أوروبا.. الحلوة

هكذا ينظر الأوروبيون إلى بعضهم: الأول في الغرام إيطالي.. وفي الأكل فرنسي.. وفي السياسة إنجليزي.. وفي التنظيم ألماني

TT

تقول الدعابة إن العنوان أعلاه هو ما ينتظر الناس في جنة النعيم والمدينة الفاضلة، أما في جهنم الحمراء والمدينة الفاسدة فينقلب الأمر ويصبح الأولَ في الغرام ألماني (أسوأ المحبين) وفي الأكل انكليزي (الأقل فهما لجودة الطعام) وفي السياسة فرنسي (الأكثر حماقة وغرورا) وفي التنظيم ايطالي (بطل الفوضى والاضطراب). هل يفكر الاوروبيون فعلا بهذه الطريقة؟ وهل لديهم قالب ونمط ثابت يحملونه حول جيرانهم وإخوتهم في الاتحاد الاوروبي، وكل ما يهمهم لا يتعدى الوحدة النقدية واليورو والسوق الأكبر، فلا تهمهم أوروبا كقوة عظمى ولا السياسة الخارجية الموحدة أو الموافقة على معاهدة الوحدة الاوروبية لأنهم لا يثقون بحصافة رأي الجيران وروحهم الاندماجية وإيمانهم باوروبا بسبب القوميات المختلفة واللغات المتعددة والحروب التاريخية التي ما زالت تلقي بظلالها على الحاضر وتكون صورة عقلية تمثل رأيا مبسطا ومتحيزا الى حد الافراط والتشويه؟

يقول ماتيو مارزوتو، الرئيس الجديد لمؤسسة السياحة الايطالية، والرئيس السابق لدار فالنتينو للأزياء «بالفعل لدى الفرنسيين من أهل باريس بعض الغرور، فقد عانيت من ذلك أثناء زياراتي المتعددة اليها رغم أنني من عائلة ثرية معروفة لكنني وجدت أهل الريف الفرنسي في غاية اللطف والود». إيطاليا عانت في تاريخها الحديث من احتلال فرنسا ثم النمسا واسبانيا لقسم من أراضيها، كما لا ينسى الكبار في السن وجود الجيوش النازية فيها أثناء الحرب العالمية الثانية، وذكر لي أحد الساسة وهو جورجيو فولينو أنه ذهب ذات مرة الى فلورنسا في الخمسينات ودخل أحد الفنادق فوجد سائحا المانيا يحاول الحصول على غرفة لكن موظف الفندق كان يكرر له أنه لم تبق غرف شاغرة، ولما سألته ـ بعد انصراف السائح الالماني خائبا ـ عن نصحيته لي بالتوجه الى فندق آخر أجابني: لا تقلق فلدي غرفة جيدة لك إنما لست مستعدا لاعطائها الى ذلك الجرماني الهتلري. بالطبع تبدلت الأمور كثيرا في العقود الأخيرة وأصبح الألمان والنمساويون أقرب الزبائن لايطاليا وبضائعها وسواحلها ومهرجاناتها ومدنها الفنية الرائعة، لكن ما زال بعض الايطاليين يعتقدون أن الألمان يستعملون لغتهم الجافة القاسية لتدريب الكلاب لأن الكلب يحب تلقي الأوامر بخشونة حتى يطيع صاحبه بينما لا تتيح له اللغة الايطالية الموسيقية العذبة سماع التعليمات كأوامر عسكرية.

