كلينتون.. السيدة الثالثة

لا تجيد أي لغة أجنبية عكس أولبرايت ورايس وليست مقربة من الرئيس الذي تخدم معه مثلهما

TT

مع اعلان الرئيس الاميركي المنتخب باراك اوباما الاثنين الماضي اختيار السناتور هيلاري كلينتون لتسلم منصب وزيرة الخارجية، يكون قد اختار ثالث امرأة أميركية لتسلم هذا المنصب، بعد مادلين اولبرايت (1996-2000) وكوندوليزا رايس (2005-2009).

وبعد اعلان التعيين، قالت الصحافية الاميركية هيلين كوبر في جريدة «نيويورك تايمز»: «لا تعرف هيلاري اي لغة اجنبية، لكنها زارت اكثر من تسعين دولة. ولم تتفاوض باسم الحكومة الأميركية، لكن تفاوض زوجها لثماني سنوات».

مقارنة بأولبرايت ورايس، فان هيلاري كلينتون تفتقد لمؤهلات علمية وعملية، الا انها جمعت في المقابل تجارب كثيرة غير رسمية. لا تجيد هيلاري اي لغة اجنبية، بينما تتحدث اولبرايت الروسية والتشيكية والفرنسية، وتعرف بعضا من الصربية والكرواتية، وتجيد رايس الروسية، وتعرف بعضا من الفرنسية.

وليست هيلاري مقربة من الرئيس اوباما مثلما كانت اولبرايت مقربة من زوجها الرئيس كلينتون، حيث كانت مستشارته خلال حملته الانتخابية، بينما كانت هيلاري منافسة لاوباما خلال الانتخابات الاولية. ولم تكن هيلاري مقربة من الرئيس اوباما مثل قرب كوندوليزا رايس من الرئيس جورج بوش. فحتى من قبل ان يصبح بوش رئيسا، كانت رايس مستشارة والده الرئيس بوش، ثم مستشارته خلال حملته الانتخابية. ثم بعد فوزه، مستشارته للأمن الوطني في البيت الابيض. لكن في الجانب الآخر، وكما قال جورج فريدمان، خبير في مؤسسة «ستراتفور» في نيويورك: «بخبرات أو من دون خبرات، عندما تجلس هيلاري مع رئيس دولة اجنبية، سينظر لها نظرة خاصة لأنها كانت السيدة الاولى، ولأنها كادت ان تفوز برئاسة الجمهورية. سينتبه اليها بكل حواسه. تدخل هيلاري مكانا وكأنها تيار كهربائي يضيء المكان». وقالت ليز شرايار، خبيرة في مركز «غلوبال اينغيدجمنت» (الارتباط العالمي) في واشنطن: «يوجد في وزارة الخارجية عشرات من الدبلوماسيين القديرين. لكن هيلاري تعرف كيف تتحدث في اي موضوع مع اي رئيس في اي بلد».

في كتاب مذكراتها، «ليفنغ هيستوري» (التاريخ المعاصر)، لم تكتب هيلاري عن مفاوضات رسمية خارجية اشتركت فيها، ولا عن اتفاقيات وقعت عليها باسم الحكومة الاميركية. لكنها كتبت عن حضورها مؤتمر الامم المتحدة عن حقوق المرأة الذي عقد في عام 1995 في الصين، عندما كانت السيدة الاولى. وحتى اليوم، لاكثر من عشر سنوات، يظل العالم، خاصة نساء العالم، يردد جملة قالتها في المؤتمر: «حقوق الانسان هي حقوق المرأة، وحقوق المرأة هي حقوق الانسان، من الآن والى الأبد».

بالاضافة الى ذلك، جمعت هيلاري تجارب ست سنوات في الكونغرس. فهي زارت العراق وافغانستان ثلاث مرات. وكانت عضوا في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. وزارت دولا كثيرة، إما كعضو في اللجنة او مع زوجها.

لكن مع ذلك، تظل هيلاري تتمتع بسمعة ربما تقلل من قيمتها وقدرتها: فهي اولا رغم انها قالت في كتاب مذكراتها «هذا موضوع عائلي»، فان شبح مونيكا لوينسكي، سكرتيرة البيت الابيض التي كان لزوجها علاقة جنسية معها، سيظل يتبعها، مثل اشباح جنيفر فلاورز وبولا جونز، وغيرهن من عشيقات زوجها. وثانيا، فهي رغم انها تقول الآن انها ما كانت ستؤيد غزو العراق لو كانت تعرف انه لا يملك اسلحة دمار شامل، أيدت بقوة، غزو العراق. وثالثا، فعلى الرغم من بشاشتها، تظل سياسية مناكفة وانتهازية. وقد قيل فيها مرة انها «مستعدة لتمشي فوق جثة والدتها لتحقق هدفها».

