كامورا.. أخطبوط نابولي يُرهب ويُرغب

سافيانو كاتب تجرأ على فضح أسرار المافيا النابوليتانية تحولت حياته إلى فرار دائم

إدواردو كونتيني رئيس الكامورا محاطا برجال الشرطة بعد اعتقاله بنابولي في ديسمبر عام 2007 (رويترز)
TT

الجميع يتحدثون في ايطاليا هذه الأيام عن الصحافي والكاتب روبرتو سافيانو مؤلف كتاب «غومورا»، عن عصابات نابولي المسماة كامورا، التي باتت سمعتها تضاهي سمعة المافيا الصقلية، المعروفة بمواردها وشبكاتها وعنفها. فقد أعلنت الكامورا من دون حياء، عن رغبتها في تصفية سافيانو خلال الشهر الحالي، وقبل حلول عام 2009، بتفجير سيارته. ولكن لماذا أزعج كتاب سافيانو الكامورا لهذه الدرجة؟ الحقيقة أن «غومورا» هو كتاب ـ صدمة. فهو يعرض حالة العالم السفلي الخفي في ايطاليا، ويفضح أسرار الكامورا النابوليتانية بشكل دقيق وبالأسماء والأماكن وكيفية القيام بعمليات التهريب والتزوير وتوزيع المخدرات وتصفية الخصوم والشركات والجهات المتعاونة والاستثمارات الدولية، من ايطاليا الى فرنسا والصين والى المانيا وأوروبا وحتى الولايات المتحدة، والعلاقات مع المافيا الروسية والرومانية والكولومبية وغيرها. صدر الكتاب منذ سنتين ووصفته جريدة «نيويورك تايمز»، بأنه أفضل كتاب لعام 2007، وتحول الكتاب الى فيلم سينمائي ناجح من اخراج ماتيو غاروني ومن بطولة سلفاتوري ابروتزيزيه، ويسمونه ساكيتينو. وفاز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي في الربيع الماضي، وما زال الاقبال عليه شديدا، بعد ترجمته من الايطالية الى ما يزيد عن ثلاثين لغة، مما زاد من حنق الكامورا فبعثت اليه برسائل تهديد، واضطرت وزارة الداخلية الايطالية لوضع حراسة خاصة له. واضطر سافيانو الى التواري عن الانظار، ويعتقد أنه يعيش الآن خارج ايطاليا. وكان الظهور العلني الأخير له، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في ستوكهولم، في مقر الأكاديمية السويدية، التي تمنح جوائز نوبل، حين حاضر عن حرية الرأي والعنف الجامح غير الشرعي. وأصدر عدد من الفائزين بجائزة نوبل في مختلف الميادين، نداء عالميا يدعو لحمايته ويقدّر شجاعته في فضخ خفايا عالم الجريمة المنظمة، بعد خبر تخطيط الكامورا لقتله وإخماد صوته، من بينهم: داريو فو وغونتر غراس واورهان باموك وميخائيل غورباتشوف وديزموند توتو وبيتي ديفيس وشيرين عبادي.

ولد سافيانو عام 1979 في مدينة نابولي، عاصمة مقاطعة كامبانيا جنوب روما، وعمل لسنوات عديدة في إحدى كبريات الصحف الايطالية، «لا ريببليكا». وكان يتابع الأخبار المحلية ويكتب المقالات عن مشاكل نابولي وسرقاتها وعمليات الاحتيال والغش فيها، وآخرها جمع النفايات التي تمكنت حكومة برلسكوني الحالية من حلها قبل أشهر، إثر سنوات من المحاولات الفاشلة، لأن للكامورا دورا في تجارة حرق واتلاف النفايات بين ايطاليا والمانيا. ويشاع في بعض الأوساط، أن برلسكوني عقد نوعا من التفاهم الضمني مع الكامورا لانهاء المشكلة. وأدلى سافيانو منذ أيام بتصريح أثناء مقابلة أجرتها معه هيئة الاذاعة البريطانية BBC في مكان غير معروف، وقال ان الكامورا أخذت دور الحكومة والبنوك، فهي تقدم حاليا القروض التي تبلغ خمسين ألف يورو (63 ألف دولار) خلال 24 ساعة، بفائدة قدرها 4 في المائة، على الرغم من الأزمة الاقتصادية العالمية. وإذا لم يتم الدفع واستعادة الدين حسب الاتفاق، فالتصفية الجسدية واردة. وصرح لصحيفته «لا ريببليكا» اليسارية إنه كان سعيدا في حينه لاصدار كتابه الذي لاقى شعبية واسعة، لكن الكتاب أفسد حياته لأنه أصبح مطاردا، وقال عن ذلك: «لو عادت بي الساعة الى الوراء فلست متأكدا من أنني سأقوم بتأليف هذا الكتاب... حين أشعر بالضيق أنفس عن مشاعري بالملاكمة مع حراسي، بشكل ودي».

