الخليج وأزمة العمال

يشكل العمال الأجانب 80 % من سكان الإمارات.. وفي الكويت يعيشون في أماكن أشبه بأقبية

رجال أمن كويتيون يفرقون عمالا بنغاليين خلال مظاهرة بسبب تأخر صرف رواتبهم (أ.ف.ب)
TT

عندما يذكر اسم الكويت أمام المتقدمين بطلبات عمل في آسيا الجنوبية خارج بلدانهم، تجحظ عيون هؤلاء الفقراء ويسيل لعابهم. فبالنسبة لهم، الكويت بلد غني يدفع مرتبات جيدة ويقدم الخدمات الاساسية لجميع من يعيشون على أرضه. لا يفرض الضرائب على مواطنيه ولا على العاملين المقيمين به. كل ما يطالب به، رسوم رمزية للمعاملات الرسمية التي يجب تحضيرها للبدء بالعمل. لهذه الاسباب، تعتبر الكويت واحدة من أبرز الدول الخليجية التي تستقبل العمالة من بلدان جنوب آسيا. إلا ان أعمال الشغب التي قامت بها مجموعات من العمال الاسيويين في الكويت مطلع الأسبوع، والتي كانت امتدادا لاضرابات وشغب امتدت من الامارات مرورا بالبحرين، طرحت تساؤلات حول حقيقة الاحلام التي يحملها هؤلاء العمال معهم، وحول الحقوق التي تؤمنها لهم هذه البلدان.

فمشهد التخريب وتكسير الممتلكات وحرق السيارات في الكويت لم يكن مشهدا مألوفا في هذا البلد. وهذا المشهد لم يكن سوى جزء من تلك المشاهد التي استفاق عليها أبناء الخليج فجأة، ليكتشفوا أن العمال الوافدين الى بلادهم من بلدان جنوب آسيا، والذين قضوا عقودا طويلة في الخليج وساهموا في تأسيس النهضة الاقتصادية في المنطقة، تحولوا من عمال وادعين مسالمين إلى ثوار متمردين. ثورة هؤلاء العمال لم تبدأ في الكويت، بل كانت امتدادا لثورة بدأت بدبي في الامارات العربية المتحدة، وانتقلت الى البحرين لتصل الى الكويت. بدبي خرج العمال الآسيويون في مظاهرات بدأت سلمية ثم بلغت ذروتها عبر أعمال شغب وتخريب وتكسير للممتلكات العامة. ووصلت بعد ذلك الى البحرين التي تسبب اضراب هؤلاء العمال فيها بأزمة بعد توقف العمل في منشآت حيوية. وهذا الأسبوع وصلت عدوى الغضب العمالي إلى الكويت التي شهدت للمرة الأولى في تاريخها خروج العمال الى الشوارع والمطالبة بحقوقهم عبر القانون أو القوة. ويعتبر ملف العمالة الهامشية من أبرز الملفات التي تعانيها الكويت. فهذا البلد النفطي يعد من أبرز مقاصد العمل للفقراء القادمين من دول آسيا الجنوبية خصوصا، لقوة عملته ومتانة اقتصاده وحاجته للعمالة الرخيصة. ويساعد قدوم أعداد كبيرة من هؤلاء العمال الى الكويت، الفساد المستشري في عدد من وزارات الدولة، خصوصا الوزراتين المعنيتين الداخلية والعمل، ما يتيح المجال لتقديم رشاوى تسهل دخول العمال عبر طرق غير قانونية. وحتى منتصف الأسبوع الماضي، كان دخول الكويت بالنسبة للعمال الاسيويين، يتطلب وجود كفيل يضمن العامل أمام الدولة. ويركز نظام الكفيل على وجود جهة (فرد، مؤسسة، شركة، وزارة) يلتحق بها العامل، على أن تضمن هذه الجهة حسن سلوكه والتزامه بالقانون. إلا أن وجود ثغرات في القانون وعدم تطبيقه بشكل جدي، ساعدا على إحداث اختلال في التركيبة السكانية، أدى إلى ارتفاع عدد المقيمين إلى ضعف المواطنين البالغ عددهم مليون نسمة بحسب بيان رسمي لوزارة التخطيط. وساهم هذا الامر في تنامي نفوذ تجار الإقامات الذين يبيعون سمات دخول البلاد للعمالة الرخيصة بمبالغ تتراوح بين 500 و1500 دينار كويتي (حوالي 1500 – 4500 دولار)، يدفعها العامل للحصول على تأشيرة الدخول، على أن يدفع سنويا للتاجر 300 دينار كويتي (900 دولار) مقابل تجديد إقامته، يسدد منها 50 دينارا (150 دينارا) للدولة، ويحفظ ما تبقى منها لحسابه الخاص، مقابل بقاء الوافد في الكويت من دون أن يكترث بالعمل الذي يقوم به.

