المرأة التي لن ينساها الموريتانيون

بنت البخاري ارتبطت عند الموريتانيين بالانتقال الديمقراطي وعودة العسكر

TT

قليل من الموريتانيين من كان يعرف اسم خت بنت البخاري عقيلة الرئيس المخلوع سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قبل تنصيب زوجها رئيسا للبلاد في انتخابات رئاسية أجريت في شهر مارس (آذار) عام 2007 إذ لم يسبق لسيدة موريتانيا الأولى أن مارست عملا سياسيا أو اجتماعيا معلنا كما أنها لم تتبوأ منصبا حكوميا يمنحها شهرة في الأوساط الموريتانية.

وقد لعبت بنت البخاري دورا محوريا في وصول زوجها إلى السلطة من خلال حشد الدعم والتأييد الشعبيين له في حملته الانتخابية التي خاضها ضد منافسيه السياسيين ولم يسبق لولد الشيخ عبد الله أن ترشح لأي منصب سياسي قبل هذه الانتخابات، مما زاد من صعوبة مهمة القائمين على تسويقه في هذه الانتخابات. ومنذ وصول ولد الشيخ عبد الله إلى سدة الحكم بعد حسم المعركة ضد منافسه أحمد ولد داداه، استطاعت خت بنت البخاري أن تسرق الأضواء وتجعل الأنظار تتجه إليها ربما أكثر من زوجها بسبب حضورها القوي في الإعلام الرسمي والمستقل وحرصها على الظهور إلى جانب الرؤساء والأمراء الذين يتوافدون بين الحين والآخر إلى موريتانيا للتباحث مع الرئيس الجديد إضافة إلى محاولتها النزول إلى الميدان للاحتكاك بالمواطنين وقيامها بخدمات اجتماعية في الأحياء الشعبية في نواكشوط.

وكثر الحديث عن بنت البخاري في الأوساط العامة منذ إعلانها فتح مؤسسة خيرية بعد شهر من تنصيب زوجها بهدف مساعدة الفقراء وتمويل مشاريع صغيرة لسكان القرى النائية في الداخل الموريتاني ومكافحة بعض الأمراض المزمنة التي تصيب في الغالب الطبقات الفقيرة والمهمشة نتيجة سوء التغذية وغياب الوعي الصحي، فكانت أول مؤسسة خيرية لسيدة أولى في موريتانيا.

بيد أن هذا الحضور الإعلامي والاجتماعي المفاجئ لبنت البخاري بدا غريبا في أسلوب المجتمع الموريتاني الذي ظل لوقت قريب يحظر على المرأة ممارسة الكثير من الأنشطة ويفرض عليها نوعا من الاحتشام يمنعها من دخول بعض الميادين الحكر على الرجال في نظر الكثيرين هنا ومن بينها العمل الخيري خصوصا وأن زوجات الرؤساء السابقين لم يكتب لهن الظهور في وسائل الإعلام إلا في مناسبات خاصة وقليلة، كما أنهن لم يرافقن أزواجهن إلى الخارج إلا في أسفار محدودة ولعل هذا ما جعل الأنظار متجهة أكثر إلى بنت البخاري التي كان يقول مقربون منها إنها تجد في أسفار زوجها فرصة للتعريف بمؤسستها ومحاولة الحصول على تمويلات لها، الأمر الذي يجعلها حريصة على اغتنام هذه الفرصة.

وخلال سنة ونصف من حكم الرئيس المخلوع سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله استطاعت بنت البخاري ربط صلات قوية بالعديد من الرؤساء العرب والأفارقة والأوروبيين وعرفت مؤسساها الخيرية نشاطا محموما حيث تدخلت في بعض المناطق الموريتانية التي شهدت كوارث طبيعية من بينها مدينة الطينطان التي غمرتها المياه الناجمة عن امطار غزيرة في شهر أغسطس (آب) 2007 مخلفة ضحايا ومتسببة في نزوح السكان إلى خارج المدينة، وكانت سيارات تابعة لهيئة عقيلة الرئيس هي أول من وصل إلى عين المكان محملة بالخيم والأغطية وبعض المواد الغذائية قبل أن تنهال عليها المساعدات من مختلف دول العالم وفي مقدمتها السعودية التي قدمت مبلغ 20 مليون دولار لدعم المنكوبين جراء هذه الفيضانات.

