باكستان: مخاوف من توتر سني ـ شيعي

صعود الجماعات السنية على الشريط الحدودي يخيف الكثيرين.. ويزيد القلق من تصعيد طائفي

TT

أعمال العنف المتلاحقة التي تشهدها باكستان، تخيف العالم كله. لكنها تخيف الباكستانيين أكثر. فالجهة الأشد تورطا في موجة الاغتيالات والتفجيرات التي شهدتها باكستان خلال العام الماضي وهذا العام، كانت جماعة طالبان الباكستانية وجماعات اخرى على الشريط الحدودي بين باكستان وافغانستان. والمشكلة الكبيرة التي يطرحها هذا الواقع، وفقا للتجربة الباكستانية، أنه كلما اشتد عود الجماعات السنية المتطرفة، اشتد عود الجماعات الشيعية المتطرفة. وهذا خطر كبير في بلد له تاريخ مع اعمال العنف الطائفي. فقد شهدت التسعينات من القرن الماضي، تصاعدا مخيفا لأعمال العنف الطائفي بين الشيعة والسنة في باكستان، سواء من ناحية النطاق أو الكثافة. وخلفت الاشتباكات المتكررة بين الطائفتين مئات القتلى وآلاف الجرحى، من بينهم دبلوماسيون إيرانيون، وكبار موظفي الدولة وزعماء دينيون بارزون من الجانبين. ووفقا للأرقام الرسمية، فقد قتل 622 شخصا، في 395 حادثا طائفيا وقع في إقليم البنجاب، في ما بين عام 1990 ويونيو (حزيران) عام 2001. ولكن تفوق الأرقام غير الرسمية هذا الرقم بكثير. لم تعد التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة الآن حادة كما كانت في التسعينات. يعود السبب الأساسي إلى أن الرئيس السابق برويز مشرف حظر الجماعات المسلحة مثل سباه الصحابة (جيش الصحابة) وسباه محمد (جيش محمد) عام 2001، وبالتالي نجحت حكومة مشرف في تطبيق استراتيجية للسيطرة على الميول الطائفية العنيفة في المجتمع.

ولكن يحمل معظم الخبراء الأمنيين رأيا بأن تهديد العنف الطائفي، لم ينته وقابل للاشتعال في أي وقت، حيث ما زالت هذه الجماعات تعمل سرا. ثانيا، يختبئ ناشطو هذه الجماعات الطائفية المسلحة تحت عباءة صفوف الجماعات السياسية التي ما زالت تعمل في العلن.

فعلى سبيل المثال، تقيم جماعات سنية مسلحة مثل «جيش الصحابة» علاقات وثيقة مع منظمات سياسية دينية مثل «جماعة علماء الإسلام»، وهي الآن جزء من الائتلاف الحاكم.