يلجأ العامل في الكويت الى العمل في أكثر من وظيفة لتوفير وادخار مبالغ يرسلها إلى أسرته، إلى جانب ما يتحصل عليه كهبات ممن يرأف لحاله. ويتجه العمال الآسيويون بعد انتهاء دوام عملهم في الوزارات، للعمل في خدمة الزبائن في المقاهي والمطاعم، أو حراسة البيوت والأماكن الخاصة لتأمين دخل ثانٍ لهم. كما تلجأ الشركات إلى تقسيمهم لمجموعتين تتشاركان السكن. فالغرفة التي تستوعب ثمانية أشخاص يقطنها ستة عشر، إلا أنهم لا يلتقون في وقت واحد، فمن يعمل في الصباح، يقابله عامل يرتاح في الفترة نفسها. الا انهم يعيشون في بيئات غير صحية، وأماكن ضيقة، بعضها لا يصلح للاستخدام. وبدات المواجهات التي حصلت منتصف الأسبوع الحالي بين العمال وأجهزة الأمن في الكويت، مع تظاهر العمال احتجاجا على عدم تسلم رواتبهم من قبل الشركات التي استقدمتهم للخدمة في وزارات الدولة. وسبقت هذه المواجهات خلال الشهر الماضي، إضرابات نفذوها للتعبير عن مطالبهم، مما أجبر مجلس الوزراء على بحث الموضوع في أحد اجتماعاته، وتعهدت خلاله وزارة العمل بتطبيق أشد العقوبات بحق الشركات المخالفة. واعترف وزير العمل الكويتي بوجود خلل أدى الى خروج العمال عن النظام للمطالبة بحقوقهم. وشدد على ضرورة التحقيق في أسباب المشكلة تمهيدا لمعالجتها، وقال إن جميع هذه الإجراءات أتت بعد إلغاء الحكومة نظام الكفيل في الاستقدام، كونه أبرز عوامل الأحداث الأخيرة. ودعا الى تشكيل فرق تفتيش مهمتها الحفاظ على حقوق العمال ورفع الحد الأدنى لرواتبهم التي يتسلمونها فعلياً. اما العمال فقالوا إن سبب إضرابهم يعود لعدم تسلمهم رواتبهم بشكل منتظم وكامل، إذ تدفع الدولة للشركات التي تستقدمهم حوالي 80 ديناراً لكل عامل، فيما تدفع لهم الشركات 26 ديناراً فقط، كونها توفر لهم السكن والمأكل والمشرب، وتدفع منها رسوما إدارية تشمل تأمينهم صحيا. إلا أن الواقع يؤكد جشع مسؤولي عدد من هذه الشركات، وسعيهم لأكل حقوق العمال والاستفادة من الفرق بين ما تدفعه الدولة للعامل، وما يتلقاه فعليا منها، إلى جانب استفادتهم من الفرق الزمني بين تسلم مستحقات العمال من الدولة وتسليمها لهم، من خلال إيداعها البنوك كودائع قصيرة الأمد، والاستفادة من الفوائد المالية عليها. ولعل الغريبَ في تصاعد أزمة الشغب العمالي الآسيوي في منطقة الخليج، أنه يتعلق بمطالب مادية في أغلب الأحوال، ومصدر الغرابة هنا أن المنطقة تشهد أكبر طفرة بترولية في تاريخها، والسيولة تتدفق من كل حدب وصوب، فأين الخلل؟ وزير العمل البحريني مجيد العلوي، يعد من أبرز المسؤولين الخليجيين الذين ما انفكوا يحذرون من مخاطر العمالة الوافدة على التركيبة السكانية في المنطقة. وفي الوقت نفسه يطالب الحكومات الخليجية بحفظ حقوق هذه العمالة. العلوي يقدر أعداد العمالة الوافدة في الخليج بنحو سبعة عشر مليون عامل، ويتوقع ان تصل أعدادهم الى أكثر من ثلاثين مليون عامل عام 2018. ويعتقد أن التغيرات التي تمر بها العمالة الوافدة في الخليج سببها «أن العامل الأجنبي أصبح متضررا من الجانبين». ويشرح أن موجة الغلاء العالمي تسببت في غلاء الأسعار أيضا في الدول المصدرة للعمالة، ويقول: «فإذا إضفنا إليها انخفاض الدولار الذي ترتبط به عملات الخليج وما يتسبب فيه ذلك من انخفاض عائدات العمالة بنحو 40 في المائة، نستطيع أن نفهم كيف يمكن أن تتأثر هذه العمالة