جونز.. عقل البيت الأبيض

مستشار الأمن القومي آخر من سيستمع إليه أوباما قبل اتخاذ قراراته المصيرية.. والجنرال من أكثر المرشحين للاصطدام بكلينتون

TT

عندما يتصل مراسل أجنبي بالبيت الأبيض للاستفسار عن معلومات عادية، أو يطلب تعقيباً أو تعليقاً حول بعض الاخبار، يتم تحويل المكالمة الهاتفية الى القسم الصحافي في «مجلس الامن القومي»، وهو ما لا يحدث بالنسبة للصحافيين الاميركيين الذين يتحدثون مع مكتب المتحدث الصحافي باسم البيت الابيض، كما هو الشأن حالياً مع دانا بيرنو، المتحدثة الحالية باسم البيت الابيض. وحين يزور مسؤول اجنبي العاصمة واشنطن لا بد ان يشتمل جدول مواعيده على لقاء مع أحد المسؤولين في «مجلس الامن القومي». وتتحدد درجة هذا المسؤول طبقاً لأهمية الضيف الزائر وعلاقته أو علاقة بلاده بالولايات المتحدة. وحين يريد الرئيس الاميركي اتخاذ قرارات استراتيجية ومهمة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فإن توصيات «مجلس الأمن القومي» هي في الغالب التي تؤثر على القرار. هكذا يتضح ان «مجلس الامن القومي» هو عقل وروح البيت الابيض، على الرغم من ان الذي يشغل هذا المنصب لا يوافق على تعيينه الكونغرس كما هو الشأن بالنسبة للوزراء ومساعديهم والسفراء وجميع المناصب العليا في الادارة. كما انه ليس مطلوباً منه المثول أمام لجان الكونغرس في جلسات استماع الا إذا اراد البيت الابيض ذلك. كانت هناك الكثير من التكهنات حول من سيتولى المنصب في إدارة الرئيس المنتخب باراك اوباما، الا ان الامر حسم لصالح جنرال البحرية المتقاعد جيمس جونز الذي يحمل على كتفه أربعة نجوم، وهي أعلى رتبة في الجيش الاميركي. لقيَّ تعين جونز ترحيباً من معظم الديمقراطيين على الرغم من انه عمل ايضاً مستشاراً مع إدارة الرئيس الاميركي الحالي جورج بوش. وفي هذا الصدد، يقول آيك سكيلتون رئيس اللجنة العسكرية في مجلس النواب عن جونز، إنه «صديق وقائد عظيم» ويصفه بأنه «لديه قدرات كبيرة للتوصل الى أحكام صائبة، وهو دبلوماسي من طراز رفيع ويملك أيضاً مهارات إدارية». ويعتبر ان «هذه الصفات ستساعد كثيراً الرئيس المنتخب اوباما والولايات المتحدة». إلا ان هناك من الديمقراطيين من لم يؤيد تعيينه في المنصب، ذلك انه خلال الحملة الانتخابية كان يقدم نصائح عسكرية لكل من أوباما وجون ماكين على حد سواء، على افتراض ان ذلك أمر عادي في دهاليز السياسة الاميركية. ويقول المعارضون للتعيين إنه كان مؤيداً في بعض الاحيان لسياسات بوش حول حرب العراق، وهو من الذين ايدوا غزو العراق. كما انه وعكس ما طرح اوباما خلال حملته الانتخابية، كان يرى ان تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الاميركية من العراق ستكون له انعكاسات سلبية على المصالح الوطنية الاميركية، وهذه من أبرز نقاط التقاطعات مع اوباما الذي أكد انه لا تراجع عن وعده بسحب القوات الاميركية من العراق خلال فترة لا تتجاوز 16 شهراً من توليه مهامه في البيت الابيض في 20 يناير (كانون الثاني ) المقبل. وليس جونز هو الاستثناء بالنسبة للأشخاص الذين عينهم اوباما حتى الآن لشغل المناصب القيادية في إدارته، إذ أن أغلبهم لهم رؤى مختلفة عن أوباما، بمن فيهم هيلاري كلينتون التي عينت في منصب وزيرة الخارجية وروبرت غيتس الذي طلب منه الاستمرار في منصبه كوزير للدفاع. الا انه على الرغم من تمتعهم بآراء مختلفة عن آراء اوباما، فانهم، وكما هي طبيعة النظام الاميركي، سيكونون جميعاً في «خدمة الرئيس»، وهو التعبير الشائع بين المسؤولين