«عسكر طيبة».. مقاتلون بوجهين

متطوعون من الجماعة ساعدوا سكان باكستان بعد الزلزال المدمر.. وبعد 3 سنوات اتهموا بحمل رشاشات وفتح النار على المدنيين في مومباي

أحد المسلحين المشاركين في اعتداءات مومباي في اللحظات الأولى للهجوم على محطة القطارات (رويترز)
TT

عندما ضرب زلزال قوي المناطق الشمالية في باكستان في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2005، لم تبذل أي مؤسسة غير حكومية الجهد نفسه الذي بذلته المؤسسات الخيرية التابعة لـ«عسكر طيبة». كان المتطوعون من «عسكر طيبة» يتنقلون بين الركام، يساعدون السكان، ويقدمون لهم المساعدات التي يحتاجونها. بعد ثلاث سنوات، أصبح هؤلاء الشبان أنفسهم الذين ساعدوا المنكوبين في الزلزال، على رأس قائمة المتهمين بحمل رشاشات حربية وفتح النيران على مئات المدنيين وقتل أكثر من 195 شخصا، في احدى اكبر العمليات الارهابية التي ضربت مومباي، العاصمة المالية للهند، والتي أطلق الكثيرون عليها اسم «11 سبتمبر الهند». ففي خلال مقابلة أجرتها المفكرة الباكستانية، عائشة جلال، مؤلفة الكتاب الشهير عن تاريخ الجهاد في جنوب آسيا، عام 2005، مع حافظ محمد سعيد، الزعيم السابق لـ«عسكر طيبة، لمحت له بأن المساعدات الإنسانية التي قدمها رجاله للمتضررين في الزلزال الذي وقع في شمال باكستان، يعتبر نوعا من أنواع «الجهاد الأكبر». في ذلك الوقت، لم يعتبر سعيد الامر جهاداَ. الا ان إجابة سعيد، أعطت عائشة جلال فكرة عن العناصر المتطرفة في المجتمع الباكستاني، والتي تكتلت للمشاركة في الجهود الدولية المبذولة لهزيمة التوسع الشيوعي بأفغانستان في الثمانينات، تحت حماية جهاز الأمن في الدولة الباكستانية. وأخبر سعيد عائشة جلال، بأن المساعدات الإنسانية التي كان رجاله يقدمونها ليست جهادا، وأن نتائجها «لا يمكن مقارنتها بمنافع الجهاد العسكري الذي كان يشنه هو ورجاله في أفغانستان وكشمير». وورد في ادعاءات زعماء «عسكر طيبة» أن هناك أكثر من 10 آلاف مسلح مدرب، يوجد من بينهم 7 آلاف مسلح يشتركون في عمليات عسكرية بكشمير الهندية. ويعد تغيير تركيز قواته المدربة ذات الحافز القوي من النشاط العسكري إلى تقديم المساعدات الإنسانية في المناطق المتضررة من الزلزال، خطة تكتيكية لتفادي غضب جهاز الاستخبارات والأمن الباكستاني الذي تخلى عن صنيعته بعد تعرضه لضغوط من دول غربية، وخاصة الولايات المتحدة. وعندما حظرت الحكومة الباكستانية في يناير (كانون الثاني) عام 2002 نشاط «عسكر طيبة»، الجماعة المسلحة السيئة السمعة التي تعمل في باكستان وإقليم كشمير الهندي، حولت قيادة الجماعة سريعاً عملياتها إلى خارج باكستان، لكن جماعة الدعوة، وهي جماعة شقيقة لـ«عسكر طيبة»، ما زالت مستمرة في أنشطتها في مدن وبلدات باكستانية، وخاصة في المناطق الشمالية الغربية من البلاد، والتي تأثرت بالزلزال القوي. ويعتقد الكثير من الخبراء أن جماعة الدعوة تعمل أيضا كغطاء لنشاط «عسكر طيبة» في باكستان. ولكن تنفي قيادة جماعة الدعوة أي صلة لها بـ«عسكر طيبة» وعملياتها المسلحة. وفي الفترة الأخيرة، قتل عدد من أعضاء الجماعة المحظورة أيضا في عملية عسكرية في المناطق القبلية الباكستانية، مما يوضح تحويل الجماعة لعملياتها بعيداً عن المدن الكبرى في باكستان. وقد حظرت حكومة الرئيس بالباكستاني السابق برفيز مشرف نشاط جماعة «عسكر طيبة» تحت ضغوط من دول غربية؛ منها الولايات المتحدة، بعد أن وجدت وكالات الاستخبارات الغربية صلات بين «عسكر طيبة» و«القاعدة». وذكر أحد المصادر أن «عسكر طيبة» في فترة من الفترات أيضا كانت توفر حراسة لزعيم القاعدة أسامة بن لادن. وقد ألقت قوات الأمن الباكستانية القبض على مئات المسلحين الذين ينتمون إلى «عسكر طيبة» في يناير (كانون الثاني) 2002، بعد أن أعلن مشرف حظر نشاط الجماعة. وأعلن حافظ محمد سعيد، زعيم «عسكر طيبة» السابق، الذي كان يعتبر مقرباً جداً من المؤسسة الأمنية الباكستانية، أنه ترك قيادة الجماعة، بعد أن حظرتها الحكومة مباشرة. ويرأس حافظ سعيد الآن جماعة الدعوة التي يقع مقرها في بلدة موريدكي الصغيرة، الواقعة في محيط ثاني أكبر مدينة باكستانية، لاهور. وأظهرت زيارة حديثة إلى موريدكي أن جماعة الدعوة لديها حضور قوي في البلدة، وأن حيطان البلدة مكتوب عليها شعارات مناهضة للهند وتدعو إلى تحرير كشمير. ويتهم منتقدو الحكومة السابقة تحت رئاسة مشرف بعدم إلقاء القبض على أي من زعماء «عسكر طيبة» البارزين في يناير (كانون الثاني) 2002، بعد تولي مولانا عبد الواحد الكشميري، وهو شخصية غير معروفة وغامضة، قيادة الجماعة. ومنذ توليه لم يظهر مولانا الكشميري للعامة ولم يُصدِرْ بياناً عاماً على الإطلاق.

