الشغب الإغريقي

«جيل الـ 700 يورو» أطلق المظاهرات.. ومقتل الصبي كان «القشة التي قسمت ظهر البعير»

الشارع الذي قتل فيه أليكس في أثينا وقد تم تغيير اسمه ليطابق اسم الفتى وعمره (أ.ب)
TT

خرسولا، المعلمة في المدرسة الابتدائية في منطقة ماروسي شمال أثينا، دخلت الصف الاسبوع الماضي وقالت لتلاميذها: «اليوم ظهرا بعد انتهاء الدوام الدراسي سوف أذهب إلى وسط المدينة لانضم إلى المحتجين وارمي الحجارة على الشرطة». فرفعت ماري التي تبلغ من العمر 7 سنوات وهي في الصف الثاني الابتدائي، يدها، وقالت بصوت حزين: «لو سمحت يا سيدتي لا تضربيهم بالحجارة. فوالدي رجل شرطة يقف بينهم وهو إنسان طيب».

رجال الشرطة في اليونان باتوا يواجهون مشاكل كثيرة منذ حادث مقتل الصبي ألكسيس غريغوربولوس (15 سنة) برصاص رجل من الشرطة مساء السادس من ديسمبر (كانون الأول). وباتوا لا يجرؤون أن يستقلوا الباصات أو مترو الأنفاق أو سبل المواصلات العامة للذهاب إلى عملهم خوفا من الاعتداء عليهم، ويضطرون لركوب سيارات الأجرة التاكسي أو سياراتهم الخاصة، كما أنهم صاروا يذهبون إلى أعمالهم بالزي المدني خوفا من الاعتداء عليهم في الطرق.

بدأت القصة يوم السبت في اول اسبوع من ديسمبر (كانون الاول)، عندما اعتدى نحو 30 شابا في ضاحية أكسارشيا الشعبية وسط أثينا، على شرطيين. فرد أحد الشرطيين برمي قنبلة مسيلة للدموع، فيما أطلق الآخر ثلاث رصاصات، إحداها أصابت الصبي أليكس وقتلته. وبعد لحظات من الإعلان عن وفاة أليكس، تحول وسط اثينا إلى ساحة لأعمال الشغب والعنف لا يزال مستمرا حتى اليوم.

حي إكسارشيا، موقع الحادث، فرض نفسه على الأحداث التاريخية في اليونان إبان الحكم الدكتاتوري في البلاد. ففي العام 1974، حصلت الانتفاضة الطلابية وعمت أعمال الشغب البلاد، عندما انقضت الدبابات والمدافع العسكرية وقتذاك على الطلاب المعتصمين داخل كلية الهندسة، ودهست العديد منهم. نتج عن تلك الانتفاضة إنهاء الحكم العسكري في البلاد وإيداع الحاكم العسكري وقتها جورجيوس بابادوبولوس إلى السجن حتى وافته المنية في سجن كوردالوس غرب أثينا قبل عدة سنوات.

الشوارع الضيقة والحارات والقديمة التي تحيط بها المباني السكنية المرتفعة أشبه بحارات الشرابية ومصر القديمة في القاهرة. هي أهم ما يميز منطقة إكسارشيا، الى جانب المحلات التجارية المختلفة بدءا من مكوجي الحارة إلى الترزي وباعة الخضار المتجول ومحلات الروبابكيا، إلى الحياة الليلية الساهرة حيث البارات والمقاهي الضيقة والمطاعم والحانات العتيقة التي تشبه حانة الخواجة ياني في بلادنا العربية.

مبنى كلية الهندسة الذي تم من داخله اعلان نهاية الدكتاتورية في البلاد، أهم ما يميز حي إكسارشيا. ويعتبر المبنى رمزا تاريخيا. هناك أيضا بعض المؤسسات التعليمية الخاصة والمدارس الفنية، وعلى حدود الحي هناك كلية التربية وكلية الحقوق. كل هذه المجمعات تستقطب الطلاب، سواء من أثينا أو من الجزر والأقاليم، الذين يأتون للدراسة. وبسبب ازدحام المكان بالمؤسسات التعليمية والطلاب، كان هؤلاء يعيشون في استوديوهات أو شقق صغيرة في هذه المنطقة الشعبية، ويقضون وقت فراغهم في شوارعها وحواريها. أما طلاب العاصمة أثينا، لا سيما أولئك الذين يتمتعون بالحرية الشخصية أو من ذوي العائلات الثرية، فهم يتوافدون إلى هذا الحي مساء بهدف التسلية وقضاء أوقات فراغهم. لكن في نهاية الأسبوع، تزدحم شوارع اكسارشيا بالطلاب الذين لا يستطيعون القدوم إلى المكان يوميا. وبما أن المكان هو مركز تجمع لشبان من مختلف العائلات والمناطق، فقد اصبح معروفا بانتشار المخدرات والدعارة وغيرها من الأشياء غير المشروعة. ولذلك كثرت فيه مؤسسات الإصلاح الاجتماعي ومعالجة الإدمان مؤخرا.

