شرخ في علاقات الصداقة

إذا كانت جورجيا أول من رفع راية العصيان ضد موسكو.. فقد كانت أوكرانيا صاحبة فكرة تفكيك الاتحاد السوفياتي.. وهو ما اختزنته الذاكرة الروسية بالألم والأسى

TT

اثارت الحرب الاخيرة في القوقاز ووقوع اول مواجهة عسكرية مباشرة في التاريخ المعاصر بين اثنين من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق ـ روسيا وجورجيا ـ قضية تدهور علاقات الرفاق ممن سبق وانضووا تحت راية الدولة الواحدة على مدى العديد من القرون في اطار الامبراطورية الروسية ثم الاتحاد السوفياتي. ويشير الكثير من الشواهد الى ان خلافات روسيا مع الشقيقات من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق تتوقف على قدر تغلغل القوى الغربية في كل من هذه البلدان وهيمنة الولايات المتحدة وتأثيرها على الصفوة السياسية والثقافية هناك . ولذا كان من الطبيعي ان تعلن هذه الظاهرة عن نفسها بقدر اكبر في بلدان القسم الاوروبي من الاتحاد السوفياتي السابق وتحديدا في اوكرانيا وجورجيا، وبشكل اكثر وضوحا في بلدان البلطيق استونيا ولاتفيا وليتوانيا في اعقاب اعلان استقلالها عن الاتحاد السوفياتي قبيل انهياره باشهر قلائل، حيث تتزايد حدة العداء التاريخي لروسيا منذ سنوات الامبراطورية الروسية التي شهدت الكثير من الصراعات والحروب ومنها ما اسفر عن احتلال بولندا لجزء من اراضي هذه الامبراطورية. على ان التاريخ الحديث لم يذكر مثل هذا التوتر الذي يبدو اليوم السمة المميزة لعلاقات روسيا مع كل من جورجيا واوكرانيا. واذا كانت جورجيا اول من رفع راية العصيان ضد موسكو حين اعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي من جانب واحد في 1990 بعد تولى زفياد غامساخورديا مقاليد الحكم في تبليسي قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي ووقوفه وراء تأليب بعض شعوب بلدان شمال القوقاز ومنها الشيشان ضد روسيا، فقد كانت اوكرانيا صاحبة الفكرة الاساسية لتقنين تفكيك الاتحاد السوفياتي وحصول كل من جمهورياته على الاستقلال التام، بعد تزعم توقيع اتفاقيات بيلوفجسكويه بوشا في بيلاروس في الثامن من ديسمبر 1991 وهو ما اختزنته الذاكرة الروسية بالشديد من الالم والاسى معا. وكانت اوكرانيا اقدمت على هذه الخطوة بالتعاون مع الرئيس الروسي الاسبق بوريس يلتسين الذي بارك دعوة الرئيس الاوكراني الاسبق ايضا ليونيد كرافتشوك الى اجتماع مع رئيس السوفيات الاعلى لبيلاروس ستانيسلاف شوشكيفيتش لبحث السبيل القانوني للاعلان عن استقلال الجمهوريات الثلاث بما يعني بالتبعية العمل على انهيار الاتحاد السوفياتي. فعلت اوكرانيا ذلك بعد فترة من العيش المشترك دام لما يزيد عن قرنين ونصف القرن من الزمان يوم راح زعماؤها الجدد يفتشون في سلبيات الماضي ويعزون الكثير من متاعب الحاضر الى وقوعهم تحت نير ما وصفوه بالاحتلال الجائر وهيمنة الشوفينية الروسية، بل وظهر من يتهم روسيا بارتكاب جرائم ابادة الاوكرانيين جوعا والزج بهم الى اتون الحرب العالمية الثانية. واستند هؤلاء الى الكراهية التاريخية التي تكنها الاغلبية من ابناء غرب اوكرانيا لروسيا منذ ما قبل ثورة اكتوبر 1917 التي رفع الكثير من القوى القومية في غرب اوكرانيا راية العداء لها وهو ما ظل الكثيرون هناك يخفونه بين جوانحهم طول سنوات السلطة السوفياتية.

