عالم تحت الأرض

عدد الأنفاق في غزة يقارب 1100 وتشغل 1400 عامل متوسط أجر الواحد منهم حوالي 2000 دولار شهريا .. وحماس تجمع ضرائب عليها وتعطي تراخيص لمدها بالكهرباء

فلسطيني يتحدث بالهاتف من أحد الأنفاق في غزة («الشرق الأوسط»)
TT

لا يبدي سائق الشاحنة صبراً كثيراً ويطلق العنان لزامور الشاحنة، بعد أن اعترضت طريقه عربة يجرها حمار، وبعد أن اخلت العربة الطريق، أسرع السائق ليتوقف عند مجموعة من تلال الرمل والخيام التي تبعد مسافة 500 متر عن المكان. وما أن وقفت السيارة حتى سارع اشخاص كانوا يوجدون في احدى الخيام الى نقل صناديق من الخشب الى داخل الشاحنة، حيث مضى من الوقت أكثر من ساعة قبل أن تكمل الشاحنة حمولتها وتتجه شمالاً. كانت هذه إحدى الشاحنات التي تنقل البضائع المهربة عبر الأنفاق من مصر، وقد ملأت حمولتها من البضائع واتجهت نحو مدينة رفح الى مدينة غزة الى مخازن أحد كبار التجار، والتلال التي تملأ المكان هي تلال الرمال التي يخرجها عمال حفر الأنفاق والتي تحفر على الشريط الحدودي تماماً. وطوال ساعات الليل والنهار تتواصل حركة الشاحنات باتجاه الشريط لنقل البضائع، وخلف جدران البيوت التي تقع على طول الشريط الحدودي يعمل المئات من الأشخاص في حفر الأنفاق حيث يقوم العمال باستخدام المولدات الكهربائية والبكرات في اخراج الرمل من النفق الذي يكون تحت عمق 18 مترا، ولا يقل طول النفق عن كلم واحد، حيث يتم فتحه من الطرف المصري. وبواسطة البكرات التي تحركها المولدات الكهربائية يتم اخراج البضائع المهربة من مصر الى قطاع غزة. في المكان تجد أناسا يخرجون بين الفينة والأخرى وقد تبللت ملابسهم بسبب الرطوبة في عمق النفق. سليم، 24 عاماً، احد العمال الذين يعملون في مجال حفر الأنفاق، وقد كان يعمل في السابق كعامل بناء لكنه توقف عن العمل لتوقف العمل في قطاع البناء بسبب الحصار الذي يمنع دخول الاسمنت ومواد البناء. ويقول سليم الذي يرفض الكشف عن اسمه كاملا لـ«الشرق الأوسط» انه رغم المخاطر التي من الممكن أن يتعرض لها خلال عمله، إلا أنه لا يجد بديلا آخر سوى العمل في هذا المجال، من اجل اعالة عائلته المكونة من سبعة افراد.

في الآونة الأخيرة زاد الى حد كبير عدد الأشخاص الذين قتلوا نتيجة انهيار الأنفاق. وكما قال حمدان، 35 عاماً، الذي يعمل في أحد الانفاق لـ«الشرق الأوسط» فإن عدد الأنفاق زاد بشكل كبير بعد تشديد الحصار، اثر سيطرة حماس على القطاع، ويقدر عدد الأنفاق حالياً بحوالي 1100 نفق، مشيرا الى أن هذا العدد الكبير يؤدي الى انهيار بعض الانفاق. ويشير حمدان الى أن أكثر المواد التي يتم تهريبها عبر الأنفاق بالاضافة إلى الدواء، حليب الأطفال والمواد الغذائية وقطع غيار للسيارات والوقود والملابس. ويقول ان أكثر من 1400 شخص يعملون في مجال حفر الانفاق، مضيفا أن كل شخص من هؤلاء قد يحصل في الشهر على مبلغ 1900 دولار. ويضيف أن هؤلاء العمال «يحملون أرواحهم على أكفهم» بسبب امكانية انهيار الأنفاق اثناء عملية الحفر. في نفس الوقت فإن معظم الأنفاق مملوكة لعائلات من مدينة رفح التي تعتبر عوائدها المالية مصدر رزقها الوحيد. ويعمل أصحاب الانفاق بتنسيق كامل مع التجار الذين يطلبون من اصحاب الانفاق تهريب نوع محدد من البضائع، بحيث ان بعض الانفاق تكون متخصصة في تهريب نوع محدد من البضائع. وحسب بعض المصادر فقد قتل خلال العام الحالي 36 شخصا نتيجة انهيار الانفاق أو بسبب مس كهربائي.