* مقهى أوروبا

* قررت ست دول أوروبية منذ عام 1957 بدء عملية الوحدة الاوروبية تدريجيا بعد مآسي الحرب العالمية الثانية، متناسية التناحر والانتقادات فيما بينها، وكانت ايطاليا من الدول المؤسسة وكذلك فرنسا والمانيا وبلجبكا وهولندا ولوكسمبورغ ووصل عدد أعضاء الاتحاد الاوروبي في السنوات الأخيرة الى 27 دولة تتكلم 23 لغة رسمية وتتعامل 15 دولة منها بعملة موحدة هي اليورو، وأصبح للجميع سوق واحدة تتبع نفس القوانين في كافة الدول الأعضاء التي تسمح بحرية تنقل الأشخاص والسلع والرساميل ورفعوا شعار «الوحدة في التنوع». يقول جوليو تريمونتي، وزير الاقتصاد والمالية الايطالي، في كتابه الأخير «الخوف والأمل» الذي تنبأ بالأزمة المالية الراهنة «اوروبا لم تعد تتمكن من تغيير العالم إنما العالم غير أوروبا، فأوروبا لم تدخل في طريق العولمة لكن العولمة دخلت اليها فوجدتها جاهزة للأزمة إنما فاتها أن تحضر لها سلفا». بين الجد والمزاح يحاول الاوروبيون الصمود في العالم المعاصر ومواجهة أزمة الاقتصاد العالمي، لكن كل دولة تمشي على طريقها الخاص، رغم اجتماعات القمم المتواصلة. العالم يريد أن يعتمد على الاوروبيين كقوة موحدة مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند والدول الاخرى التي تمثل الأعمدة الرئيسية التي يرتكز عليها العالم، لكن ما يهم أوروبا التي بدأت كسوق مشتركة أن لا يأتي أجلها ونهايتها من السوق نفسه، فهي النموذج الفريد في العالم الذي يتوهم أن السوق لوحدها كافية للبقاء ومواجهة العواصف وأن الوحدة السياسية ليست سوى هدف بعيد المنال، وبإمكان الناس أن يتهكموا على بعضهم البعض نظرا للفروقات الكثيرة فيما بينهم، فالمواطن الايطالي من جزيرة صقلية على البحر المتوسط يختلف عن المواطن السويدي من الشمال في سلوكه وقيمه وتأثير المجتمع عليه لكن الوضع الدولي الحالي قد يجرف أوروبا بدولها السبع والعشرين في خضم المد الآسيوي والمنتجات الصينية والهندية الزهيدة الثمن، وقد تخسر المنافسة مع المارد الآسيوي فلا يتبقى لها سوى العودة الى مذهب حماية الانتاج الوطني بفرض الرسوم الجمركية كما كانت الحال أثناء فترة الحماية الاقتصادية قبل عصر العولمة، ويقتصر الانفتاح على بقائها كمنطقة سياحية مميزة تحفل بالتاريخ والفن والأزياء الأنيقة والمطبخ اللذيذ بينما تنتقل شركاتها الى آسيا واميركا اللاتينية لإنتاج البضائع المصنعة، من الملابس الى السيارات.

