وريثة السلالة المنكوبة

كارولين كنيدي قررت دخول عالم السياسة من مقعد في الكونغرس بعد أن وضعت لسنوات طويلة مسافة بينها وبين هذا العالم

TT

نظرياً يفترض ان تجمع كارولين كنيدي، الابنة الوحيدة على قيد الحياة للرئيس الاميركي، الذي اغتيل جون كنيدي وزوجته جاكلين، المجد من أطرافه. لكن كارولين ليس لها من مجد الأب او الام شيء... سوى الاسم. كارولين التي قررت الانخراط في غمار السياسة، وقد تعين خليفة لهيلاري كلينتون في مجلس الشيوخ، لا تتمتع بأناقة والدتها أو جاذبية وكاريزماتية والدها. الا انها ستغرف حتماً من مجد والديها وهي تستعد لتصبح سيناتوراً لمدينة نيويورك.

تريد كارولين ان تخلف السيناتور كلينتون، إذا ما تقرر تثبيتها في منصبها وزيرة للخارجية في إدارة الرئيس المنتخب باراك اوباما. وبدخول ابنة الرئيس الراحل الى الكونغرس، يدخل فرد جديد من سلالة كنيدي عالم السياسة، لترث والدها وعمها روبرت وعمها الاخر ادوارد الوحيد المتبقي بين الاخوة على قيد الحياة، يصارع سرطان المخ. وفي حالة تعيينها، ستمضي كارولين سنتين في مجلس الشيوخ قبل ان تخوض الانتخابات لتجديد مدتها عام 2012، وستكون هي العضو الثالث من عائلة كنيدي المنكوبة في الكونغرس الحالي، الى جانب عمها السيناتور ادوارد الملقب بـ«تيد»، وباتريك جوزيف كنيدي، إبن تيد الذي يمثل ولاية رود ايلاند في الكونغرس (مجلس النواب). وصول كارولين نفسها الى عالم السياسة، يحكي مأساة واحدة من أشهر العائلات الاميركية السياسة في العصر الحديث، التي أعطت السياسة الاميركية أشهر وأقرب الساسة الى قلوب الاميركيين. هي قصة عائلة لاحقتها المآسي واحدة تلو الاخرى، وأولها بدأ في منتصف نهار من أيام نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1963 في احد شوارع دالاس في ولاية تكساس، عندما كان جون كنيدي يركب سيارة ليموزين بيضاء مكشوفة ويحيي الجماهير التي احتشدت على جانبي الطريق. يومها أطلق قاتل ظلت دوافعه مجهولة حتى اليوم، يدعى لي هارفي اوزالد، رصاصات استقرت في رأس وعنق كنيدي، فسقط جسده فوق زوجته جاكلين، وفارق الحياة بعد نصف ساعة. وما زاد مقتل جون كنيدي غموضاً، ان القاتل اوزالد نفسه سيلقى مصرعه قبل مثوله أمام المحكمة على يد قاتل آخر هو جاك روبي. روايات كثيرة انتشرت بعد مقتل كنيدي تتهم المخابرات المركزية (سي آي إيه) بتدبير اغتيال كنيدي. ويقول أصحاب نظرية المؤامرة ان بذلة جون كنيدي كانت في غير محلها العادي على كتفيه، حيث كانت مشدودة الى الاعلى شيئا ما، بين ظهر الرئيس ومقعد السيارة. وان جراح الرصاص لم تكن في المكان المتوقع من جسم كنيدي. مات كنيدي لكن بقيت الاسطورة والألغاز تدور حول رحيله.

لم تكن هذه المأساة الوحيدة التي أصابت آل كنيدي، اذ قتل روبرت كنيدي (عم كارولين) عام 1968 في كاليفورنيا على يد سرحان بشارة سرحان، وهو فلسطيني يحمل الجنسية الاميركية، وكان روبرت من اقوى المرشحين للفوز في الانتخابات الرئاسية في تلك الفترة.

كما قتل أيضا جون، شقيق كارولين، هو وزوجته في حادث تحطم طائرة في عام 1999.