وفي نفس الوقت فإن منظمات حقوقية فلسطينية ونواب من المجلس التشريعي يؤكدون أنه يتم تشغيل قاصرين لا يتجاوز عمر بعضهم السادسة عشرة من العمر، مؤكدين أن بعض هؤلاء القاصرين قتل بسبب انهيارات الأنفاق، مع العلم أن هؤلاء القاصرين يتم استغلالهم بشكل كبير، حيث يتقاضون رواتب زهيدة مقابل عمل في الحفريات، مقارنة مع البالغين الذين يتقاضون رواتب أفضل بكثير. لكن من خلال ملاحظات «الشرق الأوسط» ومن خلال شهادات الناس هناك فإنه لا أثر لأي دور للنساء في الأنفاق. وكما يؤكد الكثيرون في قطاع غزة فقد تحول العمل بالأنفاق لمصدر للثراء السريع، حيث أن أصحاب الأنفاق يشترون البضائع المصرية وغيرها بسعر زهيد ويبيعونها بأضعاف مضاعفة لأهالي القطاع بدون محاسبة او مراقبة. في غزة يتهمون أصحاب الأنفاق والسلطات المصرية، بالتسبب في انهيار الأنفاق. فهناك مجموعة تطلق على نفسها «تجمع أهالي ضحايا الأنفاق» وهو إطار جماهيري يمثل الأسر التي فقدت أبناءها بسبب انهيارات الانفاق. وقد تشكل هذا التجمع حديثاً، ويصدر بيانات بين الفينة والاخرى يحمل فيها مصر المسؤولية عما لحق بابنائهم لانها تغلق معبر رفح، الأمر الذي اجبر الفلسطينيين على استخدام الانفاق، الى جانب اتهام السلطات المصرية بأنها تقوم بتفجير الأنفاق الأمر الذي أسفر عن وفاة الأشخاص الذين يعملون في الأنفاق. في حين أن اعضاء من المجلس التشريعي والمنظمات الحقوقية العاملة في غزة يحملون أصحاب الانفاق جزءاً كبيراً من المسؤولية المباشرة عن انهيارها، كما يحملون حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني اسماعيل هنية جزءاً من المسؤولية غير المباشرة عن ذلك، لعدم اتخاذها الإجراءات اللازمة لوقف سقوط المزيد من القتلى. وتحت ضغط المجلس التشريعي والمنظمات الحقوقية الفلسطينية تحركت الحكومة، واتخذت اجراءات عملية في هذا السياق. فقد اخذت الحكومة تعهداً من اصحاب الأنفاق بدفع دية كاملة لكل عامل يتوفى بسبب انهيار الأنفاق، بالإضافة الى تعهدهم بعدم تشغيل القاصرين وصغار السن، واتخاذ اجراءات السلامة اللازمة لذلك. خليل ابو شمالة مدير «مؤسسة الضمير» لحقوق الإنسان يبدو أكثر شدة في انتقاده لدور حكومة هنية، مشيرا الى أنه على الرغم من أن الأنفاق أصبحت ضرورة في ظل الحصار الجائر الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، فإنه هذا لا يعنى أن تتحلل الحكومة من مسؤولياتها ازاء الناس الذين يقتلون خلال عمليات حفر الأنفاق. وأوضح ابو شمالة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن حكومة إسماعيل هنية ألزمت أصحاب الأنفاق بالحصول على «ترخيص» من البلدية لمد الانفاق بالكهرباء، وليس ترخيصا لحفر الانفاق كما قال البعض، موضحا أن البلدية تمد الانفاق بخطوط كهرباء عالية (ثلاثة فاز). وأشار أبو شمالة الى أن حكومة حماس الزمت أصحاب الانفاق بتقديم «تأمين مالي» يتم وضعه لدى بلدية رفح لدفع تعويضات مالية لاي عامل يتضرر من عمله في الانفاق. وحسب ابو شمالة فان ممثلين عن الحكومة يقومون بجمع الضرائب عن البضائع التي يتم تهريبها عبر الأنفاق حيث يوجد موظف عند بوابة كل نفق ويقوم بتحصيل ضريبة على كل صندوق يتم اخراجه من النفق، الى جانب أن الموظف يدقق في طبيعة المادة والتأكد من أنها ليست مخدرات.

