مقديشو: عاصمة تحتضر

أحياء خالية من السكان ومدينة تعاني سوء المستشفيات والمدارس والوزارات

TT

مدينة تحتضر، أقرب ما توصف به العاصمة الصومالية مقديشو من قبل سكانها الذين يزورونها، والذين يتابعون الوضع فيها كإحدى بؤر التوتر سخونة في النزاع الأهلي بالصومال، الذي استمر دون توقف منذ عام 1991، أي بعد انهيار النظام المركزي في البلاد. وعلى الرغم من كونها عاصمة الصومال ومركز الثقل السكاني والسياسي فيها من الناحية الرسمية، إلا أنها لا تتوافر على أدنى مستوى من المعايير المؤهلة عمليا لتكون عاصمة. واي شخص عاش وعمل في مقديشو قرابة العقدين الأخيرين، لا يختلف وضعه عمن يعيش في إحدى القرى النائية في مجاهل أفريقيا، الفرق فقط أنك اذا كنت صحافياً، ستستخدم أحدث تكنولوجيا الاتصال، على ان تأوي في الليل الى خربة تقترب الى حدٍّ ما من أطلال مدينة مقديشو التي يرجع تاريخ إنشائها الى نحو قرن قبل الميلاد، وتعاقبت عليها أمم مختلفة من الحميريين إلى الأمويين والشيرازيين والحلوانيين والعمانيين وسلاطين أبغال والإيطاليين والبريطانيين، ثم الصوماليين أصحاب الأرض، لكن كل هذا أصبح من الماضي. فالمدينة التي يقدر عدد سكانها بنحو مليونين هجرها نصف سكانها بسبب الحرب الأخيرة بين القوات الإثيوبية وقوات الحكومة الصومالية من جهة وبين المقاتلين الإسلاميين من جهة أخرى. والمدينة مقسمة من الناحية العملية الي جيوب، فالحكومة الانتقالية تسيطر علي مناطق؛ أهمها المطار والميناء والقصر الرئاسي وبعض الشوارع الرئيسية. أما المقاتلون الإسلاميون فيسيطرون على نحو نصف العاصمة حيث لا سلطة للحكومة فيها. ويخضع القصر الرئاسي الذي يقيم فيه الرئيس عبد الله يوسف أحمد ورئيس الوزراء نور عدي لحراسة مشددة من ثلاث قوات؛ الحرس الرئاسي والقوات الإثيوبية وقوات حفظ السلام الأفريقية (يوجد 3400 فرد منها في العاصمة) وعلى الرغم من هذه الحراسة المشددة، فإن الاشتباكات تقع بشكل متكرر قرب اسوار القصر الرئاسي كما أن المطار يقع تحت مرمى نيران المقاتلين الإسلاميين الذين يقومون بقصفه بشكل شبه يومي في الأسابيع الأخيرة. وتجلت مأساة مقديشو في التقرير الذي أصدرته منظمة «هيومن رايتس ووتش» أخيرا، وجاء في هذا التقرير «أن العاصمة الصومالية تتعرض إلى تدمير ممنهج لو اطلع عليها العالم بشكل جدي لأصيب بالصدمة، ولو أن ما يحصل حاليا في الصومال حدث في أماكن أخرى من العالم كلبنان وجورجيا مثلا لعدّ الأمر فضيحة؛ لكن مأساة الصومال تتعرض للتجاهل التام من قبل المجتمع الدولي». وأضاف تقرير «هيومن رايتس ووتش» «لعل أكثر ما يثير الصدمة والفزع هو أن مناطق كثيرة من مقديشيو خلت من المواطنين نتيجة الصراع الدائر بين القوات الحكومية المدعومة من جانب الولايات المتحدة والإسلاميين والمسلحين من جانب آخر، والذين تتهمهم واشنطن بارتباطهم بتنظيم القاعدة». كما ذكرت مجموعة من المنظمات غير حكومية أن أعمال العنف والقصف المتجدد في مقديشو خلال الأسابيع القليلة الماضية أدت إلى نزوح وتشريد نحو 37 ألف مدني عن منازلهم. وأعربت هذه المنظمات عن قلقها العميق إزاء الأزمة الإنسانية في الصومال بسبب أعمال العنف المروِّعة التي تدور بين المقاتلين الإسلاميين والقوات الحكومية والجيش الإثيوبي الذي يدعمها. وتسببت حرب العصابات الدائرة بين القوات الإثيوبية والقوات التابعة للحكومة الصومالية من جهة وبين المقاتلين الإسلاميين من جهة أخرى ـ في تحول نصف مقديشو الى منطقة أشباح، حيث لا يكاد يوجد منزل لم تصبه قذيفة. وفي بعض مناطق العاصمة لم يبق فيها الا أعداد قليلة من الأسر التي لم تتمكن من الهرب من الحرب بسبب إمكاناتها المحدودة. ويعيش النازحون من العاصمة الصومالية في مخيمات عشوائية تمتد إلى عدة