وفي الوقت الذي انغلقت فيه جورجيا على نفسها بعد انفصالها عن روسيا والاتحاد السوفياتي قبيل الانهيار الرسمي في 1991 في محاولة لتسوية مشاكلها الداخلية بعد اندلاع الحرب الاهلية واعلان ثلاث من جمهورياتها ذات الحكم الذاتي وهي ابخازيا واوسيتيا الجنوبية وادجاريا عن انفصالها من جانب واحد في مطلع التسعينات، كانت اوكرانيا تحاول مد جسور الود والصداقة مع الدوائر الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي وقفت وراء اصرار كييف على اقتسام القدرات العسكرية للاتحاد السوفياتي ومنها القدرات النووية معلنة عن موافقتها على تدميرها مقابل تعويض مادي لم يكن كبيرا اقدمت واشنطن على سداده . وفيما كانت واشنطن تواصل محاولاتها الرامية الى تدمير جسور العلاقات القديمة بين موسكو وحلفائها في شرق اوروبا وما جوار البلطيق، انكفأت موسكو على هموم الداخل في محاولة لتسوية الخلافات بين ممثلي القوى السياسية ممن راحوا يتسابقون في تقديم التنازلات الى شقيقات الامس مقابل اقرارها بالامر الواقع، ومنها الموافقة على التنازل عن اراضي روسيا التاريخية ومنها شبه جزيرة القرم التي سبق واهداها الزعيم السوفياتي الاسبق نيكيتا خروشوف الى اوكرانيا في عام 1954 وكذلك سيفاستوبول القاعدة الرئيسية التاريخية للاسطول الروسي في البحر الاسود ما تتجرع روسيا مرارته اليوم على وقع تصاعد تهديدات القيادة الاوكرانية بعدم مد فترة استئجار هذه القاعدة بعد عام 2017. كان الرئيس الاوكراني كرافتشوك خلال مفاوضاته مع رفيقه القديم بوريس يلتسين بالغ التشدد في الدفاع عن مصالح اوكرانيا خصما من رصيد المصالح الجيوسياسية لروسيا. حتى ليونيد كوتشما الرئيس الاوكراني الذي خلف كرافتشوك مستندا الى شعارات وحدوية مع الجار الاكبر ـ روسيا عاد وانقلب على شعاراته لينتزع من روسيا اليلتسينية المريضة المزيد من المكاسب السياسية التي كانت في مقدمة اسباب تأجيج المشاعر القومية في اوكرانيا وظهور ممثلي التوجهات الليبرالية الغربية. ولذا لم يكن غريبا ان يعود الرفاق من اركان فريق الرئيس كوتشما وفي مقدمتهم فيكتور يوشينكو الرئيس الحالي لاوكرانيا ورئيسة حكومته يوليا تيموشينكو الى صدارة قوائم الانتخابات البرلمانية في اوكرانيا في ديسمبر 2004 والتي كانت المقدمة العملية لاندلاع احداث «الثورة البرتقالية» ورفع راية العداء والمواجهة السافرة مع موسكو. ويذكر التاريخ ان احداث هذه الثورة كشفت عمليا عن انقسام اوكرانيا الى غرب وشرق بنسب متقاربة ديموغرافيا وجغرافيا، ما جسدته نتائج الانتخابات التي تقدم فيها يوشينكو ممثلا للقوى القومية في غرب اوكرانيا على منافسه فيكتور يانوكوفيتش ممثلا لشرق اوكرانيا الذي تقطنه الغالبية الناطقة بالروسية بنسبة لا تزيد عن واحد في المائة من اصوات الناخبين. وقد استغلت الدوائر الغربية وتحديدا الاميركية انفجار المواجهة بين موسكو وكييف لتعلن صراحة عن وقوفها الى جانب يوشينكو الذي اختار زوجته الثانية من الاميركيات من اصل اوكراني وكانت تعمل في وزارة الخارجية الاميركية. ولذا كان من الطبيعي