لكنها سياسية اميركية اكثر منها سياسية خارجية، وذلك لأنها لا تعرف كثيرا عن ثقافات الرؤساء الذين ستفاوضهم. فهل ستفعل ما فعل ريتشارد هولبروك الذي فاوض الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفتش وهما يشربان الويسكي؟ أو ستفعل ما قال هنري كيسنغر الذي فاوض العرب انه تعمد لبس كوفية عربية؟ في مقابل عدم معرفة هيلاري بالثقافات الاخرى، فهناك اولبرايت التي لا تعرف فقط بثقافات الدول المختلفة، بل هي ولدت وتربت في دول اجنبية. ولدت سنة 1937 في براغ، وكان والدها دبلوماسيا. ثم هربت العائلة امام توسعات المانيا الهتلرية النازية. هربت اولا الى بلغراد، ثم الى لندن، ثم الى اميركا. وعمل والدها دبلوماسيا في الأمم المتحدة، ثم استاذا للعلوم السياسية في جامعة دنفر (ولاية كولورادو). ومثل والدها، درست السياسة الخارجية. وعملت خلال الصيف صحافية متدربة في جريدة «دنفر بوست». وهناك قابلت الصحافي والناشر جوزيف اولبرايت، الذي تزوجها في وقت لاحق. وبرهنت مادلين على انها مناكفة وانتهازية بدرجة ربما لا تقل عن هيلاري، بل ربما أكثر. وقد غيرت مادلين اسمها، ودينها، ثم غيرت دينها مرة اخرى. الحقيقة ان مادلين كان اسمها: ماريا جانا كوربيلوفا. وكانت عائلتها يهودية. لكنها تحولت الى الكاثوليكية خوفا من الهتلرية النازية. ثم اخفت ذلك. ثم عندما كشفت جريدة «واشنطن بوست» ذلك، اعترفت. ثم تحولت من الكاثوليكية الى البروتستنانية.

وما يدل على مناكفتها مثال واحد، حصل مع الدبلوماسي المصري بطرس بطرس غالي، الامين العام السابق للامم المتحدة، خاصة ايام مذابح المسلمين في البوسنة على ايدي الاغلبية الصربية. في ذلك الوقت، وصفها بطرس بأنها «وردة ذابلة» بطريقة لا تخلو من اساءة. ثم قال، وكأنه يريد اصلاح خطئه: «انها ليست وردة ذابلة. انها وردة باسنان، تعض كل من يقترب منها».

وأولبرايت لم تعاد شخصا مثلما عادت الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وعداؤها له يعود الى قبل هجوم 11 سبتمبر وحتى قبل ان يصير بوش رئيسا. منذ ان كانت وزيرة خارجية، كانت تريد القضاء عليه.

في سنة 1996، ظهرت في مقابلة تلفزيونية، وسألتها مذيعة: «تقول تقارير الامم المتحدة ان نصف مليون طفل عراقي ماتوا بسبب الحصار الدولي على العراق. اليس هذا ثمنا غاليا؟» أجابت: «لا». (في وقت لاحق، في كتاب مذكراتها: «السيدة الوزيرة»، اعتذرت).

قبل سنتين، بدأت تغير رأيها في حرب العراق. وقالت مرة: «اخشى ان تكون العراق اكبر كارثة في سياستنا الخارجية. أسوأ من كارثة فيتنام». ولكن انصافا لها، يحبها المسلمون في البوسنة وكوسوفو، ويحبون الرئيس كلينتون، لانهما خططا ونفذا حمايتهم من مذابح الصرب.

ومثل مادلين، وعكس هيلاري، لا تخلو شخصية كوندوليزا رايس من خلفية دينية. فهي ولدت في العام 1954 في عائلة سوداء من الطبقة الوسطى، وكان والدها قسيسا، وفي كنيسة بناها جدها القسيس ايضا. تربت تربية ارستقراطية، وكانت تتزحلق على الجليد في دنفر (ولاية كولورادو) عندما انتقلت العائلة الى هناك. ثم درست في جامعة دنفر. وكان استاذها هو جوزيف كوربل، والد مادلين اولبرايت.