نابولي هي ثالث أكبر مدينة في ايطاليا بعد روما وميلانو، وفيها القصور الملكية التاريخية والفوضى والازدحام المزمن والغنى الفاحش والفقر المدقع. كما انها مسقط رأس جورجيو نابوليتانو رئيس الجمهورية الحالي والعضو البارز في الحزب الشيوعي سابقا. وتشتهر بمعالمها السياحية وخليجها الجميل، وبالمتنزهات الفخمة والجزر القريبة منها، مثل جزيرة كابري ومدينة سورينتو وآثار بومبي القديمة وبركان فيزوف. كما تعرف بكلياتها الجامعية العريقة مثل كلية الحقوق والهندسة ومعهد الدراسات الشرقية. أما وجود الكامورا وأساليبها العنيفة في نابولي، فهو أمر لا يخفى على أحد، رغم أن أغلبية السكان يدّعون أنهم سمعوا بها، لكنهم لم يلاحظوا شيئا. واذا مشيت في شوارع نابولي، ستتأكد من صحة هذا الكلام، كما هي الحال في باليرمو عاصمة جزيرة صقلية. فالناس يتجولون من دون خوف والمطاعم مكتظة بالزبائن، خاصة البيتزا النابوليتانية الشهيرة والمحلات التجارية تنشط في أعمالها ومبيعاتها. ويعلق البعض ساخرا أن التجار يدفعون «الخوة» مثلما يدفعون الضريبة للحكومة. والبعض يدعي أن الكثيرين من أهالي نابولي ضالعون بالتعاون مع الكامورا خاصة القضاة ورجال الشرطة، إما خوفا أو طمعا.

يعتقد بعض الباحثين أن أصل كلمة الكامورا مشتق من كلمة عربية هي «عمورة». وقد عثر على الكلمة في آثار مدينة ابيلا (عبيل أو الصخرة البيضاء) التاريخية في شمال سورية، قرب حلب، التي اكتشفها عالم الآثار الايطالي باولو ماتيي. والمصدر هو كلمة «غمر»، وجاء ذكرها في سورة هود في القرآن الكريم، حين الاشارة الى النبي لوط وقوله: «ألا إن ثمود كفروا ربهم». وهذا ما دعا سافيانو إلى اختيار عنوان كتابه وتسميته بالكلمة الاصلية «غومورا» وافتتاحه بقول احد المتكلمين في مكالمة هاتفية وضعت تحت المراقبة: «الناس مثل الدود وعليهم أن يبقوا ديداناً».

