خطاب النصر

من لينكولن إلى أوباما.. دائما ما تكون هناك تشابهات في خطب النصر: غير معقدة ومتفائلة وحذرة.. مع عبارة تاريخية

TT

دخلت التاريخ عبارات من خطاب ليلة النصر الذي القاه باراك اوباما في ساحة «غرانت» في شيكاغو. ودخل التاريخ الخطاب نفسه. وقال د. بول بيباك، رئيس مركز «جلوبال لانجويتش مونيتور» (مراقبة اللغات العالمية) لـ«الشرق الأوسط»: «كان خطاب اوباما واحدا من أحسن الخطب لغويا في التاريخ الحديث. عندما ذهب الى ساحة غرانت في شيكاغو، كان يعرف انه سيلقي خطابا تاريخيا. وكان غيره يعرف ذلك ايضا، لكن، كان السؤال: هل سيفهم الناس ذلك؟ اعتقد ان الاجابة انه نجح». وربط جاكوب ريغ وهو شاب بريطاني كتب جزءا من خطاب نصر اوباما بين بعض فقرات خطاب النصر هذا، وبين اجزاء من خطاب محرر العبيد في اميركا الرئيس ابرهام لينكولن سنة 1863، خلال الحرب الاهلية، وكان لنكون ضد تجارة الرقيق، والتي بسببها بدأت الحرب الاهلية الاميركية. مثل قول ابرهام لينكولن، قبل سنتين من نهاية الحرب ان «المهمة لم تكتمل. سيكون الطريق طويلا وقاسيا». وقول اوباما، يوم انتصاره: «سيكون الطريق امامنا طويلا. وسيكون الصعود عاليا. ربما لن نصل الى هدفنا في سنة واحدة، او حتى خلال فترة الرئاسة الاولي»، واضاف اوباما: «لكن، يا اميركا، في الماضي لم اكن متأكدا مثلما انا متأكد في هذه الليلة بأننا سنصل الى هدفنا. هذا وعدي لكم: سنصل كشعب الى هناك». ولاحظ البريطاني ريغ ان في الخطابين شيئين: اولا: هدف لم يتحقق. ثانيا: امل قوي في ان يتحقق الهدف. مثل قول اوباما: «نعم استطعنا ان نبرهن للذين قيل لهم منذ مدة طويلة ومن ناس كثيرين ان يكونوا ساخرين، وخائفين، ومتشككين، حول ما نقدر على ان نحقق. ان نمسك ايدينا على قوس التاريخ، ونضغط عليه ليلين نحو امل في يوم افضل».

وقال د. بيباك الذي يرأس معهدا تخصص في التحليلات اللغوية: في خطب سياسية، وفي نشرات اخبار، وفي عبارات صحافية، وفي كلام عامة الناس، قال ان اوباما يجيد الحديث المباشر مع مستمعيه، وذلك لأكثر من سبب: اولا: يجمع بين العاطفة والعقل. ثانيا: يبسط الكلام، ولا يستعمل كلمات معقدة. ثالثا: يجعل الحديث شبه شخصي، وكأنه من قلب الى قلب.

ويقسم المعهد اللغوي الخطب السياسية حسب لغتها، ومحتواها، والهدف منها، وتحقيق الهدف منها، وصوتها، وعباراتها، وايضا مستواها اللغوي. وكلما زاد الخطاب تعقيدا ارتفع مستواه، حسب فصول المدرسة: اولى ابتدائي، ثانية ابتدائي ... الي الثانوية. مثلا: كان الخطاب الذي القاه ابرهام لينكولن خلال الحرب الاهلية سنة 1863، في مستوى الصف التاسع. والخطاب الذي القاه الرئيس جون كنيدي يوم تنصيبه في سنة 1960 في مستوى الصف الحادي عشر. والخطاب الذي القاه، سنة 1963، مارتن لوثر كينغ، القس الاسود الذي قاد حركة الحقوق المدنية، في مستوى الصف التاسع. والخطاب الذي القاه في برلين سنة 1987، الرئيس رونالد ريغان في مستوى الصف العاشر. وخطاب النصر الذي القاه اوباما، في الاسبوع الماضي في شيكاغو، في مستوى الصف السابع.

يعني ذلك ان خطاب اوباما كان من اقل الخطب السياسية الاميركية تعقيدا.

وحكم المعهد على خطاب اوباما من جانب آخر، وهو التركيز على شعار يردده الناس، ويدخل التاريخ فيما بعد ليصبح عبارة تاريخية تلخص حقبة بأكملها: «يس وي كان» (نعم نقدر). كرر اوباما العبارة عشر مرات في خطاب ليلة النصر. وقال بول بايباك: «كررها مثل الدق على الطبول، وجعلها تدخل عقول الناس، لما فيها من معاني عميقة، وتدخل قلوب الناس، لما فيها من نغمات موسيقية».