وكارولين نفسها تعرضت الى تمزق عائلي أثر كثيراً على حياتها. وقد شكل زواج والدتها جاكلين عام 1968 من المليونير ورجل الاعمال اليوناني اريستوتل اوناسيس، صدمة لها، ولكل أسرة كنيدي، التي اعتبرت ان «جاكي» ارادت الهروب من أجواء العائلة وحماية ابنائها بعد مقتل روبرت. وكانت جاكلين تقول إنها ترغب في عيش رغيد وحياة دعة توفرها لها أموال زوجها الجديد الذي يكبرها بسنوات عديدة. بعد وفاة اوناسيس بددت الأرملة جاكلين وقتاً طويلاً في نزاعات حول تركة زوجها اوناسيس مع ابنته كرستيانا، الى ان تم التوصل الى تسوية نالت بموجبها مبلغ 26 مليون دولار، الا انه لم يتسن لها أن تتمتع بتلك الملايين، إذ سرعان ما تبين انها مصابة بمرض السرطان وتوفيت في باريس عام 1975.

هكذا عاشت كارولين كنيدي حياة مليئة بالمآسي، من فقدان والدها الى فقدان والدتها وعمها وشقيقيها... لذلك عندما أعلنت نيتها السعي الى مقعد مجلس الشيوخ الذي يفترض ان يصبح شاغراً بعد تثبيت هيلاري في منصبها وزيرة للخارجية، وجد القرار تأييداً من كثيرين، لان أسرة كنيدي ما تزال تحظى بتعاطف الطبقة السياسية الاميركية. ويتوقف قرار تعيين كارولين سيناتوراً، على حاكم نيويورك الديمقراطي ديفيد باترسون، المخول قانوناً تعيين خلف لملء المنصب، إذ ينص القانون على أن حاكم الولاية يعين من سيخلف السيناتور المستقيل. وتحدثت كارولين بالفعل مع الحاكم باترسون وأبدت رغبتها بالحصول على المقعد. وعلى الرغم من ان الرئيس المنتخب باراك اوباما نأى بنفسه عن موضوع ترشيح كارولين لمنصب سيناتور نيويورك، ورفض التدخل بالامور السياسية في ولاية نيويورك، الا انه بالتأكيد يدعم سعي كارولين للحصول على منصب سيناتور، فهي وعمها كانا من أبرز داعميه في الانتخابات التمهيدية. وأوباما كان أرسل رسالة مشفرة لتأييده كارولين، عندما قال: «أصبحت كارولين كنيدي واحدة من أصدقائي الأعزاء، وهي انسانة رائعة واميركية رائعة ايضاً».

وفي الانتخابات التمهيدية عندما كان أوباما لا يزال يتنافس مع هيلاري كلينتون للحصول على تسمية الحزب، كتبت كارولين مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز» بعنوان «رئيس مثل والدي»، وقالت فيه: «لم يحدث أن ألهب مرشح للرئاسة، كما ألهب والدي الناس من قبل، مثل باراك اوباما، ولاول مرة اعتقد انني وجدت الشخص الذي يمكن ان يكون الرئيس الملهم ليس بالنسبة لي فقط، بل كذلك لكل الاجيال الصاعدة من الاميركيين». وكان لاعلان كارولين مساندتها باراك اوباما في توقيت مهم للغاية، إذ جاء ذلك التأييد قبل يوم من يوم «الثلاثاء الكبير»، خلال الانتخابات التمهيدية، وهو اليوم الذي صوتت فيه في فبراير (شباط) الماضي 24 ولاية.

وبعد مقالها في «نيويورك تايمز» شاركت كارولين الى جانب عمها السيناتور تيد، باراك اوباما في تجمع انتخابي في الجامعة الاميركية في واشنطن. ألقت يومها خطاباً حماسياً قالت فيه ان اوباما هو «كنيدي العصر»، وتحدثت بعد ذلك الى التجمع مع مجموعة صغيرة من مراسلي الصحف كان من بينهم مراسل «الشرق الاوسط»، وقالت إنها اتخذت قرار مساندة اوباما لوحدها، ولم يكن بطلب من أحد أفراد أسرتها. وذكرت انها تابعت خطابات اوباما ووجدت انه من خلال تلك الخطابات يجسد طموحات الاميركيين في التغيير، واشارت في ذلك الوقت الى انها ستعمل مع الحملة الانتخابية إذا طلب منها ذلك. وعندما سألتها «الشرق الاوسط» حول ما إذا كانت ستصبح عضواً في إدارة اوباما، إذا قدر له الفوز، قالت: «لم أفكر في جائزة... إطلاقاً... ليست هذه هي طريقتي». وكان اوباما عبر اسلوبه الذكي في إرضاء جميع الشخصيات، التي دعمته، قد بادر في يونيو (حزيران) الماضي، الى اختيار كارولين كنيدي الى جانب جيم جونسون واريك هولدر ضمن لجنة عهد اليها ترشيح اسماء لمنصب نائب رئيس، يختار من بينهم واحداً. ولا يعرف ما إذا كان اوباما قد اختار فعلاً نائبه الحالي جوزيف بايدن من بين الاسماء التي رشحتها تلك اللجنة الثلاثية.

