احترم نفسك

هل هناك علاقة بين وجود 37% من سكان القاهرة في العشوائيات وبين معاكسة النساء في الشارع ؟

لافتات دعاية ضد التحرش بالنساء في أحد شوارع القاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

«عيب . ما يصحش.. يا أخي خلي عندك دم.. انت ملكش اخوات».. وبخدوش في الوجه ونقط دم على الأنف خرج الشاب المتحرش قليل الأدب من المعركة سالما. لم يفارق هذا المشهد مخيلة «هبة. أ.م» طالبة السياحة والفنادق، فهي تقطن منطقة المنيل بوسط القاهرة، ولا تتجاوز المسافة التي تقطعها يوميا من البيت لكليتها على كورنيش النيل عشر دقائق فقط، لكنها مع ذلك تتطلب 4 ساعات على الأقل كل صباح، حيث تقضي ثلاثة أرباع المدة مستغرقة في حالة من الاكتئاب منذ استيقاظها في السادسة والنصف، وتوزع الساعة الباقية على تجهيز الملابس والإفطار. نوبات الاكتئاب تزداد كلما اقترب ميعاد النزول بخاصة أن جرعات التحرش اللفظي التي تتلقاها وهي في طريقها لم تعد تحتمل، بل تتطور أحيانا إلى محاولة اللمس. لا تجد هبة من يخفف عنها معاناتها، فالعائلة تعتبر مجرد الدخول إلى قسم شرطة للشكوى فضيحة، كما أنها لا تريد أن تحول أخويها إلى ضيوف دائمين على موائد الشجار في الشارع، حتى مجرد الشكوى لأمها عقب العودة لم تعد تقدر عليها بعد أن اتهمتها بأن تحررها في الملبس هو الذي يجذب المتحرشين إليها، فاضطرت إلى لبس الحجاب مسايرة لها، لكن جرعات التحرش لم تقل، فوجدت نفسها في نهاية الأمر في عيادة طبيب نفسي شهير بشارع قصر العيني ليخفف معاناتها.

«هبة» بالتأكيد ليست حالة استثنائية، ومعاناتها المرضية قاسم مشترك بينها وبين قطاع عريض من المصريات، فبحسب دراسة لأخصائي الطب النفسي الدكتور أحمد عبد الله تبين أن 60% من الفتيات يذكرن أنهن قد تعرضن للتحرش بصورة أو بأخرى خلال حياتهن، وتترتب على هذا آثار نفسية اكثرها شيوعا الاكتئاب والعصبية والشك في الاخرين. وفي نهاية السبعينات أجرت الدكتورة نوال السعداوي دراسة أكدت نتائجها أن نسبة جرائم التحرش في مصر أكبر من نسبتها في أميركا، ووقتها ثارت الدنيا في وجهها واعتبرها البعض تمارس دورا مشبوها في تشويه المجتمع المصري، وكان ردها أن هناك خلطا لدى البعض بين التحرش والاغتصاب، وأن المرأة في مصر تتعرض للتحرش اللفظي بشكل خطير وكذلك الجسدي، ولكن الخوف من إبلاغ السلطات ومن الفضيحة، هو ما يخفي الحقيقة.

مرت السنوات وأصبح التحرش الجنسي في مصر أخطر من الإخفاء، فكشفته دراسات أخرى منها ما عنون بـ«غيوم في سماء مصر» أجراها المركز المصري لحقوق المرأة وقالت نتائجها إن ثلثي الرجال في مصر يتحرشون بالنساء، وأن 79% من التحرش من النوع اللفظي. خطورة الظاهرة كانت سببا في رصد كاميرا السينما لها، ففيلم عمارة «يعقوبيان» الذي حقق إيرادات قياسية في القاهرة منذ عامين كان من أكثر مشاهده تأثيرا مشهد تعرض بثينة (هند صبري) في مخزن محل الملابس الذي تعمل به لمحاولة التحرش من قبل صاحب المحل، ثم لوم أمها لها لأنها قررت ترك العمل نتيجة لذلك، وعنفتها لأن البنت «ممكن تحافظ على شرفها وأكل عيشها في نفس الوقت».

وإذا كانت السينما قد كشفت بعدا غائبا في الجريمة وهو تشجيع ظروف المجتمع الاقتصادية السيئة على تقبل التحرش، فإن السينما كذلك كانت بطلا رئيسيا في موجة التحرش الجنسي الجماعي في وسط القاهرة في عيد الفطر، العام قبل الماضي، بعد رقص الفنانة دينا ومعها المطرب سعد الصغير، أمام سينما «ريفولي» بوسط القاهرة، وتقدم محام ببلاغ يتهم دينا بإثارة الشباب فخرجت تصرفاتهم عن السيطرة وانطلقوا يتحرشون بالمارة.

خرجت دينا من النيابة بريئة بعد التحقيق، وتفنن المحللون كل حسب اختصاصه في تفسير الظاهرة وتقديم العلاج. ونشط المجتمع المدني يحارب الظاهرة بالحملات وحركات الاحتجاج السلمي المناهضة فظهر شعار «احترم نفسك» وغيره ولكن حتى الآن لم يظهر ما يدل على انحسارها.