ويحسب لبنت البخاري تدخلها في مجالات اجتماعية وصحية عديدة وقيامها بحملات تحسيسية لسكان القرى الفقيرة والأحياء الشعبية في العاصمة نواكشوط. وتقول الطاهرة بنت حنبار إنها عرفت حرم الرئيس المخلوع لبعض الوقت وكان لديها طموح كبير للقيام بأعمال إنسانية وكانت تخطط منذ فترة لإنشاء هيئة خيرية لكن ذلك لم يتسن لها إلا بعد وصول زوجها إلى الرئاسة.

وتصف الفنانة الشهيرة بنت حنباره سيدة موريتانيا الأولى بأنها صبورة وذات قدرة على المناورة «رغم ما ينقصها من حنكة في التعامل مع الآخرين ورغم مستواها الثقافي المحدود»، وتضيف «كانت آخر مرة التقيت بها يوم خروجها من القصر بعد الإطاحة بالرئيس، كانت بشوشة ولا تبدو عليها مظاهر الاستياء رغم قساوة الموقف.. كانت تستقبل زوارها بأريحية وهي تبتسم وكأن شيئا لم يحدث».

إلا أن حضور بنت البخاري في الحياة السياسية وفتحها صراعا مع مجلس الشيوخ الغرفة الثانية في البرلمان أثار موجة غضب عارمة في الأوساط السياسية وبدا الحديث يتزايد عن تأثيرها على قرارات زوجها وقيامها بتصرفات أخرى فسرت من طرف بعض النواب البرلمانيين على أنها محاولة لاستغلال النفوذ للحصول على أموال من طرف بعض المؤسسات الحكومية لصالح هيئتها الخيرية وهو أمر مخالف للنظم المعمول بها في قانون الهيئات الخيرية في موريتانيا.

لكن هذه الاتهامات التي وجهها النواب لعقيلة الرئيس خت بنت البخاري والتي قادت إلى مطالبتهم بفتح تحقيق في مصادر تمويل هيئتها الخيرية بدت في نظر المراقبين مجرد محاولة لإزعاج الرئيس سيدي محمد ولد السيخ عبد الله الذي كان هو الآخر قد دخل في صراع مع ضباط سامين في المؤسسة العسكرية بسبب إعادة عناصر من رجالات الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع الذين يوصفون برموز الفساد إلى الحكومة بعد ان أبعدهم العسكر وإشراكه كذلك لحزبين سياسيين كانا معارضين سابقا هما اتحاد قوى التقدم اليساري والتجمع الوطني للإصلاح والتنمية الإسلامي في هذه الحكومة.

وفي محاولة للإطاحة بمن اصطلح محليا على تسميتهم برموز الفساد في ظل إصرار الرئيس على بقائهم بدأ نواب في البرلمان الموريتاني التحضير لاتخاذ إجراءات حجب الثقة عن ثاني حكومة تشكل في عهد الرئيس الجديد برئاسة رجل ثقته الأول يحيى ولد الوقف، ووجد الرئيس الموريتاني نفسه مرغما على التهديد بحل البرلمان إذا لم يتراجع النواب عن قرار حجب الثقة ، لكن البرلمانيين كسبوا المعركة بتقديم ولد الوقف استقالته ليعاد تكليفه مرة ثانية بتشكيل حكومة جديدة كانت هذه المرة خالية من أحزاب المعارضة و"رموز الفساد" نزولا عند رغبة العسكر الذين يقال إنهم يحركون النواب ويوفرون لهم الحماية من أية تداعيات محتملة لهذه المواقف.