سلبا بسبب مدخراتها التي تتناقص». ويطالب العلوي حكومات دول الخليج بالضغط على أرباب العمل من أجل حفظ حقوق العمالة الوافدة، ومنع أصحاب العمل من الاخلال بالالتزامات المفروضة عليهم. ويضيف وزير العمل البحريني أن «للغلاء دورا رئيسيا في هذه الازمة، فعندما ترتفع الأسعار، فإن التاجر لا يجد أمامه إلا العامل المسكين ليقلل من راتبه الشهري من أجل التوفير في التزاماته الأخرى». ويدعو الى حفظ الحقوق الاخرى للعمال مثل الصحة وتأمين بيئة مناسبة، ويتساءل العلوي: «من يتصور أن بعض العمال يقطنون في ما يشبه حظيرة الأغنام في الوقت الذي يبنون فيه الأبراج الشاهقة الفخمة». ولكن لعقود طويلة عاش ملايين العمال دون أن يتسببوا في أي مشاكل أمنية، فما الذي تغير فجأة في تعاطي هؤلاء مع البلدان التي استضافتهم؟

يعتقد الخبير الاقتصادي، جاسم حسين، أن قضية العمالة الوافدة تعد في غاية الأهمية «نظرا لاستخدام بعض الدول ورقة معاملة العمالة الوافدة للضغط على دول مجلس التعاون قبل توقيع اتفاقيات اقتصادية». ويدلل حسين على أن الولايات المتحدة تضغط على الإمارات باتجاه تحسين ظروف عمل العمالة الوافدة كشرط لإجراء مفاوضات نهائية لتوقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، مشيرا إلى أن البحرين رضخت للشروط الأميركية لتحسين قوانين العمل المتعلقة بالعمالة الوافدة قبل دخول اتفاقية التجارة الحرة الثنائية حيز التنفيذ في آب (أغسطس) عام 2006. ويضيف أن من جملة الأمور، أن البحرين وافقت على إلغاء شرط وجود كفيل محلي للعامل الأجنبي. ومن المنتظر أن يتم العمل بالتعديل في وقت لاحق من العام الجاري. ويقول حسين إن العمالة الأجنبية «تشكل الأغلبية المطلقة للقوى العاملة بكل دول مجلس التعاون بلا استثناء، بيد أن هناك تفاوتا في الإحصاءات، حيث تزيد على 80 في المائة بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة لكنها تقل عن 60 في المائة في السعودية. إلا أن هذه الحقائق لا تشفع للعمال الأجانب، حيث يتعرض عدد غير قليل منهم لصور من الاستغلال». ويبين حسين أن أبرز المشاكل التي تتعرض لها العمالة الوافدة في الخليج هي تأخير دفع الراتب بحيث لا يحصل بعض العمال الأجانب على أجورهم في التواريخ المتفق عليها. فبعض أرباب العمل يتعمدون تأخير دفع الرواتب، لكن يفوت على أرباب العمل أن ذلك يلحق الضرر بأنفسهم في نهاية المطاف. ويعتبر الخبير الاقتصادي أن نقل العمال بحافلات مكشوفة «لا شك أنه منظر بعيد عن مبادئ الإنسانية»، ويقول: «نحن نعيش في القرن الـ21، ونرى صورا حية لنقل العمال الأجانب في سيارات مكشوفة تلسعهم أشعة الشمس على مدى عدة شهور. منظر يبعث على الاشمئزاز ويعكس مدى انتشار الجشع لدى بعض التجار». ويعتقد حسين أن هناك صوراً أخرى تجسد استغلال العمال الأجانب، ويقول ان هناك مشكلة العمل لساعات طويلة. في المقابل، يدَّعي بعض أصحاب الأعمال أنهم يدفعون للوقت الإضافي، لكن في الغالب ليس بمقدور العمال الأجانب رفض الأوامر. كما أن بعضهم لا يعرف على وجه الدقة يوم العطلة الأسبوعي حيث أن الأمر متروك لصاحب العمل. ويتحدث عن «ظاهرة الزج بعدد كبير من العمال في غرفة واحدة». ويقول ان أصحاب الأعمال يميلون إلى حشر أكبر عدد ممكن من العمال في غرفة واحدة مزودة بمرفق صحي واحد دون الاعتبار للآثار السلبية المحتملة على