تكررت حادثة دينا بشكل أكثر خطورة في مصيف رأس البر بشمال مصر بشكل أكثر خطورة عندما تعرضت مئات الفتيات للتحرش الجماعي في الشارع حتى وهن بصحبة ذويهم. يصف حسن القشاوي وهو صحافي تمتد أصوله للمدينة ما حدث قائلا : «بدوا وكأن عقولهم لم تعد موجودة وخرج الأمر عن السيطرة». وبحسب القشاوي فإن الأهالي تجمعوا في الشوارع وطاردوا الشباب المنتشر كالجراد بعد أن عجز الأمن عن فعل شيء.

استمرت موجة التحرش الجماعي بلا توقف، وشهد عيد الفطر قبل نحو اسبوعين آخر أحداثها عندما تحرش عشرات الشباب بالفتيات في شارع جامعة الدول العربية بالقاهرة وألقت الشرطة القبض على 35 منهم ثم أفرجت النيابة بعد ذلك عن 32 منهم وبقي ثلاثة خلف القضبان. وترجع أصوات كثيرة سبب التحرش في مصر للبعد الاقتصادي وعدم قدرة الشباب على الزواج خاصة أن أغلب حالات التحرش تأتي للاسف من شباب يعيشون في مناطق فقيرة محرومة اقتصاديا، فأغلب المتهمين في حادثة عيد الفطر يقطنون منطقة «بولاق الدكرور» الشعبية المواجهة لحي المهندسين الراقي. وإذا كان 37% من سكان القاهرة يعيشون في عشوائيات، بالاضافة الى 85 في حزام فقر حول المدينة، فلا بد ان يصبح التحرش مسألة أمن قومي مصري. البعض الآخر يرجع التحرش إلى الضعف التشريعي والقانوني في مواجهة المذنبين، فحديثا فقط بدأت الشرطة تعتقلهم وتوجه لهم اتهامات، هذا لم يكن يحدث في التسعينيات. وبحسب الدكتور محمد المهدي هناك عوامل ساعدت على زيادة معدلات التحرش بصورة مخيفة أبرزها اتسام الشارع بالفوضى ورخوة الأمن الاجتماعي، بالإضافة إلى صعوبة إثبات الجريمة، وحتى لو تم إثباتها فالعقاب غير رادع.

لكن اللافت أن قطاعا عريضا من النساء يحملن المرأة بعض المسؤولية عن تعرضها للتحرش. ومن السهل اكتشاف هذا المنحى في تحميل المرأة للمسئولية إذا تابعت نقاشات منتديات الانترنت عقب حادث شارع جامعة الدول العربية، أكثر التعليقات سخرية قال «إن السبب تحرر الشياطين من السلاسل بعد رمضان»، وبعضها ربط بين ما حدث وبين لبس البنات. إيهاب (اسم مستعار) كان لديه الجرأة ليعترف بممارسته للتحرش، وهو لا يعتبر نفسه مريضا. يتعرض إيهاب للتقريع الشديد وربما الصفع على وجهه. وهنا لا بد أن يكون جاهزا للخروج من المأزق، فقد تدرب على ذلك وكما يقول: «يعلو صوتي وأواصل الهجوم والصياح والسباب حتى يتأكد الركاب أنها كاذبة ولا يتعرضون إليّ». إزاء ذلك اقترح نائب بالحزب الحاكم هو محمد خليل قويطه تعديلا قانونيا يردع المتحرشين يتمثل في استحداث مادة جديدة في قانون العقوبات المصري برقم «269 مكرراً ب»، يقول نصها: «يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وغرامة 1000 جنيه (نحو 183 دولاراً)، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تحرش جنسياً بغيره من الجنس الآخر، سواء تم بالأماكن والطرق والمواصلات العامة وغيرها.. سواء بالتحرش بواسطة المغازلة الكلامية أو اللمس.. أو المحادثات التليفونية أو الرسائل العاطفية عبر الهاتف المحمول أو الانترنت أو الرسائل المكتوبة (الورقية) أو الشفهية أو أي فعل آخر يدل على ذلك». لكن مشروع القانون ما زال في طور الإعداد، ولم يتم إقراره بعد. وبحسب إنجي غزلان، مديرة برنامج مكافحة التحرش الجنسي التابع للمركز المصري لحقوق المرأة، فإن المركز يعد هو الآخر مشروع قانون لزيادة العقوبة في قضايا التحرش كما يسهل إثبات الجريمة، وبالتوازي يعد المجلس القومي للمرأة مشروع قانون آخر. وتقول غزلان: «من الصعب إعادة تقويم سلوكيات الناس في فترة قصيرة، هناك انفتاح إعلامي على ثقافات أخرى لا تتناسب قيمها مع قيمنا، وفي نفس الوقت هناك ظروف اقتصادية مجتمعية صعبة ومن المستحيل تغيير ذلك في الوقت الحالي، علينا أن نجعل التحرش سلوكا مكلفا للغاية لصاحبه».