في واشنطن. وهناك من يرى ان ثقة اوباما بقدراته الشخصية والزعامية، جعلته لا يكترث للاستعانة حتى بمن يخالفونه الرأي. وجونز اشتهر بجرأة لافتة الى حد انتقد فيه علناً التخطيط لحرب العراق وهو ما يزال في الخدمة. وعُرف جونز بشخصيته القيادية القوية وحضوره الملحوظ وصراحته الشديدة التي جعلته يصطدم بكثيرين، إضافة إلى قدرات خطابية وفصاحة حيث يستعمل لغة متميزة جداً إذا تحدث بالانجليزية أو الفرنسية التي يتقنها بطلاقة. كما انه يعرف بجسارته، وقد أثار اعجاب المعارضين لحرب العراق عندما رفض تولي قيادة أركان القوات الاميركية خلال فترة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق، قبل أن يقال ويخلفه روبرت غيتس. وينعت جونز صاحب القامة العسكرية المديدة، بانه رصين وحازم ودقيق، وهي بصفة عامة صفات العسكريين الاميركيين الذين يستطيعون وضع أربعة نجوم على أكتافهم. وهو على عكس العسكريين، يتحدث بصوت مسموع، ويتحدث كثيراً. وخلال جلسة استماع في الكونغرس حضرتها «الشرق الاوسط» في اكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي أمام لجنة الشؤون العسكرية في مجلس النواب. وكان جونز يدافع عن موقفه بغطرسة بل وشراسة أحياناً، خاصة عندما أمطره نواب جمهوريون بوابل من الاسئلة حول تقرير عسكري أعده عن العراق. وفي تلك الجلسة، اصبح واضحاً انه تصدى للمشكلة بلا أفكار مسبقة أو مواقف جامدة. وكان يرد بأعصاب فولاذية. وكانت عيناه الخضراوان تركزان على النائب الذي يطرح السؤال ولا يحولهما عنه، وهو يتحدث. وبدا وكأنه لا يحقق نفسه إلا عبر المواجهة. في تلك الجلسة ايضاً كان يتكلم بنبرة متوقدة وبدا للصحافيين شخصية جذابة، لكن مع طبع هائج لا يعرف كيف يحد من حركته، وكانت له طاقة مختزنة يستعملها بين الفنية والاخرى. ويعتقد كثيرون أن جونز هو أكثر من المرشحين للاصطدام مع هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية المرتقبة، إذ ان كل واحد منهما شديد الاعتزار برأيه، ولهما وجهات نظر متباينة حول عدد من القضايا العالمية. وتقول باربارا ايمرسون التي تنتمي الى حملة اوباما، عن جونز، إنه «يمتلك كل المؤهلات ليصبح مستشاراً عظيماً، ولديه سجل عسكري رفيع وتقدير من الحزبين. وهو لديه خبرة حسنة حول حرب افغانستان والتي ستكون الجبهة المقبلة التي سيتعامل معها اوباما». وقالت ايمرسون في تصريحات لـ«الشرق الاوسط»، انه قبل ان يسافر اوباما الى افغانستان خلال الحملة الانتخابية قام جونز بتقديم توضيحات له حول القوات الاميركية وقوات حلف الاطلسي والبعثات المساعدة. كما انه سبق ان قدم له توضيحات حول سياسات الطاقة. وأضافت «كان جونز دائماً واضحاً جداً. وقال إن حلف الناتو لا يكسب الحرب في افغانستان، وان حرب العراق جعلت الولايات المتحدة لا تركز على حرب افغانستان. أعتقد ان جونز سيركز على افغانستان وعلى القاء القبض على اسامة بن لادن وايمن الظواهري، هذه هي اهداف ادارة اوباما وجونز هو الرجل المناسب». ويقول الناشط والداعية للسلام ناومي ليفين إنه «عندما كان جونز في الضفة الغربية كان قاسياً جداً مع اسرائيل». أما ستني هوير زعيم الغالبية الديمقراطية بمجلس النواب، فهو يقول «إنه مثل ايزنهاور الذي لم يكن ينتمي لاي معسكر وكل طرف يريده الى جانبه»، في حين يقول الجنرال المتقاعد بيتر باس إن «جونز ينفذ مباشرة الى قلب المسألة ويعالجها بكيفية شاملة اكثر من أي شخص آخر». وبعد تعيينه، قال جونز للمراسلين في شيكاغو عندما سئل عن الطريقة التي سيتعامل بها مع هيلاري كلينتون