الجانب الخطير في عمليات هذه الجماعات الطائفية، هو علاقاتها الخارجية. فهناك دليل واضح على أن الجماعات الشيعية المسلحة، تحصل على دعم من الحكومة الإيرانية منذ الثورة الإسلامية في إيران. وكثيرا ما وجه مسؤولو الحكومة الباكستانية، اتهامات للحكومة الإيرانية بالتورط في الصراعات الطائفية الباكستانية. من جانب آخر، الجماعات السنية المسلحة لديها علاقات قوية بجماعات إرهابية دولية مثل «القاعدة». وقد ظل الزعماء المسلحين السنة ضيوفا على طالبان في كابل وقندهار، هربا من الملاحقات الأمنية ضدهم في باكستان. فما هي أهم الجماعات الأصولية المسلحة في باكستان اليوم والتي تسبب خوفا داخليا وخارجيا من دورها، وتورطها في أعمال العنف المتزايدة في باكستان. أولا: جيش الصحابة: جيش الصحابة في باكستان هو أكبر جماعة طائفية ديوبندية في البلاد، وقد تم حظر نشاطها في يناير (كانون الثاني) عام 2002، ولكنها ما زالت موجودة على أسس تنظيمية. وقد قتل مائتان من زعمائها منذ إنشائها وحتى حظرها، وكان لها دور في أكثر من ألف حادث كبير من العنف والاشتباكات الطائفية. تأسس جيش الصحابة عام 1985. وكان من مؤسسيه مولانا حق نواز جانجوي، ومولانا زيوار رحمن فاروقي، ومولانا إيثار الحق قاسمي، ومولانا عزم طارق. وكان مقر الجماعة في مدينة جهانغ الصغيرة في وسط ولاية البنجاب الباكستانية، وكانت ميدانا لاشتباكات بين الشيعة والسنة منذ ثلاثة عقود. ويحدد المحللون السياسيون عدة عناصر ساهمت في تشكيل هذه الجماعة الطائفية العنيفة. منها أنه يسود في جهانغ مجتمع واقتصاد إقطاعيان منذ قديم الأزل، ومعظم المناطق في المدينة يملكها الشيعة. بينما أصحاب الخيم الذين لا يملكون أراضي والطبقة العاملة التجارية من السنة. تحول هذا الصراع الاقتصادي إلى صراع طائفي في أوائل الثمانينات، عندما فرض الحاكم العسكري الجنرال ضياء الحق، قانونا بوجوب دفع الزكاة على كل مواطن باكستاني. فأقام المجتمع الشيعي احتجاجات واسعة النطاق ضد فرض الزكاة، وعلى خلفية هذا الاحتجاج، تحولت جماعة «جيش الصحابة» السنية إلى جماعة سياسية لمواجهة تحدي الجماعات الشيعية. بعد إنشائها، اتخذ زعماء «جيش الصحابة» موقفا صادما آخر لأن بعض كتب الشيعة الدينية تحتوى على إساءات لأصحاب الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم. ونتيجة لتلك الأنشطة، نشبت مصادمات في «جهانغ»، ومن ثم تزايدت أعمال العنف الطائفي في البنجاب وفي النهاية انتشرت في باكستان. وتورط «جيش الصحابة» في عمليات قتل استهدفت علماء دين وأطباء ومحامين شيعة ومواطنين عاديين. ويمكن الحكم على مستوى أعمال العنف الذي تسببت فيها أنشطة «جيش الصحابة» على ضوء حقيقة وهي أن كل القادة البارزين في «جيش الصحابة» تم اغتيالهم خلال الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي. ويحصل «جيش الصحابة» بالأساس على دعم مادي من التجار الصغار ورجال أعمال في مدن إقليم بنجاب مثل كاراتشي ولاهور وتشينيوت وفيصل آباد ومولتان، ولديه تنظيم جيد على مستوى المناطق في بنجاب، التي تعد أكبر إقليم في باكستان. وقبل أن يتم حظره، كانت هناك وحدات تابعة له تعمل في 74 منطقة و225 منطقة فرعية. وهناك تنظيم آخر يتمتع بنظام جيد في باكستان هو «جماعة الإسلام». وقد اتهمت الحكومات السابقة في