وفي ظل هذا الوضع المتأزم ظهر أن شهر العسل في علاقة الرئيس بكبار المؤسسة العسكرية قد انتهى وأن التعايش أصبح مستحيلا وبدأ التخطيط لرسم ملامح فترة ما بعد ولد الشيخ عبد الله .

وحسب المتابعين للشأن السياسي فإن مطالبة نواب في مجلس الشيوخ بفتح تحقيق في مصادر تمويل هيئة عقيلة الرئيس والدعوة لدورة برلمانية طارئة يتصدر جدول اعمالها تشكيل محكمة العدل السامية كلها أمور تاتي في سياق التخلص من الرئيس المنتخب عن طريق انقلاب دستوري يدفع للإطاحة به قبل انتهاء الفترة المحددة قانونا بخمس سنوات ودون اللجوء إلى انتخابات قد تعيده مرة أخرى إلى الواجهة.

لكن ردة فعل حرم الرئيس الحادة والمفاجئة في زمانها ومكانها على مطالبة الشيوخ بتحقيق في هيئتها زادت من حدة التوتر بين الطرفين حيث استغلت عقيلة ولد الشيخ عبد الله فرصة حضورها اجتماعا مع زوجها في العاصمة الإسبانية مدريد للرد على اتهامات الشيوخ الذين وصفتهم بالكذب والخداع وقالت إنها تأسف لانتخاب البعض منهم.

وأوضحت بنت البخاري أن رجالا من أبناء عمومتها هم الذين تبرعوا بمبالغ ضخمة لهيئتها الخيرية نافية أن تكون حصلت على أموال من أية مؤسسة حكومية في موريتانيا. وبعد نشر مواقع الكترونية وصحف محلية لتصريحات بنت البخاري المثيرة سارع أعضاء مجلس الشيوخ لعقد مؤتمر صحافي عبروا من خلاله عن دهشتهم الكبيرة من هذه التصريحات التي وصفوها بالمسيئة واعتبروا أنها جريمة يعاقب عليها القانون واعلنوا عن دخولهم في مشاورات لتدارس شكل الخطوة المقبلة مهددين بمتابعة بنت البخاري والمطالبة بمحاكمتها وتوقيفها في مطار نواكشوط فور عودتها مع زوجها من إسبانيا . وكان امام الرئيس الموريتاني الذي وجد نفسه فجأة في مواجهة جبهة قوية من النواب والشيوخ خياران أساسيان للخروج من هذه الأزمة أحدهما الإعلان عن حل البرلمان لقطع الطريق أمام مساعي النواب الرامية للتحقيق في هيئة عقيلته وحجب الثقة عن حكومته، أما الثاني فهو إقالة الضباط الذين يقال إنهم يقفون وراء هذه الجبهة ويقدمون لها ضمانات بالحيلولة دون استخدام الرئيس لصلاحياته في حل هذه الجمعية الوطنية (الغرفة الأولى والثانية في البرلمان) الأمر الذي من شأنه أن يضع حدا لمساعي النواب.

وفي أول ظهور تلفزيوني له بعد اندلاع هذه الأزمة حرص الرئيس ولد الشيخ عبد الله على التذكير بهذه الصلاحيات لكنه لم يمتلك الجرأة الكاملة لاستخدامها وكانت تلك المرة الثالثة التي يلوح فيها بحل البرلمان دون أن يقدم على ذلك ربما لأنه يحاول ثني النواب عن مساعيهم دون أن يستخدم أوراقه التي أراد الاحتفاظ بها للوقت المناسب.