يقول سافيانو، إن من جملة أنشطة الكامورا، استيراد الألبسة الجاهزة والحقائب الجلدية ذات الماركات المعروفة من الصين عن طريق ميناء نابولي، من المعامل التي تصنع السلع نفسها للأسماء البراقة في عالم الأزياء. وتضع الكامورا الشارة والعلامة التجارية المناسبة عليها في أحد مصانعها بريف نابولي، مستخدمة عمالا فقراء من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من افريقيا. وقد قتلت الكامورا منذ شهرين ستة من العمال الأفارقة، الذين يوزعون المخدرات، كالكوكايين والهيرويين، لعدم إطاعتهم الأوامر. ثم يجري تصدير البضائع، مثل بنطلونات الجينز ماركة فيرساتشي، الى لوس أنجليس في ولاية كاليفورنيا، على أنه صناعة ايطالية باهظة الثمن. ويضيف أن رشوة موظفي الجمارك تعني سماحهم بإدخال عشر حاويات مسجلة بالرقم نفسه، وتفتيش حاوية واحدة لذر الرماد في العيون. في الفصل المعنون «أنجيلينا جولي»، يصر سافيانو على أن الثوب الأبيض، الذي ارتدته الممثلة السينمائية المشهورة انجيلينا جولي في حفلة توزيع جوائز الاوسكار، جاء قماشه من الصين، وتم تفصيله وخياطته في قرية ارزانو. والتعليمات التي وصلت الى الخياط باسكواله، اقتصرت على القول: «الثوب ذاهب الى اميركا». لكن باسكواله تمكن من تمييزه حين شاهد جولي على شاشة التلفزيون، وغضب لأنه يقبض 600 يورو (760 دولارا) شهريا، بينما دفعت الممثلة الحسناء آلاف الدولارات ثمنا للفستان، ظنا منها أنه صنع في ايطاليا على يد كبار المصممين. أما باسكواله، فعلى الرغم من موهبته، لم يسمع به أحد في العالم.

يشرح سافيانو أن قرية كازاليه دي برنشيبه قرب نابولي وكاسرتا، مركز صنع أجبان الموتزاريلا، معروفة لدى القاصي والداني بأنها مركز قيادي لزمرة خطيرة من عصابات الكامورا تسمى «كازاليزي»، وتتعاطى تجارة السلاح والمخدرات وكافة المحرمات. ويسمي أهل المنطقة تلك القرية «هوليوود»، لأن زعيم الزمرة المدعو سكافوني يحب أن يسميه الناس ساندوكان، نسبة الى شبه وجهه بالممثل الهندي كبير بادي، الذي قام بدور القرصان ساندوكان ودور الشرير في افلام جيمس بوند السينمائية، التي لاقت نجاحا منقطع النظير في الثمانينات. كما انه يشعر بمنتهى السعادة حين يشبهه احدهم بالممثل الاميركي ذي الاصل الايطالي آل باتشينو.

يسلط كتاب سافيانو، الذي حاز جائزة فياريجيو المرموقة للكتاب، الضوء على خبايا عالم الكامورا الغامض ويبوح بأسراره الخطيرة. ويقول ان الكامورا أصبحت تعتبر ايطاليا مجالا ضيقاً لها، فتحولت من تهريب السجائر من اوروبا الشرقية والبلقان الى ايطاليا في التسعينات، الى تحويل اموالها في السنوات الأخيرة الى استثمارات قانونية في الخارج، كالعقارات والمحلات التجارية والبناء في المانيا وسويسرا وبلجيكا وجمهورية التشيك، مثلما فعلت المافيا الصقلية بعد فضائح عملية «الايدي النظيفة» قبل حوالي عشرين سنة، التي أطاحت بفساد الساسة القدامى.

هذا التوسع في عصر العولمة وحرية التنقل، هو ما كان يطمح إليه زعيم الكامورا القديم ميكيل المجنون (كما كانوا يسمونه) او «ظاظا»، اسم الدلع، الذي وسّع أنشطته القانونية إلى جنوب فرنسا في العقود الماضية، وقبضت عليه السلطات الفرنسية عام 1993، بعد ان فاحت روائح المافيا من معاملاته التجارية مع أندية القمار والكازينوهات. ويخشى خبراء الاقتصاد أن تستثمر الكامورا وغيرها من عصابات الاجرام المنظمة، أموالها الفائضة، التي تم تبيضيها بشكل قانوني، في العديد من الشركات التي تعاني من السيولة النقدية أو هبوط الأسعار في أوروبا أو اميركا، خلال المرحلة الراهنة. ويقول بيير كارلو بادوان، نائب الامين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في تصريح لـ«الشرق الاوسط»: «إذا صدقنا أن المافيات دخلت السوق المالية العالمية في السنوات الأخيرة، فلا شك أنها خسرت الكثير مثلما خسر غيرها، لكن إن احتفظت بقسم من أموالها غير القانونية خارج السوق العالمي فانها لن تتأثر، وقد تلجأ إلى الاستثمار بطرق ملتوية لا تثير الانتباه». ايطاليا ستتحول تدريجيا في عهد حكومة سيلفيو برلسكوني الحالية، الى دولة فيدرالية من ثلاثة أجزاء قي الشمال والوسط والجنوب، لكن السؤال يبقى: كيف ستتصرف عصابات الاجرام المنظمة والمافيات المتعددة التي نشأت في الجنوب وتوسعت نشاطاتها رغم الضربات التي تلقتها خلال عصر العولمة وفتح الحدود بين دول الاتحاد الاوروبي؟

