعاني العديد من أبنيتها الأخرى خطر التداعي، وتشكو المنطقة ايضاً من اختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الشرب. وحين نسأل السكان ان كانت جمعيات مدنية تأتي لمساعدتهم او هيئات أخرى يقولون: «كلهم يأتون يسألون، ويكتبون ثم يذهبون ولا نراهم مرة أخرى».