وهكذا، وبسبب الصيت العاطل الذي اشتهر به الشارع، أصبحت دوريات الشرطة والمباحث ضرورية، تجوب وتراقب الوضع هناك. الا ان انتشار الشرطة بين الطلاب، الذين يشعرون بالديمقراطية اليونانية والحرية الزائدة، لم ترق لمرتادي الحي. ولذلك فان اعمال الشغب والمواجهات بين الشرطة والطلاب في هذه الاحياء، تتكرر دائما. مرة يهدد الطلاب باشعال النيران في مركز الشرطة، والذي تم الاعتداء عليه عشرات المرات، ومرة يهددون بإلقاء الحجارة والأخشاب على دوريات الشرطة المنتشرة على مفترقات الطرق، أو حتى الاعتداء على مكاتب الأحزاب السياسية المختلفة هناك.

يروي أصحاب المحلات هناك، ان أبناء الأثرياء يأتون إلى هذه المناطق للتمتع بكل ما هو ممنوع، سواء الاعتداء على الشرطة أو الجري في الحارات الضيقة، او تعاطي المخدرات، أو قضاء أوقات سعيدة في الحانات. فهذا المكان هو مكانهم المفضل للتجمع، ويصعب على الشرطة الإمساك بهم. ونظرا لقلة عدد سكان البلاد فتكاد الوجوه كلها تكون مألوفة، وهناك صلات قرابة بين الشرطة والمواطنين وبين المواطنين أنفسهم.

وعادة ما تسفر هذه المواجهات التي تشهدها اكسارشيا عن خسائر مادية في المباني والسيارات. الا ان أحدا لم يتوقع أن تسفر مثل هذه المواجهات عن مقتل شخص ما أو خسائر في الأرواح، الى أن جاء مقتل الصبي ألكسيس غريغوربولوس. ووفقا للشرطة، فإن الشرطيين بعدما أطلقا الرصاص غادرا المكان ولم يعلما بإصابته أو قتله.

وتداعت الأحداث بعد ذلك، وبدا وكأن مقتل الصبي هو القشة التي قسمت ظهر البعير، وأعطى قوة دافعا للخروج الى الشوارع في تظاهرات قادها بداية الطلاب تحت شعار اعتداء الشرطة على المواطنين، وانضم اليهم الشعب اليوناني تحت هذا الشعار. الا ان هذه التظاهرات تخللتها اعمال شغب لم تشهد مثلها البلاد منذ عقود طويلة. وقد يرجع ذلك إلى الكبت الذي يعاني منه الشعب اليوناني لاسيما الجيل الجديد والذي يطلق عليه «جيل السبعمائة يورو»، وهو معدل الراتب الشهري الذي يتقاضاه خريجو الجامعات أو الشباب عموما، وهو أدنى أجر للعامل وفقا للقانون اليوناني.

وما زاد من حنق الطلاب، ملفات الفساد والفضائح التي طافت على السطح في الفترة الأخيرة لحكومة حزب الديمقراطية الجديدة اليميني الحاكم، وسقط بسببها عدد من الوزراء وصقور في الحزب اليميني.

وعلى مدار الأيام الماضية، اندلعت تظاهرات جميعها أخذت صفة العنف والمواجهات، إذ تضرر فيها الآلاف من العمال الذين فقدوا أعمالهم. ولحقت الخسائر أيضا بالمستثمرين والتجار وأصحاب المحلات لتعرض ممتلكاتهم إلى الاعتداءات سواء الحرق أو النهب والسلب. ووفقا للتقارير، فإن نحو 3 آلاف عامل ونحو 700 محل تجاري كان حصيلة خسائر أعمال العنف. كما رافق ذلك انفجارات عبوات ناسفة استهدفت مصارف ومتاجر ومؤسسات حكومية في أثينا وخارجها. وامتدت أعمال الشغب في اليوم نفسه إلى المدن اليونانية الأخرى والجزر، وسرعان ما تعدت حدود اليونان إلى سفاراتها وقنصلياتها في لندن وبرلين ونيقوسيا، ثم وصلت إلى باريس وموسكو وبولونيا في ايطاليا ومدريد وبرشلونة في اسبانيا وبوردو في جنوب غربي فرنسا وأزمير واسطنبول في تركيا.

