آخر أيام.. مشرف

مشكلة الرئيس الباكستاني أنه طوال سنوات حكمه لم يحاول أن يبني قاعدة شعبية له

الحكومة الباكستانية.. اعلنت التمرد على مشرف («الشرق الأوسط»)
TT

إذا ما نظرنا إلى نتائج استطلاعات الرأي العام التي أجريت في الوقت الحاضر كمؤشر يمكن الاعتماد عليه، نجد أن الرئيس الباكستاني بروفيز مشرف جاء في مرتبة أدنى القادة شعبية في كل تاريخ باكستان. لذلك، عندما أعلن الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه حزب الشعب الباكستاني عزمه طرح قرار لسحب الثقة من الرئيس مشرف داخل البرلمان، قوبل الإعلان بابتهاج على نطاق واسع، وربما الخوف أيضاً، حيث يخشى البعض من إمكانية أن يحاول مشرف الانتقام من خلال حل البرلمان والحكومة. يذكر أن الدستور الحالي يمنحه بالفعل سلطة القيام بذلك باعتباره رئيس البلاد. بيد أنه بمرور الوقت حلت مشاعر عدوانية محل هذه المخاوف داخل وسائل الإعلام والشارع الباكستاني مع تراجع مستوى الدعم السياسي الذي يحظى به مشرف تدريجياً.

فعلى امتداد السنوات التسع التي قضاها في السلطة، لم يهتم مشرف قط ببناء قاعدة تأييد شعبي له. بدلاً من ذلك، اعتمدت سلطته السياسية على دعامتين رئيستين: أولهما: الدعم المالي والسياسي من قبل الإدارة الأميركية، وثانيهما: الدعم السياسي النشط من جانب الجيش الباكستاني. ومع وصول قيادات سياسية جديدة إلى السلطة ـ آصف علي زارداري ورئيس الوزراء السابق نواز شريف ـ ومحاولتهما إقصاءه عن السلطة، وجد مشرف نفسه في موقف تخلى عنه فيه كل من الأميركيين والجيش. من جانبها، تدعو واشنطن منذ أمد بعيد إلى إقامة علاقات عمل بين آصف علي زارداري ومشرف، وغيرت موقفها أخيراً، حيث بدأت بالمطالبة «بخروج كريم» لـمشرف. وفي هذا الإطار، صرح المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض يوم الإعلان عن طرح قرار سحب الثقة، أن: «سحب الثقة من الرئيس مشرف يعد شأناً داخلياً باكستانياً يجب تسويته وفقاً للقانون والدستور». وبالمثل، أشارت تقارير إعلامية باكستانية إلى أن رئيس هيئة أركان الجيش الباكستاني، الجنرال أشفق بيرفيز كياني، نقل رسالة إلى مشرف مفادها أن الجيش لا يرغب في جره إلى التورط في خلافات سياسية ويود البقاء كطرف محايد في الصراع الدائر بين الحكومة التي يتزعمها حزب الشعب الباكستاني والرئيس. يذكر أنه على امتداد تسع سنوات حكم الرئيس مشرف البلاد دون أن يضطر إلى مشاركة السلطة مع أي شخص أو مؤسسة أخرى. عندما نفذ الجنرال مشرف انقلابا عسكريا ضد حكومة منتخبة في أكتوبر (تشرين الأول) 1999، فرضت الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى عقوبات اقتصادية وعسكرية على إسلام أباد التي بات يُنظر إليها كدولة منبوذة من جانب المجتمع الدولي. في هذا الصدد، أشار تنوير أحمد خان، وزير الخارجية الباكستاني السابق، إلى أن: «أحداث 11 سبتمبر (أيلول) بدلت الموقف، حيث تمكن الجنرال مشرف من تعزيز مكانته داخل هيكل السلطة وأخرج باكستان من عزلتها الدولية. عندما شن الإرهابيون هذه الهجمات، كانت إسلام أباد تواجه السنة الرابعة من حالة ركود اقتصادي حاد. وتكشف الإحصاءات أنه عام 2000، بلغ معدل النمو الاقتصادي 2.6% فقط، بانخفاض بالغ عن معدل النمو الذي حققته البلاد على امتداد الثمانينات والتسعينات والذي وصل في المتوسط إلى 6%. وأسفرت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عن