باكستان «جيش الصحابة» بالحصول على تمويل من دول أجنبية خلال التسعينات من القرن الماضي، وفي الوقت الذي ينفي فيه «جيش الصحابة» تلك الادعاءات، نجد قياداته تتهم إيران بتوفير الأسلحة والتدريب والتمويل لخصومه، وقد أزكى ذلك نيران أعمال العنف الطائفي في باكستان. فعلى سبيل المثال، عندما قتل مؤسس «جيش الصحابة» حق نواز جانجوي في فبراير (شباط) 1990، اتهمت قيادات «جيش الصحابة» إيران وقيادات شيعية محلية بالمسؤولية عن عملية الاغتيال. وفي أعقاب مقتل جانجوي شهدت باكستان أسوأ أعمال عنف طائفي في مدنها. وقام «جيش الصحابة» بقتل دبلوماسي إيراني بارز، وهو صادق غانجي، الذي قتل في لاهور عام 1994 انتقاما لمقتل حق نواز جانجوي. وبعد اغتيال حق نواز جانجوي انقسم «جيش الصحابة» إلى فرق مختلفة. ويقول محلل سياسي باكستاني لـ«الشرق الأوسط»: إن جيش الصحابة انقسم الى ثلاثة فصائل وكل فصيل يدعو بدرجات متفاوتة الى العنف. المجموعة الأولى تضم معظم المخلصين لحق نواز جانجوي، وكان موقفهم أن رسالة جانجوي يجب أن تحقق حتى لو تطلب ذلك القيام بأعمال إرهابية. المجموعة الثانية كانت ترى أن «جيش الصحابة» يجب أن يتحول إلى حزب سياسي، وأن يكون له جناح مسلح كتنظيم منفصل يرعاه جيش الصحابة. المجموعة الثالثة رأت أن أعمال العنف الطائفية بين الشيعة والسنة غير مرغوبة في باكستان على الإطلاق، ولكن تلك المجموعة تمثل أقلية ضعيفة للغاية. وقد سيطر على الهيكلة التنظيمية لجيش الصحابة بعض القيادات مثل عزام طارق، الذي خاض الانتخابات البرلمانية وانضم إلى تحالفات اليمين السياسي خلال التسعينات من القرن الماضي. وترك الأعضاء الأكثر عنفا، التنظيم وشكلوا مجموعات مسلحة لها نهج أكثر عنفا. ويقول الباحث الباكستاني أمير رانا لـ«الشرق الأوسط»: «بدأ مناصرو استخدام القوة ترك جيش الصحابة لتشكيل مجموعات منفصلة أكثر عنفا». وكان من بين تلك المجموعات جيش جانجوي. فما هو جيش جانجوي؟ أسس جيش جانجوي في عام 1996 وكان الأصولي المتطرف رياض بصرة رئيسا له. وبدأ التنظيم أعماله الإرهابية عقب تأسيسه مباشرة باستهداف القيادات الشيعية والمسؤول الحكوميين الشيعية. وتقول إحصائيات الشرطة أنه بحلول عام 2001 كان جيش جانجوي قد تورط في 350 حادثة اغتيال ضد قيادات شيعية وغيرها من العمليات الإرهابية في مختلف أنحاء باكستان. وقد تعرض التنظيم للكثير من الصعوبات خلال الولاية الثانية لنواز شريف في منصب رئيس الوزراء، حيث قتل العشرات من نشطائه في مواجهات مع الشرطة بين عامي 1998 و1999. وانتقاما لذلك، حاول التنظيم اغتيال نواز شريف في الثاني من يناير (كانون الثاني) 1999، عندما انفجرت قنبلة في طريق كان من المفترض أن يمر فيه موكب شريف. وينظر إلى جيش جانجوي على أنه قسم من «جيش الصحابة» في باكستان، ولكن نفت قيادات «جيش الصحابة» علنا، أية علاقة بجيش جانجوي. ولكن بصورة غير رسمية فإن التنظيمين على اتصال، ويقيم عمال ونشطاء جيش جانجوي في مكاتب «جيش الصحابة» والمدارس التابعة له. وبعد أن بدأت الحكومة الباكستانية عمليتها ضد إرهابي جيش جانجوي في عام 1998، هرب معظم نشطائه خارج باكستان ولاذوا بأفغانستان، حيث كانوا يديرون معسكرا للتدريبات العسكرية. وفي أفغانستان حدث انقسام في صفوف جيش جانجوي عندما وقع خلاف بين مجموعة يتزعمها