كتبت عن ذلك مادلين في كتاب قصة حياتها «مدام سكريتاري» (السيدة الوزيرة)، وقالت ان والدها لعب دورا كبيرا في تحويل مستقبل كوندوليزا، من ناحيتين، على الاقل: اولا: اقنعها بان تترك دراسة الموسيقى (كانت، ولاتزال، تحب البيانو) وتدرس السياسة. وثانيا: اقنعها بأن تترك الفلسفة السياسية (بوليتيكال ثيوري)، وتدرس العلاقات الدولية. وخاصة السياسة الروسية. واحتضن رايس رجلان من قادة الحزب الجمهوري. الاول برنت سكوركوفت، مستشار الرئيس بوش الاب للامن القومي. شاهدها تتحدث في ندوة في جامعة ستانفورد، وطلب منها الانتقال مؤقتا الى واشنطن لمساعدته في العلاقات مع روسيا (في ذلك الوقت، كان الاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي السوفياتي ينهاران). والثاني جورج شولتز، وزير الخارجية في ادارة الرئيس رونالد ريغان. كان قد عاد الى جامعة ستانفورد، ورشحها لتقديم استشارات لبوش الابن، حاكم ولاية تكساس عندما ترشح لرئاسة الجمهورية. وهكذا، انفتحت امامها ابواب واشنطن.

وكوندوليزا اقل انتهازية من هيلاري ومن مادلين. ليست سياسية مثل هيلاري، وليست «اجنبية» مثل مادلين. لكنها مناكفة مثلهما. وتعرف كيف تتكلم، وفصيحة مثلهما. صحيح انها اكثر اكاديمية من هيلاري (المحامية)، وايضا الى درجة ما، من مادلين، وذلك بسبب ادارتها لجامعة ستانفورد. لكنها «اكاديمية سياسية». استغلت مناصبها الاكاديمية لتحقيق اهداف سياسية. بسبب تخصصها في السياسة الروسية، وبمساعدة جورج شولتز، دخلت مجلس ادارة شركة «شفرون» للنفط. وسافرت الى روسيا وكزخستان للتمهيد لصفقات نفطية وصلت قيمتها الى عشرة مليارات دولار. وكافأتها شركة «شفرون»، وسمت واحدة من ناقلات نفطها «كوندوليزا رايس». تحمست رايس لغزو افغانستان، ثم العراق، ربما اكثر من حماسة بوش. في بداية العام 2003.

قبل شهور، حاولت رايس تقديم تفسير لغزو العراق، وقالت: «نعم، لم يكن للعراقيين دور في هجوم 11 سبتمبر. لكن العراقيين والشرقيين جزء من الظروف التي كانت سبب الهجوم». بعد غزو العراق بسنوات، اعلنت رايس «دبلوماسية التغيير» في الشرق الاوسط، اي نشر الديمقراطية.

وهكذا، تحولت كوندوليزا، الاستاذة في جامعة ستانفورد، الى رايس السياسية التي تعرف كيف تناور وتحاور وتنظر وتفسر. وبرهنت على انها ليست اقل في ذلك من هيلاري (كانت محامية نزيهة في ولاية أركنسا)، ومن أولبرايت (كانت استاذة جامعية اجنبية نزيهة في جامعة جورجتاون).

في السنة الماضية، كانت هناك اشاعات عن ان رايس ستترشح لرئاسة الجمهورية. بل صدر كتاب عنوانه: «كوندي وهيلاري: من ستكون الرئيسة؟» لكنها هي لم تتحمس للفكرة، خاصة بسبب سجلها في حرب العراق. وبسبب حرب العراق، وجدت اساءات من بيض وسود: مرة قالت لها السناتور باربرا بوكسر: «ولاؤك للرئيس بوش اكثر من احترامك للحقيقة». ومرة قال لها عضو الكونغرس لويس الاسود: «بعتي قضية شعبك وانت تجرين وراء بوش». في السنة الماضية، حاول طلاب جامعة برنستون منعها من إلقاء خطاب التخريج السنوي. وشتمتها مواقع انترنت للسود، وقالت انها تحب بوش الابيض اكثر من اخوانها واخواتها السود.

أولبرايت ورايس وكلينتون، ثلاث نساء دخلن التاريخ، وصرن وزيرات خارجية اكبر واهم دولة. تختلف خلفية كل واحدة منهن عن الاخرى، لكنهن يتفقن على قدرتهن على استغلال هذه الخلفيات لدخول السياسة من بابها العريض.