انهيار ثقة المستثمرين في البيئة التجارية الباكستانية. وبعدما قاد الرئيس مشرف باكستان نحو الانضمام إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، طلب من الولايات المتحدة مساعدة اقتصادية عاجلة. يذكر أنه بسبب برنامجها النووي والانقلاب العسكري الذي شهدته، تعرضت باكستان إلى ثلاثة مستويات من العقوبات الأميركية يرجع تاريخها إلى عام 1990. وكان من الضروري إلغاؤها جميعاً قبل موافقة الكونغرس الأميركي على تقديم المساعدات المطلوبة لإسلام أباد. وعليه، تقدمت إسلام أباد بطلب لواشنطن لرفع جميع العقوبات الأميركية، وإسقاط ديون تقدر بـ 3 مليارات دولار، واستئناف المساعدات العسكرية وتوفير قروض سريعة لها من جانب كل من الولايات المتحدة والبنك الدولي. استجابة للطلب، سارع الرئيس بوش برفع جميع العقوبات الأميركية المفروضة على إسلام أباد والسماح بتدفق المساعدات عليها. ومثلما الحال مع جميع الحكام العسكريين الآخرين، عمد مشرف إلى استغلال المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية في تعزيز وضعه داخل هيكل السلطة الباكستاني. في نفس الأثناء تقريباً، شرع الرئيس مشرف في تجربة بناء هيكل سلطة سياسية موائم لتطلعاته بحيث يدين بالولاء الأول لـمشرف. وبناءً على تعليمات الرئيس مشرف، أنشأت وكالة الاستخبارات الباكستانية حزبا سياسيا مواليا له أُطلق عليه «حزب الرابطة الإسلامية»، وذلك بعد إجبار عدد من الشخصيات السياسية ذات النفوذ على تغيير ولاءاتها والانضمام إلى الحزب الموالي لـمشرف. وأعقب ذلك إجراء انتخابات عام 2002، أكدت أحزاب المعارضة التي كانت قائمة حينذاك أنه تم تزويرها. وفي تعليقه على هذا الأمر، أوضح سهيل ناصر، الصحافي الكبير بإحدى الصحف البارزة الصادرة باللغة الأردية أن: «جميع الأنظمة العسكرية السابقة سارت على الدرب ذاته، حيث تقوم بتجديد حزب الرابطة الإسلامية الباكستاني وتعقد اتفاقات مع السياسيين من أصحاب النفوذ لضمان ولائهم لحكم الجيش». من ناحيته، استغل الرئيس مشرف وكالة الاستخبارات الباكستانية في الضغط على المعارضين السياسيين للانضمام إلى حزب الرابطة الإسلامية الذي يتزعمه. وشدد جافيد هاشمي، المسؤول البارز بحزب الرابطة الإسلامية (نواز)، في تصريح لصحيفة «الشرق الأوسط»، على أن: «الشعب الباكستاني تم تجاهله تماماً خلال حكم مشرف الممتد لتسع سنوات وجرى استغلال آليات الدولة في خلق حزب سياسي موال لمشرف». وتزامنت جهود «مشرف» لإقامة كيان سياسي موال له مع خطاباته الهجومية ضد الزعماء المتمتعين بشعبية كبيرة، إلى جانب اثنين من رؤساء وزراء باكستان السابقين ـ «بناظير بوتو» و«نواز شريف». من جهته، أعرب نجم سيثي، المعلق السياسي البارز، عن اعتقاده بأن: كل من زارداري، رئيس حزب الشعب الباكستاني وشريف، رئيس حزب الرابطة الإسلامية، يكرهان الرئيس لأسباب سياسية وشخصية. «من المعروف أن مشرف أطاح بـنواز شريف من السلطة عام 1999، وطرده إلى المنفى في السعودية، ولم يسمح له بالعودة سوى في العام السابق للمشاركة في الانتخابات التي أُجريت في فبراير (شباط)، وذلك بسبب الضغوط الدولية التي تعرض لها. أما آصف علي زارداري فتعرض للسجن لست سنوات، ثم تم السماح له بمغادرة البلاد للانضمام إلى زوجته، بناظير بوتو، في المنفى في دبي». وأضاف سيثي أنه: «بفضل الضغوط الأميركية، سُمح لها