صحتهم. ويتحجج بعض أرباب العمل بأن السكن المتوفر لبعض العمال الأجانب أفضل مما يحصلون عليه في بلدانهم. إلا ان حسين يقول ان هذه المقارنة لا تصح لعدة أسباب؛ منها أنها تؤثر سلبا في صحة باقي المواطنين، اذ يختلط العمال بالمجتمع، كما أن هناك معايير دولية فيما يخص السكن لا يمكن لدول مجلس التعاون التغاضي عنها. إلا ان رجال القانون في الخليج يرفضون الاضرابات والمظاهرات، ويعتبرونها «غير جائزة قبل استيفاء الشروط المنصوص عليها بموجب القانون». ويشرح القانونيون ان هذه الاجراءات تقضي بالإخطار المسبق لصاحب العمل قبل 15 يوما على الأقل والتفاوض مع إدارة العمل حول المنازعات واستنفاذ جميع الوسائل لتسويتها عن طريق التفاوض مع إدارة العمل بالشركة. ويعتبرون أن أي إضراب ينفذ دون التدرج في هذه الإجراءات يعتبر مخالفاً للقانون. العاصمة الاماراتية، شهدت مطلع هذا العام لقاء وزاريا تشاوريا حول العمالة التعاقدية للدول المرسلة والمستقبلة، جمع وزراء عشر دول مستقبلة للعمالة وإحدى عشر دولة مصدرة للعمالة. وخرج اللقاء بتوصيات وقرارات مهمة في مسيرة عقود من استقدام دول الخليج لعشرات الملايين من العمالة الوافدة، غير أن اللافت أن قرارات «حوار أبوظبي» لم تضع حدا «لممارسات غير مشروعة» ضد العمالة الوافدة فحسب، بل ذهبت إلى وضع تدابير الحماية «التي تدعم رفاهيتهم وتحول دون استغلالهم في دول الإرسال ودول الاستقبال على حد سواء»، دون التطرق إلى مسألة الإضرابات التي تحدث بين الحين والآخر في المدن الخليجية. ووفقا للارقام الرسمية التي أعلنت خلال الاجتماعات وتعود لعام 2005، فإن العمال الاسيويين في دول الخليج الذي بلغ عددهم 11 مليون عامل، بزيادة سنوية تصل الى 3.6 في المائة سنويا، قاموا بتحويلات مالية بلغت 59 مليار دولار، نصف هذه التحويلات الى الهند، اذ بلغت التحويلات المالية اليها 26 مليار دولار عام 2005. ويستغرب المراقبون عدم وجود إحصاءات حديثة عن أرقام العمالة الوافدة بدول الخليج، على الرغم من أهمية القضية لدى قطاعات عديدة في هذه الدول. ففي الامارات وحدها، كشف تقرير حكومي حديث أن حوالي ثلاثة ملايين و113 ألف عامل أجنبي عملوا لدى حوالي 260 ألف شركة عام 2007، علما أن عدد المواطنين في الامارات لا يتجاوز 825 ألف نسمة، أي أن نسبة المواطنين تبلغ نحو 20 في المائة فقط. وتعترف مصادر رسمية بأن الامارات تعتمد على عدد متزايد من العمالة الاجنبية، التي تسميها العمالة المؤقتة، من أقطار مصدرة لها. وتبين سجلات وزارة العمل الاماراتية أن القوة العاملة الوافدة تتألف من رعايا وفدوا من 202 دولة. ويقول مسؤولون في الامارات إن بلادهم تعكف على تطوير معاييرها القانونية وتطبيق سياسات تستهدف استيعاب هذا العدد المتسارع النمو من السكان، وما انفكت تشرع قوانين وسياسات لضمان أن يشعر العمال الوافدون اليها بالترحيب والأمان وأن يعرفوا حقوقهم جيدا. وينبغي التذكير بأن دول الخليج اكدت في اتفاقياتها مع الاقطار المصدرة للعمالة على حق العمال المطلق في تحويل مدخراتهم الى اي بلد يختارونه. وفي عام 2006 قدرت هذه التحويلات من دولة الامارات بنحو 16 مليار دولار سنوياً. ويؤكد المسؤولون في الامارات أن العمالة الاجنبية في البلاد ضخمة على نحو استثنائي وتتشكل من ثقافات متنوعة وتحتل أكثر من 90 في المائة من القوة العاملة في القطاع الخاص.