دعنا.. نتشاءم قليلا

صار العالم كله مثل مركز تجاري يتجول فيه الإنسان ليشتري ما يريد.. لكننا وقت الأزمات نحتاج إلى العودة للقاعدة الأولى

مطعم في ولاية فلوريدا الأميركية كتب على لافتة امامه «مغلق بسبب الاقتصاد» («الشرق الأوسط»)
TT

مؤخرا، كتبت باربرا ايرينرايك، ليبرالية تقدمية، ومؤلفة اكثر من عشرين كتابا، من بينها كتاب: «بحث بدون فائدة عن الحلم الاميركي» تقول: «يوجد سببان للكارثة الاقتصادية التي نواجهها هذه الايام: اولا: الطمع. ثانيا: التفاؤل». قالت ايرينرايك إن التفاؤل جزء من الشخصية الاميركية، وان الاميركيين، ربما دون غيرهم من الشعوب، دائما متفائلون. ودائما يعتقدون ان وراء كل مشكلة حلا. لكن، في الجانب الآخر، قالت ان الطمع يهدد هذا التفاؤل. ليس طمعا في مزيد من المال فقط، ولكن، ايضا، طمعا في مزيد من السلطة، والاهمية، والقوة. وقالت ان اساس تفاؤل الاميركي هو الدين، وان الله مع اميركا عندما تواجه كارثة اقتصادية تكاد تدمر كل النظام الاقتصادي.

في البداية كان تفاؤل الاميركي فكريا، وليس ماديا. او، كان فكريا قبل ان يكون ماديا. وكانت فلسفته هي ان يعمل الانسان ويعرق ويكدح ليصير ثريا.

ويمكن متابعة جذور تفاني الاميركي في عمله في أعمال المفكر جون كالفين (توفي سنة 1564) ابو الكالفنية التي دعت، في اوروبا وقبل اكتشاف اميركا، الى: اولا، الإيمان بالله. ثانيا: العمل لنيل رضاه، وجزء من هذا العمل هو أكل العيش. وثالثا: التواضع والتكفير عن الخطايا.

لكن، في نفس الوقت، شجع كالفن الرأسمالية. وقال ان الانسان يجب ان يكون حرا في ان يعمل ما يريد، وكما يريد. لكن انتقد كالفن تجار المال الذين يحصدون أرباحا من الربا (في عالم اليوم: الذين يبيعون ويشترون ويضاربون في المال، والاسهم، والارصدة). لم يعارض الربح، ولا سعر الفائدة، وقال إن توفير المال «عمل» يستحق صاحبه «فائدة» عليه.

أفتى كالفين بذلك رغم ان تجارة المال او الربا محرمة في الانجيل، ورغم ان فلاسفة قبل الانجيل، مثل ارسطو اليوناني، عارضوا الربح وسعر الفائدة.

لكن، على اي حال، وضع كالفين شرطا رئيسيا، وهو ان لا يفرض سعر الفائدة على من لا يقدر على دفعها. لهذا، يمكن القول ان كارثة البنوك والمؤسسات الاستثمارية في وول ستريت (شارع المال في نيويورك) اليوم هي اختبار لنظرية كالفين بكل جوانبها.

فخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نافست النظرية الكالفنية (ذات الخلفية الدينية) النظرية العلمانية (ذات الخلفية المادية). ومع بداية القرن العشرين، ظهر علم النفس، وخاصة عالم النفس الالماني سيجموند فرويد (توفي سنة 1939) الذي حول علم النفس الى علاج ودواء. ومما قاله فرويد: «ليس هناك تشاؤم، وليس هناك تفاؤل. لأن هذه أوصاف عقلية. هناك الواقعية التي يجب على العقل ان يتعود عليها» ولهذا، ركز على التفكير، والتحليل، والتخطيط.

لكن، مع بداية القرن العشرين ايضا، وكرد فعل على ظهور علم النفس والابتعاد عن الله، ظهر التفكير الايجابي (بوسيتف ثنكينغ) الذي يخلط بين الواقعية والقدر، وبين التحليل النفسي وبين الصلاة والدعاء. وصار التفكير الإيجابي جزءا من الثقافة اليومية المعاشة في اميركا. وظهر هذا طبعا على صعيد الاقتصاد، فالبنوك متفائلة تقرض كثيرا جدا، اكثر مما تمتلك، والمواطنون متفائلون ينفقون كثيرا جدا، اكثر من قدراتهم وأكثر مما يكسبون. كما ظهر هذا التفاؤل في الفن. فقبل عشر سنوات، غنت فرقة «اكاوستيك الكيمي» (صوت كيماوي) اغنية "بوسيتيف ثينكينغ" (التفكير الايجابي). وتقول بدايتها: «صرت شجاعا، وتقول انك ستهرب من هنا. لكنك تحتاج الى ان تتعلم اشياء كثيرة. يجب ان تكون واقعيا. يجب ان تطيع القوانين». وقبل سنتين، ظهر فيلم «سيكرت» (السر) التوثيقي، عن التفكير الايجابي، اعتمادا على كتاب صدر سنة 1910، وفيه ارشادات عن كيف يمكن ان يصير الانسان غنيا. ووثق الفيلم تطور فلسفة ان الانسان يقدر على ان يحقق كل ما يريد، وان العالم كله صار مثل مركز تجاري، يتجول فيه الانسان ليشتري ما يريد.