دخل شعار «يس وي كان» (نعم نقدر) التاريخ مثل شعارات قبله:

مثل شعار «آي هاف ادريم» (عندي حلم) الذي كرره ست عشرة مرة القس الاسود مارتن لوثر كينغ في خطابه. ومثل شعار «تير داون زيز وول» (كسر هذا الحائط) الذي كرره الرئيس رونالد ريغان ثلاث مرات في خطابه. ومثل شعار «آسك نوت» الذي كرره الرئيس كنيدي سنة 1960 في خطابه. يقول الشعار: «لا تسأل ماذا سيفعل لك وطنك. أسال ماذا ستفعل انت لوطنك».

لكن، في سنة 1863، في خطاب لينكولن، لم ترسخ في الاذهان عبارة «كلنا متساوون امام الله»، اشارة الى تجارة وامتلاك الرقيق في ذلك الوقت. والسبب هو انها كانت عبارة انقسامية، بمعنى ان اكثر من نصف الولايات الاميركية استمر يمارس تجارة الرقيق، ولفترة طويلة. وطبعا، يظهر النفاق في ان الذين ايدوا تجارة الرقيق فعلوا ذلك اعتمادا على عبارات في الانجيل قالوا فيها ان الله قسم الناس حسب الوانهم.

وجمع معهد اللغات في تكساس الاحصائيات الآتية عن خطاب اوباما:

كان طوله الفي كلمة تقريبا وهذا طول متوسط، لا يدعو الى الملل، وفي نفس الوقت، يغطي كل المواضيع الهامة. كرر كلمة «هوب» (امل) عشرين مرة. وكلمة «ويل» (تصميم او ارادة) اكثر خمس عشرة مرة، وكلمة «شينش» (تغيير) اثنتين وعشرين مرة.

كانت نسبة عشرة في المائة من الخطاب سلبية، مثل قوله: «ستكون هناك اخطاء». لم يقل: «سأرتكب اخطاء»، وتعتبر مثل هذه العبارات: اولا: عذرا مسبقا اذا وقعت اخطاء. ثانيا: اعترافا بانه ليس ملاكا، ولكن بشرا.

ثالثا: تهرب من المسؤولية المباشرة (لهذا وصفت العبارة بأنها سلبية).

لكن، هذه واحدة من أمثلة سلبية قليلة. اغلبية الخطاب كانت ايجابية، مثل قوله: «اعاهدكم بأننا سنصل الى الهدف». جعل العهد شخصيا («اعاهدكم انا»)، ولهذا، زاد من قوته واهميته.

ولم توجد في خطاب اوباما اية اشارة الى هجوم 11 سبتمبر (سنة 2001). لا يعني هذا ان اوباما اقل اهتماما من الرئيس جورج بوش الابن بما حدث. ولا انه سيكون اقل منه في تعقب منظمة القاعدة (اشار اكثر من مرة الى اهمية القبض على زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن). لكن، يريد اوباما ان ينظر الى المستقبل اكثر من الماضي. لا يبدو انه سيبكي على اطلال المركز التجاري العالمي كلما جاء ذكر 11 سبتمبر، لكنه، في الجانب الآخر، قال: «الى الذين يريدون تدمير العالم، اقول لهم: سنهزمكم».

وقال نيكولاس كرستوف، معلق في صحيفة «نيويورك تايمز» ان اوباما يجمع بين شيئين يبدوان متناقضين: في جانب: يبسط خطبه ليفهمها عامة الناس. في الجانب الآخر: يفكر تفكيرا ثقافيا عاليا. وقال كرستوف ان هناك اكثر من فرق بين خطب اوباما وخطب بوش. اولا: «رغم ثقافته العالية، يقدر اوباما على تبسيط مخاطبة عامة الناس».

ثانيا: «بسبب قلة ثقافته، يركز بوش على العواطف والهاب حماس الناس» (مثلما صار واضحا في الطريقة التي اقنع بها الاميركيين بغزو العراق).

ثالثا: «يستغل بوش ميولا عامة وسط الاميركيين بالابتعاد عن التفكير الثقافي والميل نحو الحلول السهلة البسيطة».

ولاحظ كرستوف ان اوباما لم يستعمل «كلمات التخويف» التي يجيد بوش استعمالها، مثل عبارات: «اذا لم نهزم الارهابيين في العراق، سيأتون الى هنا» و«من ليس معنا ضدنا» و«تجفيف مستنقعات الارهاب».