لا يبدو موقف الحكومة الايطالية هذه الأيام شديد الوضوح تجاه ظاهرة الكامورا المعقدة ومشاكل الجنوب، إنما افتتح برلسكوني وزارته الثالثة بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية قبل ثماني أشهر بعقد أول اجتماع لمجلس الوزراء في نابولي، كإشارة رمزية لحل مشكلة النفايات. إنما وزراؤه من حزب رابطة الشمال، يصنفون أنفسهم كالثوار الذين سيعدلون الدستور لاقامة وحدة فيدرالية تضمن حقوق الشمال، ويهاجمون «روما اللصة»، التي تهدر الموارد المالية والضرائب التي يدفعها أهل الشمال من ميلانو والبندقية وتورينو وبولونيا، من دون أن تقدم لهم الخدمات الضرورية. وينتهي اغلبها في خزائن العصابات المنظمة المتغلغلة في الجنوب في نابولي وباليرمو وباري. فوزير الداخلية روبرتو ماروني، من زعماء رابطة الشمال، يعتبر أن الجنوب يمر حاليا بمرحلة «حرب أهلية»، لذا أرسل 500 عنصر من قوات الجيش و400 من عناصر الدرك (الكارابنييري)، لحفظ النظام والأمن في نابولي، غداة مقتل الأفارقة المهاجرين الستة برصاص فرق الموت المافياوية. ويهتم بحماية الشمال من «الغزو الأجنبي الاسلامي»، وتحديدا بناء المساجد في تلك المقاطعات.

وبرلسكوني يبدو مهتما في الوقت الحاضر بحل قضايا امبراطوريته الاعلامية والمالية ونقص موارد الاعلانات التجارية في العام المقبل، نظرا للانكماش الاقتصادي، وينظر بعيدا إلى إمكانية انتخابه رئيسا للجمهورية، إذا تمت الموافقة على الصيغة الفيدرالية.

أما الكامورا والمافيا وسواهما في مقاطعتي كالابريا وبوليا الجنوبيتين، فمعاقلهم مأمونة نسبيا إذا لم يتجاوزوا الحدود المعقولة أو يبالغوا في التصفيات، بينما تستمر محاكمات المقبوض عليهم مثل أحد زعماء الكامورا، الذي القي القبض عليه اثر خيانة عشيقته الرومانية الشابة له، وبوحها بمكان اختفائه للشرطة، ومازالت محاكمته مستمرة منذ أربع سنوات. وروبرتو سافيانو سيبقى مشردا ومتنقلا بين المدن والبلدان، خوفا من انتقام الكامورا، بينما تزيد مبيعات كتابه. ولن يتمكن من العودة إلى نابولي من المنفى وركوب دراجته النارية، إذا لم يقم الساسة وصناع القرار والمسؤولين عن تطبيق القانون، بحرب شاملة على أعضاء الجريمة المنظمة، الذين يعملون كالأخطبوط ويمتدون عبر القارات، سواء كانت ايطاليا موحدة تحت لواء حكومة مركزية أو فيدرالية. وفي العام المنصرم عقد بعض قادة الكامورا اجتماعا سريا في مخفر للشرطة في قرية سان شبريانو دافيرسا، واستعملوا الهاتف الرسمي بالتواطؤ مع أفراد من عناصر الشرطة، الذين تلقوا هدية من المخدرات، ثم تم اعتقالهم في ما بعد حين وصلت القصة إلى الصحافة. والمعروف عن زمرة كازاليزي أنها قوية وحذرة وتعمل بشكل خفيض، لكنها سامة ومميتة، وتضرب بلا رحمة. وقد بعثت إلى سافيانو بتحذير شديد وتحد سافر، فنصحته السلطات الايطالية التي تحميه بعدم المغامرة وأن السلامة خير من الندامة.