ان يمضي يوشينكو ورفاقه الى ما هو ابعد من خلال توجهه الى الغرب بطلب الانضمام الى الناتو، معربا عن رغبته ايضا في الحصول على عضوية الاتحاد الاوروبي من دون سند شعبي او تشريعي وهو ما تصر الاغلبية الناطقة بالروسية على توفيره من خلال استفتاء شعبي، بمباركة مباشرة من جانب موسكو. في غضون مثل هذه الاحداث تزايدت حدة توتر العلاقة بين موسكو وكييف بعد اعلان روسيا عن اصرارها على التوقف عن تقديم التنازلات الاقتصادية الى اوكرانيا وضرورة التزامها بالاسعار العالمية لسداد وارداتها من الغاز والنفط ما كان سببا في ارتباك الخطط الاقتصادية لرفاق الثورة البرتقالية الذين انقسموا على انفسهم فيما تفاقمت خلافات زعيميهم يوشينكو وتيموشينكو. وكان ذلك ايضا في مقدمة اسباب اندفاع كييف الرسمية صوب توطيد التحالفات مع خصوم روسيا في شرق اوروبا مثل بولندا التي تواصل مع جورجيا وعدد من بلدان البلطيق محاولات حشد القوى المعادية لموسكو عبر مختلف المنظمات والتجمعات الاقليمية. ولم تكن كل هذه الوقائع لتكون بعيدة عن اسماع وعيون الكرملين الذي عاد مع تولي بوتين لمقاليد الحكم في روسيا ليحذر من مغبة توسع الناتو على مقربة مباشرة من الحدود الروسية والانتشار في مناطق، يعتبرها ساحة مشروعة لمصالحه الحيوية وهو ما افصح صراحة عنه في اعقاب اعلان قمة الناتو في رومانيا في مطلع هذا العام التي اقرت فكرة ادراج اوكرانيا وجورجيا على قائمة المرشحين لعضوية الناتو .

وكانت موسكو قد تحولت صراحة منذ خطاب الرئيس الروسي السابق بوتين في ميونيخ في فبراير 2007 صوب المواجهة ضد محاولات الغرب الرامية الى التطاول على المصالح الروسية في الفضاء السوفياتي السابق وضد انفراد قوى بعينها بالقرار الدولي. وقصدت موسكو بذلك تحديدا تكثيف الدوائر الغربية لنشاطها في اوكرانيا وجورجيا وهو ما عادت لتؤكده عن طريق القوة على ارض الواقع في جورجيا التي عادت لتنشد دعم الرفاق الجدد الذين تقاطروا على تبليسي، تعبيرا عن الدعم والتاييد ومنهم رؤساء كل من بولندا واوكرانيا وبلدان البلطيق الثلاث. على ان الخلافات الجورجية الروسية لم تكن وليدة اليوم او الامس القريب، بل تعود الى تسعينيات القرن الماضي يوم استشعرت القيادة الجورجية وقوف موسكو غير المعلن الى جانب اعلان «الجمهوريات الانفصالية» حسب التسمية الغربية و«غير المعترف بها» حسب التسمية الروسية عن الاستقلال عن جورجيا. آنذاك تدخلت روسيا لتقر واقع الدفع بقوات حفظ السلام الروسية بموجب اتفاقيات عام 1992 التي اكتسبت لاحقا الاعتراف الدولى من جانب الامم المتحدة ومنظمة الامن والتعاون الاوروبي، فيما اعقبتها باتفاقيات داغوميس (منتجع على مقربة من سوتشي على ضفاف البحر الاسود) التي اقرت عدم اللجوء الى القوة سبيلا لحل الخلافات السياسية بين جورجيا وابخازيا، وهي التي انقذت الرئيس ادوارد شيفارنادزه من «الاسر غير المعلن» الذي وقع فيه في اعقاب محاولته تفقد القوات الجورجية في الاراضي الابخازية. على ان الدور الروسي ورغم ما اتسم به من طابع الوساطة لم يكن ليروق لشيفارنادزه، ربما