الاضطرابات كانت حاضرة بشكل كبير جدا في أثينا وفي عاصمة الشمال ثسالونيكي. ويخشى كبار رجال الأعمال أن تكون آثارها كارثية على الاقتصاد المحلي، حيث تشير التقارير إلى تراجع حركة التجارة بدرجة كبيرة. وإذا ما استمر الأمر على هذا النحو، فلن يكون بالإمكان تقدير الخسائر التي ستلحق بالشركات المتوسطة والصغيرة، خصوصا مع الأزمة الاقتصادية والصعوبات الحالية التي يشهدها العالم.

وقد حاول رئيس الوزراء اليوناني كوستاس كارامنليس احتواء هذه الاحداث، فأعلن عن حزمة تعويضات مغرية للمواطنين المنكوبين بسبب أعمال الشغب، وفي مقدمة هذه التعويضات 10 آلاف يورو مساعدة عاجلة لكل متضرر، وأيضا سداد مرتبات العمال والموظفين لمدة 3 اشهر على نفقة الدولة للذين لن يتمكنوا من استئناف اعمالهم قبل 20 ديسمبر (كانون الاول) الجاري. واعتذر كارامنليس عن حادث إطلاق النار الذي أودى بحياة الصبي وأعرب عن اسفه ومواساته لأسرة الضحية. ودعا في الوقت نفسه إلى توحيد الصف السياسي بعد لقاءات مارثونية بدأها برئيس الجمهورية كارلوس بابولياس ورؤساء الأحزاب المختلفة ورئيس البرلمان. ودعا إلى نبذ العنف وإدانة هذه الأعمال بكل الطرق وبأقوى العبارات، وتوقيع أقصى العقوبة على المعتدين والمذنبين، مشددا على أن الذين يقومون بأعمال العنف هم أعداء الديمقراطية. يني، وهو صبي مراهق يبلغ من العمر 17 عاما، من ضمن الشبان الملثمين الذين يرتدون خوذة وحقيبة على ظهره فيها زجاجات وبنزين، يصنع منها القنابل اليدوية الحارقة، لم يتردد في الظهور في احد البرامج التلفزيونية ويكشف عن شخصيته، ويقول ان السبب في ما يقوم به هو حث الحكومة ورجال الدولة لأن يمنحوا الثقة لمستقبل الشباب، فهو يشعر انه لا يخسر أي شيء ولكن يريد أن يثبت وجوده حتى توفر له الدولة مستقبلا آمنا.

أما ستيلا، 20 عاما، وهي طالبة في كلية الحقوق وتتحدر من جزيرة كريت جنوب البلاد، فقد قالت لـ«الشرق الأوسط» إنها خرجت إلى المظاهرات لأنها غير راضية عما تراه من قرارات الحكومة، لاسيما في إصلاح النظام التعليمي. وأضافت انها ترى والديها يعملان ليلا ونهارا ليوفروا لها ولشقيقها الأصغر الضروريات في الحياة، ولا توجد هناك أي مساعدة من قبل الدولة. وقال إن كل ما تسمعه أو تشاهده في وسائل الإعلام هو ملفات الفساد والسرقة وعدم الشفافية.

نقمة الشباب على الحكومة كبيرة رغم ان الحكومة تقول ان البطالة ومشاكل الشباب تتصدر أولوياتها، ورئيس الوزراء يؤكد ان الشغل الشاغل لحكومته هو تأمين مستقبل الشباب وتوفير فرص العمل المناسبة لهم ومنحهم الثقة في المستقبل.

ويرى المحللون أن أعمال الشغب التي تشهدها أثينا ما هي إلا لخدمة الأحزاب المعارضة لزيادة تشويه صورة الحزب الحاكم، ويدفع فاتورتها أصحاب المحلات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة وسط أثينا. ومن المستبعد كليا أن تخضع الحكومة للضغوط وتستقيل. وقد يستطيع كارامنليس بفضل خبرته من التعامل مع هذه الاضطرابات وامتصاص النقمة الشعبية ضد الدولة. كما أن وزيرة الخارجية ذكرت أن عملية مقتل الصبي، سهلت خروج الناس إلى الشوارع، وان الأزمة المالية وصعوبة الأوضاع الاقتصادية أدت إلى ردة فعل شبابية تخوفا من المستقبل والشعور بعدم الأمان.

وبانتظار ان تقدم الحكومة حلا يرضي الشباب الناقمين، قام بعض من رفاق أليكس بتغيير اسم الشارع الذي قتل فيه، وأطلق على الشارع اسم الصبي وعمره: «أليكس غريغوربولوس 15 عاما». مئات الرسائل والشموع المضاءة والورود تملأ الشارع الذي سيبقى في ذاكرة الشباب اليونانيين، على انه المكان الذي فجر التمرد الاغريقي فيهم.