حين تسلمت النمسا رئاسة الاتحاد الأوروبي قبل عامين انتقوا مقهى في كل بلد أوروبي للبرهان على مدى الابداع الطعامي الحلواني وتنوعه في أوروبا خاصة في تحضير الكعكة (أو الكاتو) تحت شعار «أوروبا الحلوة .. دع نفسك تخضع للإغراء» لذا اختاروا 27 نوعا من الحلويات المتنوعة التي تمثل كل دولة من الدول الأعضاء وتزامنت الحملة مع الذكرى 250 لولادة الموسيقار النمساوي العظيم موتسارت، فوزعوا مجانا في مسقط رأسه في سالزبورغ الشوكولاته المشهورة بصورته على الغلاف، وتساءلت سفيرة النمسا لدى بريطانيا، غابرييل ماتزنر هولتزر، قائلة «لماذا لا نجد النكات حول الاتحاد الاوروبي؟» ويبدو أنها لم تكن مطلعة على الفكاهات المنتشرة بغزارة في ايطاليا التي تنتقد القريب والبعيد وكذلك الفساد في ايطاليا نفسها والتي تقول إحداها بمناسبة الأزمة الغذائية الراهنة وارتفاع أسعار الخبز والمعجنات (الباستا) إن الامم المتحدة بعثت باستبيان للدول الأعضاء لجمع الاحصائيات، وكان السؤال: أجب بكل أمانة وأعطِ رأيك حول وفرة الغذاء أو قلته في بلدك وفي بقية بلاد العالم، فجاء الجواب: الاوروبيون لم يفهموا ما تعنيه كلمة «قلة» والأفارقة لم يفهموا معنى «وفرة» والصينيون لم يفهموا ماذا يعني لفظ «رأي» أما البرلمان الايطالي فما زال منهمكا في النقاش حول معنى كلمة «بكل أمانة». أما آخر النكت الفرنسية عن ايطاليا فتقول: بماذا يتفوق الايطالي عن الفرنسي ؟ والجواب انه يعرف أشكال وأسماء مختلف أنواع المعجنات الغريبة العجيبة ولا يهتم بتقديم بيانات سنوية لمصلحة الضرائب، ويلبس آخر موديلات النظارات السوداء الشمسية في الغرف المغلقة، ويعمل حسب نظام «الدوام على كيفك» أي بالمصطلح الاداري الحديث: على أساس ساعات العمل القابلة للتكيف ! يشتهر الألمان بالجدية والنزاهة والقهقهة بصوت عال لكن النكتة المفضلة في المانيا منذ انضمام دول اوروبا الشرقية الى الاتحاد الاوروبي تقول إن رجل أعمال ألمانيا اجتمع بزميل له من رومانيا وأخذه في نزهة بالسيارة خارج مدينة فرانكفورت وانبرى قائلا له: أترى هذا الطريق السريع (الاوتوستراد) الذي نسير عليه ؟ لقد موّله الاتحاد الاوروبي بكلفة 10 ملايين يورو لكن الكلفة الحقيقية لم تزد على 5 ملايين، وأترك لك أن تدرك ما حصل. أما حين استضاف رجل الأعمال الروماني زميله الألماني في بوخارست واصطحبه بالسيارة قال: أترى هذا الطريق السريع في رومانيا ؟ فنظر الالماني حوله ثم أجاب: لا أرى شيئا.. فقال الروماني: لقد دفع الاتحاد الاوروبي تكاليفه بمبلغ 5 ملايين يورو وأترك لخيالك أن تتصور ما جرى ! أما الانكليز المشهورون بنكاتهم «الباردة» التي تصيب في الصميم فالدعابة المنتشرة بينهم هذه الأيام تقول: كيف يعمل الاتحاد الاوروبي ؟ يسنون القوانين التي يطيعها الانكليز، ويلويها الفرنسيون، ويخرقها الاسبان، أما الطليان فيدعون أنهم لم يسمعوا بها اطلاقا. يقول السفير الفرنسي الأسبق لدى ايطاليا جيل مارتينيه «على الفرنسيين والايطاليين أن ينسوا النماذج النمطية التقليدية عن بعضهم البعض ويتذكروا ما قاله الشاعر الفرنسي المعروف ابولينير المولود في ايطاليا، قال : كانت ايطاليا بالنسبة لنا حين قرأنا تاريخ الامبراطورية الرومانية بمثابة الأم، وحين درسنا فتوحات نابوليون أصبحت بمثابة البنت، أما الآن بعد انضمامنا الى الاتحاد الاوروبي فقد غدت مثل الأخت». الايطاليون يدركون أهمية اوروبا واليورو بالنسبة لاقتصادهم لكنهم يحبون المرح بطبيعتهم الظريفة، ولا يضيعون أي فرصة للمزاح وتبادل النكات حين يجتمعون في المقاهي لتناول العصير والساندويتش والكابوتشينو ويحاولون تقليد الفرنسيين في الكثير من الامور، حتى أنهم حسنوا وضع العاصمة الايطالية منذ توأمتها مع العاصمة الفرنسية واستخدموا الدعم المالي للاتحاد الاوروبي لهذا الغرض، كما أن وضعهم الاقتصادي متين نسبيا رغم الركود، وكان تخفيض قيمة الليرة الايطالية المستمر في الماضي وسيلة للخروج من المآزق الاقتصادية التي مازالت ماثلة في الأذهان، لكنهم منزعجون الآن لازدياد الغلاء الذي رافق استخدام اليورو كعملة موحدة ويسخرون من تأكيدات رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني عن السيطرة على التضخم والأرقام الرسمية التي تنشرها المؤسسات الحكومية حول ارتفاع الأسعار، فيلجأون دائما للنكتة للتنفيس عن ضيقهم أو خيبتهم. وآخر ما سمعته في أحد المقاهي في روما منذ أيام أن برلسكوني كان يتجول في أحد شوارع العاصمة مع زوجته فيرونيكا ثم توقف أمام أحد الدكاكين وقال لها: انظري، السروال بعشرين يورو والقميص بـ17 يورو وجاكيت الجلد بـ 55 فقط ومع ذلك يئن الناس ويتحدثون عن الأزمة المالية والغلاء، فالتفتت فيرونيكا إليه ثم قالت: يا عزيزي هذا ليس دكانا لبيع الملابس إنما لتنظيفها على البخار.