وروبرت غيتس والآخرين في إدارة اوباما: «بعضهم اعرفهم أكثر من الآخرين، على سبيل المثال انا اعرف وزير الدفاع غيتس وأعرف السيناتورة هيلاري معرفة جيدة. كما انني التقيت عدة مرات بالرئيس المنتخب، وأعرف نائب الرئيس المنتخب (جو بايدن) معرفة حسنة. لذلك، هذا يعني اننا لن نبدأ من صفحة بيضاء بل لدينا إمكانية بداية جيدة». وحول ما إذا كان لديه تصور خاص لدوره، قال: «لم يكن لدي الوقت الكافي لانني لم أكن متيقناً بان التعيين سيتم. الآن تم الأمر، وبالتالي علينا التفكير في التركيبة المقبلة لمجلس الامن الوطني الذي يمكنه أن يكون مساعداً لرئيسنا الجديد». ورداً على سؤال حول ما إذا كان سيعمل على خلق توافق في الآراء بين اعضاء مجلس الامن القومي، قال جونز: «أظن أن ذلك مهم. اعتقدت دائماً ان تحقيق نتائج، حتى في الحياة العسكرية، هو عبر انتهاج أسلوب يجعل الناس يشعرون ان أية مشكلة هي مشكلتهم وهم جزء من الحل. حدوث توافق أمر مهم. في نهاية المطاف لو تحتاج الى قرار، فإن المطلوب منك ان تذهب الى رئيسك وتقول له: حسناً هذه هي المعطيات وهذه هي الخيارات وهذه توصياتي، ماذا تريد انت ان تفعل». وعندما سئل عما إذا كان يجب على إدارة اوباما أن تكون أكثر براغماتية وليست لها نزعة آيديولوجية كما هو شأن إدارة الرئيس الحالي جورج بوش، قال جونز: «لا أعرف اين تنتهي الآيديولوجية أو تبدأ البراغماتية، لكنني أتفق تماماً انه كيف ما كان الوضع، يمكن لهذا الفريق، بل ينبغي عليه، ان يعمل، ويجب على كل أحد حول المنضدة ان يفهم ذلك ونحن ندرك من سيتخذ القرار في الامور الصعبة. لذلك علينا بناء جهاز الامن الوطني ليعمل بكفاءة وبطريقة ملائمة لما يجري في العالم». وفي معرض اجابته عن سؤال حول ما إذا كان قرار الاحتفاظ بوزير الدفاع روبرت غيتس تحرك ايجابي بالنسبة للسياسة المتبعة في العراق، قال: «الاستمرارية شيء جيد. لدينا الآن رئيس جديد، ونخوض حربين وتحديات اقتصادية هي الاكبر في نوعها منذ فترة الكساد الكبير (ثلاثينات القرن الماضي) هناك أمور مهولة تحدث. وإذا كان هو مرتاحاً (غيتس) كما يُفترض وأعرف انه مرتاح إذا فالاستمرارية أمر جيد». وكان جونز قد لفت اليه الانظار وأثار ضجة كبيرة عندما ترأس لجنة درست أوضاع قوات الامن العراقية، حيث اشارت تلك اللجنة في تقريرها الذي نشر العام الماضي الى انتشار الفساد بين القوات العراقية، وأوصت بتسريح 25 الف جندي كانوا يشكلون قوة الشرطة. وضرب التقرير عرض الحائط بما كانت تقوله إدارة بوش من انها دربت تلك القوات تدريباً جيداً. كما انه شارك في مايو (آيار) الماضي في إعداد تقرير حول السلوكات السلبية للمنظمات الدولية التي تعمل في افغانستان. وسيعمل جونز على تحقيق هدفين مختلفين خلال عمله في إدارة اوباما، حيث مطلوب منه ضمان الأمن القومي، وفي الوقت نفسه تحقيق اكتفاء ذاتي في مجال الطاقة. ونظراً لمعرفته الدقيقة بمجال الطاقة تولى جونز بعد تقاعده من الجيش الأميركي رئاسة مؤسسة الطاقة في القرن الواحد والعشرين التي شكلتها غرفة التجارة الاميركية بهدف إيجاد وسائل لتوفير ما يسمى بمصادر الطاقة النظيفة، وهي أحد الأهداف التي وضعتها إدارة بوش لتقليل الاعتماد على النفط، لكن ذلك لم يحدث بعد أن غرقت هذه الادارة في المستنقع العراقي. ويأتي جونز للمنصب، وهو يجر خلفه خبرات دبلوماسية تمتد من كوسوفو في منطقة البلقان، الى كابل عاصمة افغانستان. وحدد أوباما مهام مستشاره، قائلاً: «سيزودني بالنصائح ويعمل بفعالية من أجل خلق انسجام داخل الحكومة، وذلك من اجل