وأسست المجموعتين الشقيقتين، «عسكر طيبة» و«جماعة الدعوة»، مجموعة من معلمي الدراسات الدينية عام 1986 بالاشتراك مع جامعة لاهور للهندسة والتكنولوجيا. وقاد تلك المجموعة حافظ محمد سعيد، الشخصية الكاريزمية الهادئة. كان سعيد يريد أن يشارك في الجهاد في أفغانستان. ويقول سهيل عبد الناصر، الصحافي الباكستاني الكبير المتخصص في الشؤون الأمنية: «كانت هناك منظمات مثل «عسكر طيبة» و«جماعة الدعوة»، تعمل كشبكة دعم موازية للمجاهدين في أفغانستان». ولكن في عام 1989، أوقفت «عسكر طيبة» نشاطها المسلح في أفغانستان وركزت اهتمامها على كشمير ذات الاغلبية المسلمة والخاضعة للحكم الهندي. وفي شرحه لخلفية ذلك القرار، صرح زعيم الجماعة في ذلك الوقت حافظ محمد سعيد: «نبتعد بأنفسنا عن الصراع الداخلي بين الجماعات الأفغانية المختلفة، ونركز كل اهتمامنا على إقليم كشمير الذي تحتله الهند». وتعتبر جماعة «الدعوة» هي المنظمة الأم التي أنشأت «عسكر طيبة» كمنظمة ثانوية لإرسال الشباب الباكستاني والعربي إلى الحرب في أفغانستان، وفيما بعد كشمير. ولكن ظلت كلتا الجماعتين تدعمان بعضهما الآخر في النشاط، وكان هناك اختلاف بسيط بين الاثنتين، فيما يتعلق بالعضوية. ويقول محمد أمير رانا، الباحث الذي كتب بتوسع عن الجماعات المسلحة في باكستان: «قبل أن تفرض الحكومة حظرا على عسكر طيبة، كان لديها 74 مكتبا في جميع أنحاء باكستان. ولكن بعد الحظر، تم غلق العديد من المكاتب أو تحويلها إلى مكاتب لجماعة الدعوة». وفي شبكة معقدة من المنظمات، كانت جماعة الدعوة منهمكة في عمل أساسي بتجنيد وتحفيز الشباب في المناطق الريفية في بنجاب والسند (وهما أكبر وثاني أكبر محافظات باكستان) من أجل الجهاد. وكان لجماعة الدعوة شبكة منظمة للغاية من المعلمين والمجندين في المناطق الريفية في بنجاب والسند الذين ما زالوا يعملون في تجنيد الشباب من السكان شديدي الفقر وإرسالهم إلى موريدكي حيث مقر الجماعة، من أجل تلقي دورات تعليمية وتدريبية مجانية في الجهاد.