بالعودة للمشاركة في أكتوبر (تشرين الأول) للمنافسة في الانتخابات، أما هو (آصف علي زارداري) فلم يعد سوى بعد اغتيالها في ديسمبر (كانون الأول)». وبدأ مشرف يفقد سيطرته على السلطة في أعقاب الانتخابات البرلمانية في 18 فبراير (شباط) 2008 التي فاز فيها حزبا الشعب الباكستاني والرابطة الإسلامية (نواز)، بينما مُني الحلفاء السياسيين لـ «مشرف» بهزيمة منكرة. ويرى الكثير من كبار المحللين السياسيين أن خطأ «مشرف» الأكبر تمثل في فقدانه تركيزه على الحرب ضد الإرهاب، ما أسفر عن إثارة سخط أنصاره في واشنطن، في الوقت الذي أخفق في الفوز بالتأييد الشعبي الداخلي. وعلى امتداد ما يتجاوز أربعة شهور حتى الآن، تشعر واشنطن بالسخط حيال عدم تعاون إسلام أباد مع قوات التحالف في إطار جهود الحرب ضد الإرهاب داخل المناطق القبلية الباكستانية. كما تتهم واشنطن وكالة الاستخبارات الداخلية الباكستانية، المرتبطة بصورة وثيقة بـمشرف، بالتواطؤ مع الهجمات التي شنتها جماعة «طالبان» ضد السفارة الهندية في كابول الشهر السابق. وعندما زار رئيس الوزراء الباكستاني، يوسف رضا جيلاني، واشنطن الشهر السابق يوليو (تموز) 2008)، اشتكى الرئيس بوش أمامه من تواطؤ الاستخبارات الباكستانية مع طالبان والمقاتلين الأجانب المختبئين داخل المناطق القبلية الباكستانية ودعمها إياهم، حسبما أشار أحمد مختار، وزير الدفاع الباكستاني أمام وسائل الإعلام فور لقائه بالرئيس بوش في واشنطن في يوليو (تموز). والآن، تميل لعبة الأرقام والأعداد السياسية داخل البرلمان الباكستاني بصورة حاسمة ضد مشرف. من ناحيته، صرح إحسان إقبال، المسؤول الإعلامي داخل حزب الرابطة الإسلامية (نواز شريف) في تصريح له لـ «الشرق الأوسط»، بأن: «الرئيس مشرف يعتبر ضيفاً لبضعة أيام، وسيجري انتخاب الرئيس الباكستاني الجديد بعد عقد مشاورات مع جميع الأطراف المشاركة في الائتلاف الحاكم». وصرح فسيح الرحمن، المعلق السياسي ورئيس قناة «الدنيا» الإخبارية الخاصة: «يبدو أن الحكومة التي يترأسها حزب الشعب الباكستاني تتبع استراتيجية الضغط على الرئيس مشرف كي يتقدم باستقالته قبل الشروع في عملية سحب الثقة».

على الجانب الآخر، يحاول المعسكر الموالي للرئيس مشرف استعادة نفوذه السياسي من خلال تسريب روايات لوسائل الإعلام حول احتفال مشرف في 11 أغسطس (آب) بعيد ميلاده الخامس والستين. وحضر الاحتفال ثلاثة مسؤولين عسكريين بارزين، وهم رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال أشفق بيرفيز كياني، ورئيس لجنة هيئة الأركان المشتركة الجنرال طارق ماجد ومدير عام وكالة الاستخبارات الباكستانية الداخلية الفريق نديم تاج. ومع ذلك، يبدو أن الجيش الباكستاني يلتزم الحياد في الصراع الدائر على السلطة بين الرئيس والائتلاف الحكومي الذي يتزعمه حزب الشعب الباكستاني. من جهته، أكد مسؤول كبير بالجيش الباكستاني في تصريح لـ «الشرق الأوسط»، على أن: «ليس أمامنا دور لنضطلع به في الحياة السياسية الداخلية الباكستانية، لكن نعتقد بضرورة توافر استقرار سياسي بالبلاد». وبالمثل، أقر رئيس الوزراء يوسف علي جيلاني موقف الجيش في بيان عام أصدره يوم الثلاثاء. وقال في تصريحات له لوسائل الإعلام: «دعوني أقول لكم ان رئيس هيئة أركان الجيش الحالي، الجنرال أشفق بيرفيز كياني، شخصية عسكرية تتميز بمهنية عالية، وأنه مؤيد للديمقراطية».