كيلومترات في الطريق بين العاصمة ومدينة أفجوي (30 كم الى الغرب من مقديشو). ويقدر عدد سكان هذه المخيمات بأكثر من نصف مليون شخص يعيشون في أوضاع بائسة تفتقر الى الحد الأدنى من مقومات الحياة. وفي الأيام الأولى من الاشتباكات في منتصف العام الماضي، لجأ النازحون الى دفع كراء مقابل الحصول على ظل شجرة من قبل سكان القرى الريفية الصغيرة التي تقع بالضواحي الغربية لمقديشو، لأن النازحين كانوا بالآلاف ولم تكن هناك بيوت أو حتى أكواخ تتسع لهذه الأعداد الكبيرة الهاربة من جحيم الحرب. ووقع العبء الأكبر على الشرائح الأكثر فقرا بالعاصمة، حيث لم يعد بمقدورهم الهرب من الحرب واضطروا للبقاء في منازل مدمرة أملا في مواصلة الحياة. وتابعت «الشرق الأوسط» نموذجا للحياة اليومية لهذه الشريحة من الأسر التي تقطعت بها السبل ووقعت بين مطرقة الحرب وسندان الفقر المدقع. يعيش فارح محمد، 39 عاما، وهو أب لخمسة أطفلال وعاطل عن العمل ـ بمقديشو في منزل نصف مدمر منحته له عائلة صومالية هربت من الحرب. يقول فارح انه يعيش حياة صعبة مع زوجته وأطفاله الخمسة حيث لا يقدر على توفير العيش لهم، مما أجبر هو وزوجته حليمة و2 من أطفاله على عمل أي شيء لتوفير أدنى قدر من العيش للأسرة. «لا توجد حياة كريمة هنا، أقولها بصراحة، أنا أغدو كل صباح لعمل أي شيء لإعالة هذه الأسرة وأطفالي الخمسة، أحصل على بعض المال حينا وأعود أحيانا خاويَّ الوفاض، لا هم لي غير ذلك، لأنه لا يوجد شيء لدي». هكذا قال، وهو يحمل في يده فأسا أمام أحد المنازل حيث وجد عملا لحفر حفرة قمامة لأصحاب المنزل، حيث يلجأ أصحاب المنازل الى حفر حفرة أمام منازلهم لدفن القمامة حيث لا توجد أماكن لجمعها. أما زوجته، فتعمل في بيع الفحم النباتي (الوسيلة الوحيدة لطهو الطعام في الصومال). وتقوم بشراء طعام لأولادها. وتقول إن ذلك لا يكفي أيضا فقد «لجأتُ الى بيع الفحم النباتي بغية توفير قوت لأطفالي، لكن القليل الذي أحصل عليه لا يكفي لأن أسعار الطعام مرتفعة جدا. أضف الى ذلك الحرب والقذائف التي تسقط علينا وحوالينا. أفكر في الهرب والنزوح مراتٍ ومراتٍ لكنني لا أقدر على ذلك لأنني لا أعرف مكانا أهرب اليه». ويعمل اثنان من الأطفال الخمسة لعائلة فارح في أعمال صغيرة حيث يعمل إسماعيل، 14 عاما، ماسحاً للأحذية، ويقول لـ«الشرق الأوسط» والحزن يشع من عينيه «لم أطق البقاء في البيت، ويؤلمني أن أرى وضع والدتي وإخوتي الصغار الجائعين، بحثت عن عمل، فلم أجد إلا أن أكون ملمّع أحذية. كنت أحب أن أتعلم، فمكاني الطبيعي هو المدرسة، ولكن أسرتي لا تقدر على توفير مصاريف المدرسة. وأجبرتني الظروف أن أكون ماسحا للاحذية». ولكونه ماسحا للأحذية، فإن إسماعيل يعمل في المساء أيضا بائعا لحبات اللوز وأحزمة من السواك (عيدان شجر الآراك الذي يستخدم فرشاة أسنان طبيعية) حيث تقوم والدته بقلي حبات اللوز في الرمل مستخدمة بقايا الفحم النباتي الذي تبيعه ثم تقوم بلفه في بلاستيك شفاف. يذهب إسماعيل الى مطعم قريب لشراء فضلات الطعام من عمال المطعم، ويأتي بهذه الوجبة المختلطة الي المنزل لتتناوله الأسرة كوجبة العشاء الوحيدة لها، فيما يشتري الوالد بما حصل عليه قليلا من السكر والشاي. ويتابع إسماعيل الحديث عن هذه الوجبة «الفضلة»، قائلا «صحيح أنها بقايا تركها آخرون، لكن سعرها رخيص وفيها كل شيء». أما البنت رحمة، 13 عاما، فتعمل لدى أسرة متوسطة الحال في مقديشو مقابل العيش معها وترى أسرتها مرة كل ثلاثة أيام أو كما تسنح لها الفرصة. وتقول والدتها حليمة «انها لجأت الى تلك الأسرة لأن بنتها صغيرة وعلى الأقل تأمن من الجوع على الرغم من أنها لا تحصل على دخل منها، فالذي يوفر الطعام في مثل هذه الظروف مشكور». شوارع مقديشو قائمة، ولكنها