وتقع موريدكي على مسافة 30 كيلومترا من جنوب غرب لاهور. وتتمركز جميع أنشطة الجماعة التنظيمية والتعليمية في هذه المنطقة. ولكن من المعتاد أن يتولى برنامج تدريب الشباب عسكريا مدربي عسكر طيبة في مرتفعات كشمير الباكستانية، ومع وجود الحظر في الوقت الحالي، توقف ذلك الأمر، كما صرح مسؤول حكومي رفيع المستوى. وبعد وقوع هجمات مومباي وخوفاً من شن الهند هجوما جويا على مقر جماعة الدعوة في موريدكي، صرح سعيد في بيان له: «لا يوجد نشاط عسكري في موريدكي، ولكنها مجرد مؤسسة تعليمية»، ولكن معلمين بمدارس وكليات جماعة الدعوة، قالوا لـ«الشرق الأوسط» سراً أنهم ما زالوا يقدمون التدريبات التعليمية عن الجهاد والنشاط المسلح لطلابهم. وتختلف المواد التي تدرس في مدارس الدعوة إلى حد كبير عن المواد التي يتعلمها آخرون في مؤسسات أخرى، فدراسة اللغة العربية والأردية والإنجليزية إجبارية، ومعظم المواد تم تعديلها لتتفق مع التفسير الإسلامي للمواد العلمية. وتشكل فكرة مجانية التعليم والغذاء والسكن، عناصر جذب كبيرة للمجتمع الريفي الباكستاني حيث يعيش سكانه في فقر مدقع. لذا تعرف جماعة الدعوة جيدا كيف تستغل الموقف. وهي ترسل وفودا من علماء الدين إلى المناطق الريفية لإحضار فتية صغار بوعد إدراجهم في تعليم مجاني في موريدكي حيث يُلقنون مفاهيم القتال.

ويذكر الخبراء أن منظمات مثل جماعة الدعوة ما زالت لا تواجه أي مشكلة في الحصول على مبالغ كبيرة في صورة تبرعات من بعض التجار الصغار والمغتربين الباكستانيين الذين يعيشون في دول الخليج. وقال مسؤول في الاستخبارات الباكستانية: «حتى بعد أن فرضت الحكومة الحظر على جمع الأموال من أجل الجهاد، ما زالت جماعة الدعوة تجمع ملايين الروبية من صغار التجار في باكستان». وخوفا من حدوث حركة ارتجاعية من قبل الحكومة الباكستانية عام 2002، عندما تم فرض الحظر على «عسكر طيبة»، اتخذ صاحب فكر الحركة كلها، حافظ محمد سعيد قرارين مهمين. وفصل جماعة الدعوة عن أنشطة «عسكر طيبة» العسكرية واستقال من منصبه كزعيم لـ«عسكر طيبة». وأعلن أن الجماعة ستحول عملياتها إلى كشمير الهندية وستوقف عملياتها في باكستان. ويقول أمير رانا: «كان على جماعة الدعوة أن تواجه المصاعب التنظيمية بسبب الحظر على «عسكر طيبة» حيث كان معظم الباكستانيين معتادين على اسم «عسكر طيبة» أكثر من جماعة الدعوة». وكان نجاح الجماعة في العمليات العسكرية التي خططتها ضد الجيش الهندي في كشمير الهندية السبب الرئيس لشعبيتها بين الشعب الباكستاني، وقدرتها على جمع تبرعات هائلة من تجار محافظين في باكستان. وقبل فرض الحظر عام 2002، كانت صحيفة «عسكر طيبة» الرسمية، مجلة «الدعوة»، تنشر تقارير مفصلة عن العمليات التي يتعرض لها الجنود الهنود على أيدي مسلحي «عسكر طيبة» وعن أنشطتها المسلحة الأخرى في كشمير. ودخلت الهجمات الانتحارية، التي تسببت في إلحاق أضرار بالغة بالمجتمع الباكستاني، لأول مرة في إقليم كشمير الخاضع للسيطرة الهندية بواسطة مسلحي «عسكر طيبة». وادعت مجلة «الدعوة» أن «عسكر طيبة» نفذت 98 مهمة انتحارية في كشمير الهندية ما بين عامي 1999 و2000.

المثير للسخرية، أن الأساليب المتبعة في التفجيرات الانتحارية، كانت نفسها تستخدم ضد أهداف عسكرية وحكومية داخل باكستان من قبل الجماعات المسلحة ذاتها التي كانت الدولة الباكستانية تستغلها كأداة سياسية خارجية في الثمانينات والتسعينات. والأمر الآخر المثير للسخرية هو أن حافظ محمد سعيد كان مجبرا على الانضمام إلى مجموعة من علماء الدين في أكتوبر عام 2008، للتنديد بالتفجيرات الانتحارية ووصفها بأنها غير إسلامية. وربما يكون ذلك التنديد قد جاء متأخراً جداً.