قاري عبد الحي، ومجموعة يتزعمها رياض بصرة بشأن خطة تستهدف القيام بموجة من الاغتيال للنيل من قيادات شيعية في باكستان. وفي سبتمبر (أيلول) 2000 وقعت مصادمات بين المجموعتين في كابل، أدت إلى حمام من الدماء، ولكن انتصرت مجموعة رياض بصرة في تلك المصادمات. وظل رياض بصرة يدخل ويخرج من باكستان لتنفيذ موجة من الاغتيالات ضد القيادات الشيعية في باكستان خلال الـ12 عاما الماضية، قبل أن تقوم القوات الأمنية الباكستانية باغتياله في مواجهة في إحدى مدن البنجاب عام 2002. وكان رياض مطلوبا في أكثر من 300 قضية مرتبطة بالإرهاب، وكان من بينها اغتيال شخصيات شيعية بارزة، وكان أبرز قضايا الاغتيال مقتل الدبلوماسي الإيراني البارز صادق غانجي. ومما أجج أعمال العنف الطائفئ أن القيادات الشيعية في باكستان شكلت جناحا عسكريا خاصا بها للرد على الاعتداءات ضد رموز الشيعة، على الرغم من أن بعض التنظيمات الشيعية الأخرى كانت منخرطة بالفعل في أعمال عنف طائفية، اذ قام بعض القادة الشيعية الأكثر راديكالية بتشكيل مجموعة أطلق عليها «جيش محمد» كقوة لمواجهة التسلح السني المتنامي في عام 1993. «جيش محمد» كان عبارة عن مجموعة مسلحة شيعية متورطة في عمليات قتل طائفي في البنجاب، وهي أحد تنظيمين حظرهما الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف في الرابع عشر من أغسطس (آب)2001. والمؤرخون غير دقيقين في التاريخ الذي أسس فيه «جيش محمد» تحديدا، ولكن يعتقد على نطاق واسع أن القيادي الشيعي مريد عباس يازداني أنشأه في عام 1993، بعد أن تأكد من أن التنظيم السياسي الشيعي الوحيد في باكستان آنذاك، لن يسمح لشبابه بمواجهة التسلح السني بالقوة. وحسبما تشير إحصائيات للشرطة الباكستانية، فإن «جيش محمد» متورط في أكثر من 250 قضية ذات صلة بالإرهاب وقتل طائفي في البنجاب في الفترة بين عام 1993 وعام 2001. ويقول مسؤول بارز في الشرطة إن «جيش محمد» حوّل منطقة في لاهور إلى منطقة لا تستطيع الشرطة الذهاب إليها، وقد حاولت الشرطة أربع مرات على الأقل اقتحام المعقل الشيعي في منتصف التسعينات من القرن الماضي، ولكنها كانت تفشل في كل مرة عن الوصول إلى مرادها. ويقدر أن «جيش محمد» يتبعه أكثر من 30 الف شخص. وكما هو الحال في التنظيمات المسلحة الطائفية الأخرى، كانت هناك انشقاقات داخلية بين صفوف التنظيم أدت إلى اقتتال داخلي. ويقول أحد المحللين السياسيين، إن سقوط «جيش محمد» بدأ عام 1996 عندما قتل مريد عباس يازداني زعيم التنظيم، وكان من الواضح أن عملية القتل تمت بأيد داخل التنظيم نفسه. وكشفت تحقيقات الشرطة عن أن القتل كان نتيجة للتنافس بينه وبين قيادي آخر داخل التنظيم. ونتيجة لذلك الاقتتال الداخلي تحول المواطنون الشيعة الذين اعتادوا أن يوفروا ملاذا لقيادات «جيش محمد» ضدهم وبدؤوا يخرجوهم من المنطقة عام 1996. الا أن الخطر الذي يتحدث عنه الباكستانيون حاليا، هو أن صعود الجماعات المتطرفة وزيادة نفوذها، خصوصا على الشريط الحدودي سيؤدي الى احياء الجماعات الشيعية داخل باكستان التي لا تريد ان تفقد معركة النفوذ بوقفها متفرجة على تمدد واشتداد خطوة التنظيمات السنية المتطرفة. إذا حدث هذا، فإن باكستان قد تكون امام موجه جديدة من العنف الطائفي بين السنة والشيعة، تتداخل فيه أيد داخلية واقليمية.