وقبل ثماني سنوات، غنت فرقة «راديو هيد» اغنية «اوبتيميزم» (التفاؤل) وفيها: «يطير الذباب حولي. تحلق الصقور فوقي. يأكل السمك الكبير السمك الصغير. لا شيء يهم. اريد ان آكل، تقدر على ان تحقق ما تريد» وتنتهي الاغنية بترديد «تقدر على ان تحقق ما تريد».

ووصل التفكير الايجابي مرحلة الاعتقاد بأن كل شيء ممكن في هذا العالم. وان الانسان، اذا رغب في اي شيء يقدر على ان يحصل عليه: هل تريد ان تخفض وزنك؟ التحق بمعهد لتخفيض الوزن. هل تريد ان تزيد ثروتك؟ استثمر في بنوك تضمن لك عوائد عالية. وظهر مدربون ليستأجرهم الناس ليعلمونهم الخطابة، والاستثمار، والطبخ، وغيرهم. وصار الطريق نحو السعادة مفروشا بكتب ومدربين ومحاضرات. وظهر فرع من فروع علم النفس بهدف تحقيق السعادة.

وتطور التفكير الايجابي الى علم نفس ايحابي. ففي سنة 1998، قال مارتن سيلغمان، رئيس جمعية اطباء النفس الاميركية: «لم يعد علم النفس مرضا ومشاكل. صار الطريق نحو السعادة. لم يعد سلبيا، وصار ايجابيا» وهكذا تغيرت نظرة الفكر البشري الى الموضوع: فقبل آلاف السنين، قال الحكيم اليوناني سقراط ان السعادة هي التعليم والعلم. وقال افلاطون ان السعادة هي الوصول الى معنى عميق للحياة. وقال ارسطو ان السعادة هي حياة الفضيلة. وقال النرجسيون انها حب النفس. وقال الطماعون إنها جمع المال.

كل ذلك رغم ان الاديان السماوية قالت ان السعادة حب الله والتقرب اليه وطاعته. واثرت المسيحية على التفكير الغربي في هذا الموضوع: وضعت فضائل ليتبعها الناس (الحرية، العدل، الامل، الخير، التواضع، الصبر، التأدب). ووضعت خطاياها ليتحاشونها (اللذة، الكذب، الغضب، الاستعلاء، الطمع، الحسد). ورغم أن كفة التفكير الايجابي لا تزال هي الراجحة في المجتمع الاميركي العلماني، كشفت الكارثة الاقتصادية ان الانسان، في النهاية، لا يقدر ان يعيش بدون سند ديني، قوي او ضعيف. ففي آخر عدد من مجلة «غايد بوست» (شهرية وعائلة وشبه متدينة) كتب رئيس تحريرها، ريك هاملين، عن الكارثة الاقتصادية: «عندي صديق يعمل في وول ستريت. انه قريب مني في السن: منتصف الخمسينات. وعمل لعشرين سنة في بنك استثماري. لكنه الآن يواجه الفصل من العمل بعد ان اعلن البنك إفلاسه، في انتظار غوث من الحكومة الاميركية. لم يحقق صديقي من عمله ثروة، ولم يخصص ملايين الدولارات لنفسه. كان موظفا عاديا، يسافر كثيرا، ويبتعد عن عائلته كثيرا. وفقد حضور مباريات اولاده في كرة القدم، وحضور دروس رقص البالية لبناته. لكن، يواجه الآن كارثتين: الاولى: فقد وظيفته. الثانية: فقد معاشه الكبير، وذلك لان انخفاض اسعار الاسهم خفض معاشه كثيرا. سألته: كيف تواجه هذه الكارثة يا جيم؟ اجاب: «كل ليلة، عندما ارقد على السرير لأنام، اتذكر الله، واقول لنفسي: لا بد ان الله يحبني، ثم اغمض عيني، واحاول ان انام» وفي الاسبوع الماضي، ذهبت كرستين كيرني، مراسلة وكالة «رويتر» في نيويورك، الى «كنيسة وول ستريت» (الكنيسة الوحيدة في المنطقة). وقال لها قسيسها مارك جونز انه لاحظ زيادة الزوار منذ بداية الكارثة الاقتصادية. وقال: «يذكرنا ما يدور حولنا بأننا يجب ان نعبد الله، لا المال» ولاحظت ان الكنيسة معلم سياحي، اكثر منها مكانا للعبادة، ولأنها في قلب شارع المال، ولانها كانت قريبة من مركز التجارة العالمي، اصيبت ببعض الاضرار يوم انفجار 11 سبتمبر.

وشاهدت المراسلة الصحافية رجالا ونساء يبدو انهم يعملون في البنوك والمؤسسات الاستثمارية، وقد ركعوا على ارض الكنيسة، يبكون وهم يصلون، ويدعون بأصوات عالية. كأنها شاهدت كالفين يشجع الراسمالية والعمل الحر، وفي نفس الوقت، يدعو الى طاعة الله .