التمثال الكشميري

كاشكاري الذي أصبح أهم رجلٍ في إدارة بوش ويدير 700 مليار دولار.. من منطقة متنازعٍ عليها بين الهند وباكستان عرفت بالحرير والحروب.. وأدخل كلمة «تأميم» إلى قاموس أميركا السياسي

TT

غالباً ما يضيع المال بحثاً عن المال. هذا المثل ينطبق الى حد كبير على الأزمة المالية التي انطلقت من اميركا وعصفت بالاسواق المالية في جميع أرجاء العالم. أزمة تعد الأسوأ في نوعها منذ ثلاثينات القرن الماضي، سيتصدى لها شاب اميركي لا يتعدى عمره 35 سنة من أصول هندية، بل من منطقة متنازع عليها بين الهند وباكستان، اشتهرت بالحرير والحروب والنزاعات الأهلية.. عندما عين نيل كاشكاري في منصبه الحالي مساعداً لوزير الخزانة للاستقرار المالي، قال بعض منتقدي قرار تعيينه إن خبراته غير كافية ليطلب منه إعادة بناء النظام المالي في اميركا بعد أن وصل الى حافة الانهيار، مما جعل الرئيس الاميركي جورج بوش يكاد يتحدث يومياً عن الأزمة للاميركيين الذين أصيبوا بالذعر حين بدأت طلباتهم لاقتراض اموال ترفض. حتى يمتص هنري بولسن وزير الخزانة الاعتراضات على هذا الشباب الذي اعتاد ألا يهتم كثيراً بهندامه لكنه يحرص على انتقاء كلماته عندما يتحدث، قال بولسن إن كاشكاري سيشغل المنصب لفترة مؤقتة، مشيراً الى انه سيعين شخصاً آخر في منصب مساعد وزير الخزانة للاستقرار المالي، وان هذا التعيين سيكون الشهر المقبل حيث سيعرض الاسم على الكونغرس للموافقة عليه، لكن المرجح ان كاشكاري سيستمر في منصبه مع إدارة بقي في جعبتها 89 يوماً فقط. وحددت وزارة الخزانة مهمة كاشكاري في بيان مفصل، اشار الى ان مساعد وزير الخزانة «سيتولى مسؤولية تطوير واستكمال سياسات وزارة الخزينة لخلق مناخ استثماري في الولايات المتحدة، ودعم النمو العالمي للاقتصاد». وأوضح البيان ان كاشكاري سيواصل الاحتفاظ بمنصبه مساعداً لوزير الخزانة للاقتصاد الدولي، لكن مهامه وصلاحياته تبعاً لهذا المنصب سيتولاها كلاي لوري الذي يشغل منصب مساعد وزير الخزانة للشؤون الدولية. صحيفة «وول ستريت جورنال» التي تعد أهم صحيفة اقتصادية في العالم الى جانب «فاينانشال تايمز» البريطانية، كتبت موضوعاً طريفاً حول شخصية نيل كاشكاري، واستهلت الصحافية هايدي مور مقالها في الصحيفة بعبارات ساخرة حيث قالت «من هو نيل كاشكاري؟.. ليس شخصاً موهوباً او لديه عبقرية شيطانية». واضافت: «لكن على الرغم من ذلك، فإن كاشكاري أنيطت له مهمة جسيمة يُفترض ان ينجزَهَا في 45 يوماً، وهي ليس فترة طويلة في الظروف العادية، لكن في ظروف مثل الأوضاع التي تمر بها الولايات المتحدة تبدو هذه الفترة بمثابة دهر كامل». وقالت مور في المقال نفسه، ولكن بجدية هذه المرة «كاشكاري شخص ذكي، مطيع، يهتم بالتفاصيل، ويتلقى الاوامر بكيفية حسنة. وفي مجال العمل المصرفي هو الرجل الذي يعرف جيداً كيف يمكن إعدام الديون لو سلمته أي مشروع سيمنحه الاولوية ويفرغ منه». بيد ان صحافياً آخر هو مايكل اونيال الذي يعمل في صحيفة «شيكاغو تريبيون» قال لـ«الشرق الاوسط» ان «اختيار كاشكاري من قبل بولسن في منصبه الحالي مبعثَ استغرابٍ، خاصة ان الرجل سيتولى إنفاق 700 مليار دولار (ثلث ميزانية بريطانيا) التي خصصت لخطة الإنقاذ، وهناك الكثير الذي عليه ان يتعلمه حتى يصبح طلقة واشنطن الكبرى». إلا ان مارتن كرتسينغر الصحافي في القسم الاقتصادي في وكالة «اسوشيتد برس» له وجهة نظر اخرى «تعيين كاشكاري في منصبه مؤقتاً كان ضرورياً، لان تعيين مساعد دائم لوزير الخزانة يتطلب اقتراحاً من الرئيس بوش وموافقة من الكونغرس، لكن ذلك سيبدو صعباً ونحن على مقربة من الانتخابات. وأظن ان كاشكاري لن يعين مطلقاً في هذا المنصب طالما ان الكونغرس يسيطر عليه الديمقراطيون، وربما يبقى في منصبه الحالي حتى يمكن للرئيس المقبل سواء باراك اوباما أو جون ماكين أن يختار شخصاً دائماً للمنصب. واعتقد ان كاشكاري سيغادر موقعه في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل عندما يؤدي الرئيس الجديد اليمينَ».