توظيف جميع عناصر القوة الاميركية لمواجهة التهديدات غير التقليدية وتنمية قيمنا». ويقول جونز نفسه عن مهمته: «الامن القومي في القرن الواحد والعشرين، يشمل جميع العناصر في قوتنا الوطنية والعمل في تناغم لتحقيق الاهداف المنشودة لضمان سلامة بلدنا والمساعدة في أن يصبح عالمنا أفضل وتوفير فرصة للعيش في سلام وأمن من أجل الاجيال المقبلة». يتحدر جونز، 63 عاما، من مدينة كنساس في ولاية ميسوري. ووالده أيضاً امتهن العسكرية ونال وساماً خلال الحرب العالمية الثانية. نشأ جونز في فرنسا حيث كان والده يعمل في شركة زراعية بعد ان ترك الخدمة العسكرية. وعندما عاد الى اميركا تابع دراسته في جامعة جورج تاون في واشنطن حيث نال ديبلوم العلوم عام 1966، ثم التحق بعد ذلك بالجيش الاميركي برتبة ملازم، وبعد تخرجه في المدرسة العسكرية بفرجينيا انتقل الى فيتنام حيث شارك في الحرب الفيتنامية لمدة سنة عاد بها الى الولايات المتحدة، بيد انه نقل بعد ذلك الى اليابان وظل هناك حتى أواخر عام 1975. كما عمل فترة بتركيا وفي شمال العراق في مهام إغاثة انسانية، وأيضا في المانيا والبوسنة ومقدونيا. ومن بين أهم المناصب العسكرية التي تقلدها، قيادة قوات مشاة البحرية (المارينز) بين عامي 1999 و2003. وفي عام 2003، اختاره وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد لقيادة قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي استمر فيها حتى عام 2006. وخلال مدة قيادته، حاول إعادة صياغة رؤية أمنية جديدة للحلف والقارة الاوروبية، إضافة إلى دعم مهمته في افغانستان حيث تولى الناتو قيادة قوات التي تعمل هناك لتحقيق استقرار في ذلك البلد. وفي فبراير (شباط) من العام الماضي تقاعد بعد مضي 40 عاما من الخدمة العسكرية. وعلى الرغم من ان التقرير الذي نشرته اللجنة التي تولى رئاستها حول اوضاع قوات الأمن العراقية بتكليف من الكونغرس، أثارت غضب إدارة بوش، فإن كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية عينته في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي مبعوثاً أمنياً خاصاً لادارة بوش الى منطقة الشرق الاوسط. إلا ان تلك المهمة لم يكتب لها أن تحقق شيئاً يذكر، خاصة بعد ان تيقنت إدارة بوش ان حلاً لنزاع الشرق الاوسط وقيام دولة فلسطينية قبل نهاية العام الحالي، كما كان يقول بوش، بات أمراً غير قابل للتحقيق. وبعد ذلك، عاد جونز الى واشنطن ليصبح رئيس إدارة المجلس الاطلسي ورئيس المعهد التابع لغرفة التجارة المكلف الدراسات حول الطاقة. وهكذا، ينتقل جونز مع اوباما في 20 يناير (كانون الثاني) من العام المقبل، الى البيت الابيض، ليشغل منصبا تصعد أهميته وتهبط، طبقاً لشخصية الرئيس الجالس خلف المكتب البيضاوي. والذي يشغل المنصب الآن، هو ستيف هادلي الذي لا يتذكر اسمه الا قليلون. فهو شخصية باهتة غير مؤثرة، وهو في الواقع ليس اكثر من «مندوب رفيع» لرايس في البيت الابيض. وفي زمن مضى كان هناك هنري كيسنجر حيث كان الناس يقولون إنه هو الرئيس، وريتشارد نيكسون وبعده جيرالد فورد هما «مستشارا الأمن القومي». فهل سيكون جيمس جونز «هادلي» ام «كيسنجر»؟ المرجح انه لن يكون هادلي الشخصية الباهتة التي لا تأثير لها في القرار بل ينحصر دورها في تفسير القرارات. وبالتأكيد لن يكون «كيسنجر» لان اوباما ليس رئيساً استثنائياً فقط، بل هو فصل جديد في التاريخ الاميركي، لذلك احاط نفسه بأقوياء مثل جونز الذي يقال في واشنطن إنه سيكون آخر صوت يسمعه اوباما قبل أن يتخذ قراراته المصيرية.