وقد حاولت «الشرق الأوسط» الحصول على رد من عدد من المسؤولين بالحكومة المقالة وتحديداً إسماعيل محفوظ وكيل وزارة المالية، والناطق باسم الحكومة طاهر النونو، ولكن بدون جدوى. النائب اسماعيل الأشقر رئيس لجنة الأمن في المجلس التشريعي قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأنفاق نتاج الواقع المستحيل الذي يعيشه الفلسطينيون في قطاع غزة تحت وطأة الحصار. وشدد على أن أحداً لا يعتبر الأنفاق قانونية ولا يريد أن يتعامل معها على هذا الأساس، لكن في ظل عملية الحصار المميت الممارس على الشعب الفلسطيني، لا يمكن اجبار الناس على عدم القيام بالخطوات الكفيلة لضمان بقائهم على قيد الحياة، مشيراً الى أنه عبر هذه الأنفاق يتم إدخال المواد الغذائية الأساسية والعلاج. وتساءل الأشقر قائلاً «عندما يلقى المرضى موتهم لعدم وجود الدواء، الذي يمنع وصوله الحصار، فإنه يجب من ناحية أخلاقية على الفلسطينيين الحصول على العلاج بأي وسيلة وضمن ذلك عبر الأنفاق».

وأكد الأشقر أن الحوادث التي يقتل فيها عدد من العاملين في الأنفاق، تأتي ايضاً لما تقوم به السلطات المصرية من عمليات تفجير بالتنسيق مع الأميركيين، مشيراً الى أن عدداً من الأشخاص قتلوا، بعدما انهارت الأنفاق على رؤوس من فيها بعدما قام المصريون بتفجيرها. وأشار الى ما كشفت عنه صحيفة «هارتس» من نجاح خبراء اميركيين في الكشف عن 42 نفقا بالتنسيق مع السلطات المصرية. ويستدرك الأشقر قائلاً إن اصحاب الأنفاق لا يراعون شروط السلامة المتبعة في حفر الأنفاق واستغلالهم لحاجة الكثير من الشباب للمال بسبب معدلات البطالة العالية، وتشغيلهم في ظروف صعبة. وأشار الى أن بعض أصحاب الأنفاق لا يقومون باستخدام مواد عازلة تعمل على عدم انهيار الأنفاق، فضلاً عن عدم تحري الدقة في التوصيلات الكهربائية اثناء حفر الأنفاق، الأمر الذي أدى الى موت بعض الاشخاص، بسبب تماس كهربائي. وشدد الأشقر على أنه على الرغم من أنه لا علاقة للحكومة وأجهزتها بالأنفاق فإن لجنة الأمن طالبت الحكومة باتخاذ إجراءات صارمة لمنع تكرار حوادث الموت.

من ناحيته اعتبر ايهاب الغصين الناطق بلسان وزارة الداخلية في الحكومة المقالة، أن الانفاق هي الرد الطبيعي على سياسة الحصار التي يتم بها معاقبة الشعب الفلسطينيي، مؤكداً ألا احد يحق له من ناحية اخلاقية مطالبة الفلسطينيين بعدم حفر الانفاق في ظل السعي الى تمويتهم عبر الحصار. وطالب الغصين في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» السلطات المصرية بوقف عمليات التفجير التي تستهدف الأنفاق، والتي تقوم بها السلطات المصرية بالتنسيق مع الجانب الأميركي بسبب ما توقع من ضحايا في الجانب الفلسطيني. وحث الغصين المصريين على عدم الرضوخ للضغوط التي يمارسها الإسرائيليون والأميركيون عليهم. واعتبر أنه من حق الفلسطينيين القيام بأي خطوات لتجاوز آثار الحصار الظالم، الذي تفرضه اسرائيل واميركا بتواطؤ عربي وفلسطيني على الشعب الفلسطيني، معتبراً أن حفر الأنفاق حالة استثنائية ستنتهي في حال تم رفع الحصار. وطالب الغصين الدول العربية، وعلى رأسها مصر، بالتدخل لرفع الحصار عن الشعب الفلسطيني، بغية انهاء الأسباب التي تدعو الى حفر الانفاق.

من ناحيته قال الدكتور يحيى موسى القيادي البارز في حركة حماس، إن أي شعب يمر في ظروف قاهرة كتلك التي يمر بها الشعب الفلسطيني حالياً، لا بد أن يعمل على حفر الأنفاق من أجل توفير المتطلبات الضرورية له، مشدداً على أنه من الخطأ التعامل مع الأنفاق من منظار القانون. واعتبر موسى أن ذلك لا يمنع أن تتم مراعاة عدم المس بحقوق الإنسان، وتحديداً العاملين في الانفاق. وشدد على ضرورة التصدي لظاهرة تشغيل القاصرين في الأنفاق. ابو شمالة من ناحيته يقول، ان هناك دلائل تؤكد أن الحكومة المصرية تغض الطرف عن عمليات حفر الأنفاق، نافياً بشدة أن تكون السلطات المصرية مسؤولة عن انهيار الأنفاق. وأضاف أن السلطات المصرية تعرف بالضبط كل الأنفاق، ولو أرادت ان توقف عمليات التهريب عبر الأنفاق لفعلت ذلك، حتى بدون اغلاق الانفاق، فيكفيها أن توقف عمليات نقل البضائع لمنطقة الشريط الحدودي.