ثم عقب لكن من هو كاشكاري؟.. لقد ولد هذا الشاب الذي يتحدث لغة انجليزية بلكنة أهل الهند في يوليو (تموز) عام 1973 في مدينة «اكرون» في ولاية اوهايو، ووالده شيلا كاشكاري ووالدته شامان، يتحدران من الجانب الهندي في كشمير، وهو الإقليم الذي عرف في العالم العربي بانتاج الحرير والصوف الفاخر، والذي يعرف باسم «الكشمير». يقول الصحافي احمد تيفال، وهو صحافي باكستاني يعمل مراسلاً لاذاعة «بي بي سي»، الناطقة باللغة الاردية بواشنطن: «تعود جذور أسرة نيل كاشكاري الى منطقة سريناغار سافريار في أقليم كشمير، وفي شخصيته الكثير من ملامح جده سودراشان كاشكاري، الذي عمل موظفاً صغيراً في مصلحة الكهرباء، وهو ما حفزه على تشجيع ابنه شيلا، والد نيل، لدراسة الهندسة الكهربائية». وأوضح تيفال لـ«الشرق الاوسط» ان عائلة كاشكاري من العشائر المعروفة في الجانب الهندي من كشمير. ونيل يحمل اسم عشيرته في الواقع كاسم عائلي. وكانت تعيش في منازل شيدت بالطوب الاحمر قرب قلعة سوميار، بيد ان تلك المنازل هدمت جميعها عام 2000 وذلك بغرض بناء جسر بالمنطقة». ويشير الدكتور سيرندر بهاردواج، وهو رجل دين هندوسي من ولاية اوهايو، ومن المقربين لأسرة كاشكاري الى ان «لنيل سلوكاً ودياً تجاه الناس، وهو مستمع جيد، يتجنب خلق ضوضاء أو نزعة للهيمنة على النقاش. يفكر كثيراً قبل ان يتحدث، ويترك للآخرين فرصة التعبير عن انفسهم كما يريدون، وهو بارع في طرح افكاره بشأن المسائل المعقدة، ويؤمن بالعمل الجماعي، ولديه سلوك رفيع. وقاعدة أخلاقية صلبة، عرف والداه بهما، وربما منهما اكتسب القيم التي يؤمن بها». عاش كاشكاري ضمن المجتمع الهندوسي بولاية اوهايو، وحظيَّ والداه بموقع ممتاز داخل هذا المجتمع. امه أخصائية في علم الامراض لها اسهامات كبيرة وسط الهندوس في الولاية. ساعدت كثيرين في الخروج من حالات الاجهاد. ووالده مهندس كهرباء عمل في غرب افريقيا، وساهم بقسط وافر في كهربة القرى في عدة مناطق هناك، وتوفير الماء العذب لسكان القرى الفقراء في دول المنطقة. التقى كاشكاري زوجته مينال، وهي ايضاً مهندسة، في جامعة إلينوي، وتزوج بها زواجاً تقليدياً على الطريقة التي يتزوج بها الهندوس في مدينة شيكاغو، وهما يقيمان معاً بولاية ميرلاند المجاورة للعاصمة الاميركية. تابع كاشكاري جميع مراحله الدراسية في ولاية اوهايو، وانهى دراسته الجامعية في اكاديمية «ويسترن رزيرف» في مدينة هدسون بولاية اوهايو ايضاً عام 1991، وهي من أعرق الكليات حيث تأسست عام 1826. كما نال شهادة جامعية في الهندسة من جامعة الينوي ودرجة الماجستير من مدرسة وارتون التابعة لجامعة بنسلفانيا. ومن واقع خلفيته الهندسية يهتم كاشكاري كثيراً بصناعة السيارات، خاصة تلك التي تستعمل وقوداً عادياً. وكثيراً ما بهر كاشكاري زملاءه بقدراته المعرفية في مجال التكنولوجية. صعد نيل كاشكاري درجات الترقي بشكل صاروخية، ولفت اليه الانظار عندما أصبح نائب الرئيس التنفيذي بالمؤسسة المالية «غولدمان ساش» في سان