ويقول مراقبون سياسيون إن الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ربما أدرك أن إقدامه على حل الجمعية الوطنية سيفتح الفرصة أمام مناوريه لاتهامه بتعطيل المؤسسات الدستورية التي انتخبها الشعب وهو امر قد يحسب ضده على أنه انحراف في المسار الديمقراطي خصوصا وأن شركاءه الدوليين أبدوا عدم استعدادهم لتمويل انتخابات برلمانية أخرى، في حين يرى آخرون أن مستشاري الرئيس السياسيين كانت لديهم المخاوف من عدم حصولهم على الأغلبية في حال تنظيم انتخابات أخرى بسبب تدخل محتمل لضباط المؤسسة العسكرية في تعبئة الناخبين ضد التيار الموالي للرئيس وكان ولد الشيخ عبد الله نفسه اعترف في مقابلة صحافية بأن هؤلاء الضباط هم من أوصلوه إلى الحكم في الانتخابات الرئاسية الماضية من خلال حشد الدعم له، ما يجعل إحرازه لأغلبية برلمانية في ظل مناوءتهم له أمرا صعبا.

بلغ الصراع بين الرئيس السابق وضباط العسكر ذروته بعد مقابلته الصحافية التي دافع فيها باستماتة عن عقيلته خت بنت البخاري واستبعد حصولها على أية مبالغ من مؤسسات حكومية واعتبر الخوض في هذه الأمور أمرا منافيا «لأخلاق وقيم المجتمع الموريتاني الأصيل».

وجاءت هذه التصريحات بمثابة آخر حلقة في مسلسل الصراع الذي دام لفترة حيث بدأ الرئيس ترتيباته الأخيرة لوضع حد لنفوذ العسكر وتجسد ذلك في قرار إقالة أربع قيادات عسكرية من بينهم الجنرال محمد ولد عبد العزيز قائد أركان الحرس الرئاسي الخاص ومحمد ولد الغزواني قائد القوات المسلحة، لكن هذا القرار الذي اتخذه الرئيس بإملاء من مستشاريه ويقال إن لعقيلته دورا بارزا في تحريضه عليه، تم تمريره عبر قنوات غير معهودة ربما حفاظا على سريته في ظل المخاوف من تسربه لهؤلاء القادة المقالين الذين يقال إن لهم عيونا يقظة في مختلف دهاليز القصر الرئاسي .

وفي صبيحة الأربعاء السادس من أغسطس 2008 أذيع مرسوم إقالة قادة الجيش في وسائل الإعلام الرسمية لكن مخطط الانقلاب على الرئيس المخلوع كان جاهزا منذ وقت وفق ما أكدت ابنته آمال التي كانت تعمل مع أبيها مستشارة في الرئاسة، فبعد مضي أربعين دقيقة على إذاعة المرسوم أحكم الحرس الرئاسي سيطرته على القصر الرئاسي وألقي القبض على ولد الشيخ عبد الله ورئيس حكومته وسيطر الجيش على مباني الإذاعة والتلفزيون الرسميين وأذيع البيان الأول الذي يضع حدا نهائيا لحكم الرئيس ونصب الجنرال محمد ولد عبد العزيز نفسه خلفا له ثم أعلن عن تشكيل مجلس أعلى للدولة يضم 11 عسكريا.

شاهدت خت بنت البخاري عن قرب وقائع الانقلاب الذي أطاح بزوجها فجأة وكيف اقتاده رجال الجنرال من مقر إقامته، بينما كان يتناول مع باقي افراد الأسرة مائدة إفطار الصباح وبقيت عقيلة الرئيس مع أبنائها رهن الاحتجاز لبعض الوقت في ذلك القصر قبل أن تعود إلى منزلها الذي تركته منذ 18 شهرا وبقي اسم بنت البخاري مرتبطا عند الموريتانيين بحادثتين محوريتين في تاريخ البلد إحداهما انتخابات رئاسية حملت أول رئيس مدني منتخب إلى السلطة وثانيهما انقلاب عسكري أجهض التجربة الديمقراطية في موريتانيا وأعاد البزة العسكرية إلى أسوار القصر الرئاسي بعد أن غادرته لبعض الوقت.