أما التساؤل الأكثر حيوية الذي يدور الجدال حوله داخل الدوائر السياسية في إسلام أباد في الوقت الراهن فهو ما إذا كانت الحكومة التي يقودها حزب الشعب الباكستاني ستقدم الرئيس مشرف للمحاكمة بتهمة انتهاك الدستور. في هذا الصدد، أكد رانا قيصر، رئيس تحرير صحيفة «ديلي تايمز» الصادرة بالإنجليزية، أنه: «يجب أن نعود إلى التاريخ للبحث عن الإجابات. لقد تولى الجيش دوماً حماية قادته السابقين وكبار ضباطه، فحتى الرئيس يحيى خان والذي انقسمت باكستان خلال فترة رئاسته إلى شطرين، تم دفنه وهو مغطى بالعلم الوطني». وتظهر بصورة يومية تقارير بوسائل الإعلام حول دراسة الحكومة لفكرة محاكمة الرئيس مشرف طبقاً للمادة السادسة بالدستور المعنية بجريمة «تخريب الدستور». جدير بالذكر أنه خلال التاريخ الباكستاني الممتد على مدار 61 عاماً، عمد الحكام العسكريون المتعاقبون إلى تجميد الدستور فيما يزيد على أربع مناسبات. وعام 1973، أقر رئيس الوزراء آنذاك ذو الفقار علي بوتو، المادة السادسة في أحدث وثيقة للدستور. وتنص المادة على محاكمة أي شخص يقوم بتخريب الدستور بأي صورة من الصور. من ناحيته، استبعد فسيح الرحمن أن تقدم الحكومة مشرف للمحاكمة. وفي إشارة إلى تصريحات صحافية واردة على لسان مصادر رسمية لم يتم الكشف عنها أشارت إلى أنه بمجرد اكتمال عملية سحب الثقة سيتم القبض على مشرف، قال فسيح الرحمن إن هذه «الأخبار المسربة إلى الصحف ترمي لتعزيز الضغوط على الرئيس مشرف. وأعتقد أنه في ظل الظروف السياسية الراهنة، من غير المحتمل إجراء محاكمة لمشرف». من ناحية أخرى، يجري بذل جهود دولية في الوقت الحاضر لضمان خروج آمن للرئيس مشرف من السلطة. وعلى هذا الصعيد، تعمل السفيرة الأميركية، «آنا بيترسون» وأحد الدبلوماسيين البريطانيين رفيعي المستوى على عقد اجتماعات مع قادة الائتلاف الحكومي. من ناحيتهم، صرح المسؤولون الحكوميون الباكستانيون بأن وزير الداخلية الباكستاني، رحمن مالك، على اتصال دائم بمنزل الرئيس للاستفسار حول ما إذا كان الرئيس على استعداد للاستقالة قبل البدء فعلياً في عملية سحب الثقة. وبغض النظر عن النتيجة النهائية لهذه الجهود، يرى المحللون السياسيون أن الأمر المؤكد أنه سيكون من العسير للغاية بالنسبة للرئيس مشرف العيش داخل الأراضي الباكستانية كمواطن عادي. وتعتقد الاستخبارات الباكستانية أن الرئيس مشرف يعد وسوف يستمر واحداً من الأهداف الرئيسة للمتطرفين الدينيين والمسلحين القبليين الذين يقاتلون ضد القوات الأمنية الباكستانية داخل المناطق القبلية بالبلاد. ولن تظهر إجابة مؤكدة على مثل هذه التساؤلات قبل ثلاثة أو أربعة أسابيع. وفي تلك الأثناء، ستستمر الدوائر السياسية الباكستانية في العمل على التكهن بما إذا كان الرئيس مشرف لديه القدرة على تقديم مفاجأة جديدة مثلما دأب على مدار السنوات التسع السابقة، أم أنه سيتحول إلى الرئيس الباكستاني الوحيد الذي تم سحب الثقة منه.