فرانسيسكو. كما عمل كاشكاري بالمؤسسة المالية والبنكية في قطاع تكنولوجيا تأمين الاستثمارات المصرفية، وقدم استشارات مهمة لشركات خاصة ومؤسسات حكومية حول عمليات الاندماج والتحويلات المالية. كما عمل في شركة «جيمس ويب للفضاء» المتخصصة في مجال التلسكوب، وهي شركة متعاقدة مع الوكالة الفضائية (ناسا). في يوليو (تموز) عام 2006 عين نيل كاشكاري مستشاراً لبولسن، بناءً على اقتراح من جورج لي، رئيس مجموعة «غولدمان ساش» المصرفية، وبما ان بولسن في الاصل مصرفي، فقد انتبه الى «القدرات الهائلة» لمستشاره، واقترح على الرئيس جورج بوش تعيينه في الصيف الماضي مساعداً للوزير في مجال الاقتصاد الدولي، وهو المنصب الذي ثبته فيه الكونغرس. وظل في هذا المنصب الى ان عين في موقعه الجديد، حيث اصبح مكلفاً تطبيق خطة الانقاذ. وخلال توليه مهامه مساعداً لوزير الخزانة في الاقتصاد الدولي، عكف على تطوير خطة الرئيس الاميركي جورج بوش حول الطاقة التي تعرف باسم «عشرون في عشرة». كما تولى الاشراف على ملف العلاقات بين اميركا والهند في المجال المالي، وأنيطت به أيضاً مهمة ايجاد حل لأزمة الرهون العقارية في بداياتها. وكان وراء إنشاء تحالف «الأمل الآن» الذي كان يهدف الى مساعدة أصحاب المنازل الذي يواجهون صعوبات في تسديد اقساطهم الشهرية، بيد ان تفاقم المشكلة بعد ذلك جعل الأمور خارجة عن نطاق اية سيطرة. وفور توليه منصبه الجديد، في ظروف لم يواجهها ايُّ مسؤول اميركي خلال ما يقارب 80 سنة، عندما انهارت بورصة نيويورك في ثلاثينات القرن الماضي، وجد كاشكاري نفسه في أصعب موقع يمكن أن يجد مسؤول فيه نفسه. وكانت مهمته بالضبط قبل كل شيء وقف الذعر الذي عم الأسواق المالية، خاصة شارع «وول ستريت» في نيويورك، وكذلك وقف تساقط المؤسسات البنكية وشركات التأمين وانهيار بورصة نيويورك، مثلما تساقط شعره تقريبا قبل ان يكمل الخامسة والثلاثين.. اقترح كاشكاري ان تكون البداية خطوة تكتنفها حساسيات وتعقيدات بالغة، خاصة بالنسبة لادارة ترى ان السوق الحر وعدم تدخل الدولة (الحكومة الفيدرالية) في الدورة الاقتصادية والمالية من «المقدسات». كانت وجهة نظر كاشكاري التي اقترحها دون أن يرف له جفن في لقاء عقد داخل البيض الابيض، «تأميماً جزئياً» للبنوك التي يمكن ان تواجه خطر الافلاس، وشراء الديون الهالكة من البنوك المترنحة على غرار بريطانيا. لم يكن رئيس كاشكاري بولسن مقتنعاً بالخطوة، ولعله لم يكن قادراً أصلاً على اقناع الرئيس بوش بها على حد وصف «واشنطن بوست»، لكن كاشكاري لم يكن يرى سبيلاً سوى ان تشتري الحكومة الفيدرالية اسهماً في اكبر تسعة بنوك اميركية، على ان تعيد هذه البنوك عندما تتعافى شراء هذه الاسهم من جديد من الحكومة الفيدرالية. كان كاشكاري يقترح حلاً «اشتراكياً» في أكبر بلد رأسمالي، وهو «التأميم» جزئياً للبنوك. وبعد مداولات كثيرة، اقتنع الرئيس بوش بأن لا حل سوى العمل بنصيحة هذا الشاب الذي يتحدث ببطء ولا يتحرك أثناء الحديث، وكأنه تمثال متحدث. وتسرب