ربما لهذا، اشتهر في البيت الابيض، خلال سنوات بوش، كتاب خطبه اكثر من مثقفين يعتمد عليهم، او يتناقش معهم.

ولهذا، جاءت خطب بوش «بوبيولار» (شعبية) اكثر منها «انتيلكشوال» (ثقافية).

قبل اوباما باكثر من اربعين سنة، اشتهر الرئيس كنيدي بالخطب «المثقفة». ورغم ان كلا من الرئيس ريتشارد نيكسون والرئيس بيل كلينتون كانا «مثقفين»، تغلبت الاحاسيس والطموحات السياسية على ثقافتهما، وانعكس ذلك في خطبها: اولا: كانت خطب ريتشارد نيكسون خلال حملته الانتخابية الاولى سنة 1968 تدور حول كلمتي «امن ونظام»، في اشارة واضحة الى السود (بهدف كسب اصوات البيض، خاصة في ولايات الجنوب). ثانيا: كانت خطب بيل كلينتون خلال حملته الانتخابية الاولى سنة 1992، تدور حول كلمة «هوب» اشارة الى انه جاء من مدينة صغيرة بهذا الاسم في ولاية آركنسا، اي انه ابن الشعب. ثم اشارة الى امل في الافق، وكان شابا في ذلك الوقت.

ومن حكم التاريخ ان الرجلين «المثقفين» لم يبتعدا عن الثقافة فقط، ولكن، ايضا، عن مكارم الاخلاق. قضى تجاوز اخلاقي على واحد (نيكسون)، وكاد ان يقضى تجاوز اخلاقي على الثاني (كلينتون). لهذا، يبدو ان خطب اوباما ستكون مثل كنيدي في اعتمادها على ثقافة عالية، وفي نفس الوقت، ستكون شعبية باستعمالها عبارات بسيطة. وقبل فوز اوباما، جمع المعهد معلومات لغوية عن خطبه وخطب غيره من المرشحين لرئاسة الجمهورية خلال الحملة الانتخابية التي بدأت مع نهاية السنة الماضية.

اكثر كلمة استعملها المرشحون، ورددها الناس كانت «شينش» (التغيير) وصاحبها، طبعا، هو اوباما. ثم كلمة «اكسبيرينس» (خبرة)، وكرر هذه السيناتور ماكين اكثر من اوباما.

ولم يستعمل المرشحون كلمة «وومان» (امرأة) كثيرا، لكنهم استعملوا كلمات تدل عليها، مثل «خبرة» و«تجربة». وكان واضحا ان هذا من باب الاحترام والتأدب. خاصة من جانب المرشحين الرجال. رغم ان «امرأة» كانت الكلمة الرئيسية، ربما اكثر من «تغيير» خلال الانتخابات التمهيدية وذلك بسبب المنافسة الحادة بين اوباما والسيناتور هيلاري كلينتون. ثم بين اوباما ونائبه بايدن في جانب، وماكين ونائبته سارة بالين في الجانب الآخر.

بالاضافة الى كلمة «امرأة»، لم تستعمل كلمة اخرى هامة، وهي «بلاك» (اسود). ولابد ان هذا من باب التأدب، ايضا. وخاصة لم يستعملها ماكين ولا سارة بالين، رغم انهما رمزا اليها اكثر من مرة. اشارت سارة الى «العمل في شوارع شيكاغو» وهي قصدت ان اوباما كان يشترك في العمل الاجتماعي هناك، لكن، ايضا، غمزت ان اسم شيكاغو له صلة بالسود ومشاكلهم وجرائمهم. حتى كلمة «افريكان اميركان» (اميركي افريقي) التي تعتبر وصفا اكثر احتراما من «اسود»، لم يستعملها ماكين وسارة كثيرا. غير ان ماكين، في خطاب اعترافه بالهزيمة، قال ان اوباما دخل التاريخ لأنه اول «افريكان اميركان» يفوز برئاسة الجمهورية. حتى الرئيس جورج بوش، في المقابلة التلفزيونية معه يوم الثلاثاء، استعمل كلمة «هستوريكال» (تاريخي)، وهي اشارة غير مباشرة للون اوباما الاسود. وصار واضحا ان البيض، تأدبا ومجاملة، اقل من السود في الاشارة الى لون الجانب الآخر، ليس فقط خلال الحملة الانتخابية، ولكن عبر التاريخ الحديث للنقاش حول العلاقات بين اللونين. فهل يتغير هذا خلال الايام المقبلة؟ وهل يتأثر بنجاح او فشل اوباما في البيت الابيض؟