مليئة بالحفر والمطبات، حيث لم تصل اليها يد الصيانة منذ 20 عاما، وفي بعض الأماكن تحولت الشوارع الى فراغات أرضية بين الأبنية المدمرة جزئيا، وقد أقيمت نقاط تفتيش للقوات الحكومية والقوات الإثيوبية التي تدعمها في عدد كبير من الشوارع، ويستهدف المقاتلون الإسلاميون هذه النقاط بشكل يومي، مما يؤدي الى إغلاق هذه الطرق لساعات طوال وربما ليوم كامل. ويضطر الناس العاديون الى الرجوع من حيث أتوا وفي أحيان كثيرة يضطرون الى المبيت بأقرب مكان يعرفون فيه أقاربَ أو أصدقاءَ لهم. ويتعين على سكان مقديشو كل صباح الاستماع الى النشرات الإخبارية التي تبثها المحطات المحلية الكثيرة لمعرفة الطرق السالكة والطرق المغلقة، ويضطرون في أحيان كثيرة الي سلوك طرق التفافية طويلة لتجنب المليشيات الحكومية أو المسلحين مجهولي الهوية. وأثناء التنقلات يجب أن تكون متفننا في إخفاء الجوال أثناء سيرك في الطريق أو التجول بالأحياء، ويترك بعض الناس هواتفهم الجوالة في البيت أو في مكان آخر، أو يلجأون الي حمل الرخيص منها والذي يمكن تعويضه. وفي حالة وجود الجوال معك فيجب أن تضبطه على الساكت أو الهزّاز حتى لا يتم اكتشافه من قبل المليشيات المسلحة. وفي حال أراد صاحب الجوال إجراء مكالمة ضرورية في مكان ما عليه أن يعرف مسبقا خريطة انتشار المسلحين، فالرد على الجوال في بعض الأماكن يمكن أن يؤدي الى الشك في حامله قد يصل الى القبض عليه أو قتله مباشرة. وفي حالة حدوث طارئ خلال الليل، فإن معظم الناس لا يجرؤون على فتح الباب، فالحياة في مقديشو تتوقف قبل غروب الشمس، ونادراً ما توجد وسيلة مواصلات سواء كانت سيارة أجرة أو حافلات عامة بعد غروب الشمس. اما المستشفيات في مقديشو، فإنها في وضع صعب حيث أن عددا محدودا من الأطباء والممرضين يوصلون الليل بالنهار لمعالجة عشرات الجرحى الذين يتوافدون يومياً على هذه المستشفيات نتيجة إصابتهم بطلقات نارية. وتوجد في مقديشو ثلاثة مستشفيات عمومية فقط؛ مستشفى «المدينة المنورة» (جنوب العاصمة) ومستشفى «كيسني» (معتقل سابق حولته منظمة الصليب الأحمر الدولية الى مستشفى ويقع شمال العاصمة)، ومستشفى داينيلي (الضاحية الغربية للعاصمة). وتتلقى هذه المستشفيات الدعمَ من الصليب الأحمر ومنظمة «أطباء بلا حدود» وعدد من المنظمات الإنسانية غير الحكومية. أما الحكومة الصومالية فحقيبة وزارة الصحة شاغرة منذ نحو عامٍ وليس لها وجود. وتعجز المستشفيات الثلاثة عن استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين بسبب الاشتباكات اليومية بالعاصمة. وأصبح من المألوف منظر المصابين، وهم يعالجون تحت الأشجار داخل حدائق المستشفيات، بعد أن امتلأت القاعات. ومن بين أبرز القطاعات التي تضررت من الوضع المتدهور في مقديشو، التعليم بكافة مراحله، فقد أغلقت عشرات المدارس أبوابها بسبب النزوح الجماعي للسكان. كما أن البعض الآخر تعرض للتدمير بسبب الحرب. واضطرت الجامعات الأهلية بالعاصمة (نحو 10 جامعات) الب استئجار مبانٍ عادية بالمناطق الأقل ضررا من الحرب ويذهب اليها الطلاب لمواصلة ما تبقب من العام الدراسي. والتعليم في الصومال بجميع مراحله تابع للقطاع الخاص ولا توجد مدرسة حكومية واحدة لأن الحكومة انتقلت الى العاصمة قبل نحو عام فقط وليس لمعظم الوزارات مقرات رسمية لها كما أنه ليس لها مخصصات مالية، لأن الحكومة نفسها ليس لها مصدر دخل سوى الضرائب المتحصلة من ميناء مقديشو والمنح المالية الخارجية التي تأتي بشكل متقطع ومتأخر أيضا، والوزراء يجتمعون في مكتب رئيس الوزراء ثم يعودون الي منازلهم، واستطاع بعض الوزراء تدبير مكاتب لهم عبارة عن غرفة في مبنى حكومي بالمنطقة التي تسيطر عليها الحكومة وعدد الموظفين في كل وزارة لا يتجاوزون أصابع اليدين.