الخبر، وتناقلته وسائل الاعلام الاميركية، وذهب كاشكاري الى رجال الاعمال والبنوك في اجتماع مغلق بأحد فنادق واشنطن. وعقد بولسن بعد ظهر الاثنين الماضي على الرغم من انه كان يوم عطلة رسمية، اجتماعاً مغلقاً في مقر وزارة الخزانة المجاور للبيت الابيض مع رؤساء أكبر البنوك، وراح يدافع عن اقتراح مرؤوسه كاشكاري من أجل إنقاذ الاقتصاد الاميركي. ولم تكن البنوك المشار اليها تملك هامشاً كبيراً للرفض او التحفظ على قرار «شراء بعض الأسهم في رأسمالها» على حد تعبير بوش، لان استفادتها من 250 مليار دولار مرتبطة بان تمتلك الحكومة الفيدرلية جزءاً من رأسمالها. وهكذا أدخل هذا الكشميري لفظة «تأميم» الى اميركا بعد ان كاد العالم ينسى هذا التعبير. وخرجت «واشنطن بوست» غداة إعلان القرار من الرئيس بوش شخصياً عبر بيان ألقاه من حديقة الزهور في البيت الابيض، بعنوان على عرض صفحتها الاولى كتب في سطرين يقول «الولايات المتحدة تجبر تسعة من اكبر البنوك على قبول تأميم جزئي» مع عنوان فرعي يقول «مؤشر داو يرتفع بـ11 في المائة بأكبر مكاسب يحققها على الاطلاق». وبهذا بدأت مهمة تنفيذ خطة الانقاذ على يد كاشكاري الذي عندما يجلس يضع دائما رجلاً على رجل على الطريقة الاميركية ويصغي لمحدثه باهتمام بالغ. هكذا يمكن رصد صورته منذ ان بدأت تسلط عليه الأضواء. غير أنه يبدو بالنسبة لكثيرين رجلا يصعب فهمه لأنه متحفظ جداً، وحذر ومنطوٍ على نفسه، صرامته المفرطة تضيق هامش معرفة أفكاره قبل ان يدلي بها. وعلى الرغم من انه يركز دائماً على تنمية دائرة علاقاته الشخصية، خاصة في القطاع البنكي، الا أنه لم يعرف على نطاق واسع في واشنطن أو خارجها.

وتقول المحامية باربارا ايتون، التي تعمل في مجال الدفاع عن الشركات الكبرى في واشنطن، وبعدما خرجت اصوات تنتقد بعض بنود خطة الانقاذ خاصة المتعلقة بالتأميم الجزئي: «أي شخص يريد ان يعرف من هو كاشكاري؟ غالبية الناس لم تسمع به الى ان عينه بولسن بمنصبه الحالي». وترى ايتون في تصريحات أنه صغير السن الى حدٍّ كبيرٍ. وبعض الناس متخوفون من عدم خبرته الكافية، ولا أحد يعرف من هو هذا الشخص الذي يحظى بثقة بولسن، فقد ظل يعمل من وراء الستار مع وزير الخزانة في معالجة الأزمة». وتضيف ايتون «يبدو ان التوجه في اميركا البحث عن قادة جدد من صغار السن، خلال الازمات، كما يحدث الآن في التنافس على رئاسة البيت الابيض، لكن الاسئلة ستبقى حول كاشكاري، هل نعرف ما فيه جيداً؟ وهل هو فعلاً صغير السن لإنجاز هذه المهمة؟ لكن وبالرغم من كل الانتقادات، فإن التأميم الجزئي لتسعة بنوك اميركية، والأثر الذي تركه في سوق المال الاميركية، جعل اسم اكاشكاري معروفا في اميركا والعالم كله. قال أحد المصرفيين الذين استفادوا من خطة الانقاذ الحكومية، وسبق له أن عمل مع كاشكاري في مجموعة «غولدمان ساش»: «لم أكن أظن سيعمل يوماً في منصب حكومي، ظل دائماً يجد متعة كبيرة في عمله مصرفياً، الآن أصبح أهم مسؤول في إدارة تستعد للرحيل.. شيء مدهش حقاً»