تحت وقع تأثير مرارة الوضع المزري الذي عاشه الى جانب اتهامه لروسيا صراحة بالوقوف وراء المحاولة الفاشلة لاغتياله في تبليسي من جانب القوى المعروفة بموالاتها لموسكو. جنح شيفارنادزه صراحة نحو اصدقائه الغربيين القدامى، ممن سبق ووقع تحت تأثيرهم ليقدم التنازل تلو الآخر إبان توليه منصب وزير الخارجية السوفياتية ومنهم وزيرا خارجية الولايات المتحدة والمانيا الغربية الاسبقان جيمس بيكر وهانز ديتريخ جينشر وهو ما لم يكن بعيدا عن اعين الكرملين ومتابعات جهاز مخابراته. ويذكر التاريخ ان شيفارنادزه هو الذي قام بتصعيد نجوم اليوم من امثال الرئيس الحالي ساكاشفيللي ورئيسة برلمانه نينو بورجانادزه ولم يكونا قد بلغا الثلاثين من العمر الى الانساق العليا للسلطة. وحين انقلب السحر على الساحر واطاح ساكاشفيللي ورفاقه بشيفارنادزه في اعقاب ثورة الزهور في خريف عام 2004 اعترف الاخير بانه لم يكن يتوقع ذلك من اقرب الاصدقاء ولم يكن يقصد بذلك تلاميذه ومريديه في الداخل بقدر ما كان يقصد الدوائر الغربية والمنظمات الاميركية مثل «صندوق سوروس» التي وقفت وراء تمويل «الثورة» و«الانقلابيين» على حد تعبيره.

غير ان الواقع يقول ايضا ان التلاميذ لم يبتعدوا في حقيقة الامر عن النهج الذي سبق ورسم معلمهم ملامحه، حيث استهلوا فترة حكمهم بالترويج لفكرة الانضمام الى الناتو والاتحاد الاوروبي وراحوا يبذلون الغالي والنفيس لنشر شعارات الثورات الملونة التس سرعان ما تحققت في اوكرانيا، متمثلة في «الثورة البرتقالية»، لكنها لم تلق رواجا في آسيا الوسطى ابان انقلاب رفاق «ثورة السوسن» في قيرغيزيا على الرئيس عسكر اكايف الذي لاذ بالفرار الى موسكو، وإن عاد الانقلابيون عن غيهم لينشدوا ثانية دعم موسكو، وهو ما جرى على نحو مماثل تقريبا بعد نجاح اوزبكستان وقزقستان في اخماد التحركات التي استهدفت الاطاحة بالنظام في كل من الجمهوريتين. ويذكر المراقبون ان موسكو كانت قد وقفت سدا منيعا الى جانب النظامين ولا سيما في اوزبكستان التي سارع رئيسها اسلام كريموف باعلانه الخروج من منظمة «جووام» التي تضم خصوم موسكو مثل جورجيا واوكرانيا والعودة ثانية الى معاهدة الامن الجماعي لبلدان الكومنولث التي سبق واعلن انسحابه منها. وكانت الاوساط الاوروبية قد استشعرت في ذلك ايضا اصرار موسكو على العودة الى الساحة السياسية العالمية والاقليمية لتدافع عن مصالحها القومية ضد كل المحاولات الغربية إبان سنوات الضعف الروسي ابان حكم الرئيس يلتسين في تسعينات القرن الماضي لتنفيذ سياسات «ملء الفراغ» في الفضاء السوفياتي السابق. وهاهي موسكو تقف اليوم لتواصل ما بدأه الرئيس السابق بوتين في مطلع القرن الواحد والعشرين من تحركات لاستعادة مكانة الدولة الروسية فيما يقف على مقربة من موقعه الجديد كرئيس للحكومة الروسية، ليدير معركة المواجهة رغم ضراوة الحملات الاعلامية الغربية التي عادت لتسقط في شرك الخلط بين الضحية والجلاد، واعلاء معيار الكيل بمكيالين... هكذا يقول الكثيرون من المراقبين في موسكو، والقليلون خارج موسكو.