ومن بين المؤيدين المتحمسين لترشيح كارولين عمدة نيويورك، مايكل بلومبيرغ، الذي قال عندما سئل حول رغبة كارولين في ان تصبح عضواً في مجلس الشيوخ: «كارولين لديها خبرات ويمكنها ان تفعل الكثير... عملت كثيراً من اجل المدينة (نيويورك) وانجزت أشياء هائلة». وكانت كارولين، التي تميل كثيراً الى الاعمال الخيرية، قد ساهمت في جمع ملايين الدولارات من القطاع الخاص لمساعدة المدارس العامة في مدينة نيويورك.

الا ان هناك منافسين آخرين، على الحاكم باترسون ان يقرر من سيعين من بينهم من يراه الاجدر من وجهة نظره في أن يصبح ممثلاً للولاية في مجالس الشيوخ، ومن بين هؤلاء المدعي العام في ولاية نيويورك اندرو كيمو، كما ان هناك عدداً من نواب الولاية يطمحون الى شغل المنصب، لكن ليس لهم تاريخ عائلي مثل الذي تجره كارولين خلفها. وقال بلومبيرغ: «كارولين مؤهلة جداً، وبديهي ان الحاكم امامه عدة مرشحين جيدين ولا أرغب في حشر نفسي في موقف لا شك انه صعب جداً». ولم تحدد هيلاري، موقفها من الشخص الذي سيخلفها في مجلس الشيوخ. وهكذا قد تدخل كارولين عالم السياسة بعد أن كانت وضعت، ولسنوات طويلة، مسافة بينها وبين هذا العالم، على الرغم من انها عضو أساسي في مجلس إدارة مكتبة جون كنيدي، التي تتعامل مع الوسط السياسي باستمرار داخل وخارج اميركا. فهي لم تنخرط في العمل السياسي الفعلي الا مع حملة باراك اوباما الانتخابية. وعلى الرغم من عدم درايتها باساليب الحملات الانتخابية، فهي قامت بحملة في ولاية بنسلفانيا (فاز فيها اوباما) لاقناع الناخبين الكاثوليك بالتصويت لصالح المرشح الديمقراطي، مستغلة التعاطف الكبير للاميركيين الكاثوليك مع عائلة كنيدي، الذي كان أول رئيس كاثوليكي يحكم الولايات المتحدة. كما شاركت في الحملة الانتخابية في مدينة لوس انجليس مع نجمة التلفزيون اوبرا وينفري، لاقناع النساء بالتصويت لصالح اوباما.

إلا ان أداء كارولين السياسي، لا يزال غير معروف. وتقول جان هامشير، الصحافية في «هيفنغتون بوست»، في حديث لـ«الشرق الاوسط»، إنه لا يمكن الحكم على قدرات كارولين السياسية لانها لم يحدث ان شغلت بعد موقعاً له علاقة بالسياسة. وتضيف ان كل ما فعلته كارولين انها اخذت الهاتف واجرت مكالمات، عبرت من خلالها عن رغبتها في شغل موقع في أهم مؤسسة على صعيد العالم (الكونغرس) فقط لان عمها تيد كيندي سبق له ان مثل ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ. جان، وكثيرون غيرها، تعتبر ان كارولين تريد الموقع فقط لانها من آل كنيدي، وهذا بالنسبة لها «ليس أمراً نزيهاً». وفي السياق نفسه قالت المحامية باربرا إيتون، التي تدير مكتباً للمحاماة في نيويورك لـ«الشرق الاوسط»، إن «رغبة كارولين في ان تحل محل هيلاري هو تشويه للسياسة الاميركية».

ويدافع تيد سورنسون، وهو مستشار سياسي لأسرة كيندي، عن خيار كارولين الدخول في غمار السياسة، ويقول: «ظلت كارولين حريصة على حياة اسرية خاصة مع اطفالها الثلاثة وزوجها، كما حرصت دائماً على حياتها الشخصية الى ان بدأت عملها مع حملة اوباما واكتشفت عالماً جديداً ووجدت متعة في خوض غمار التجربة».

الواضح ان كارولين جاءت الى الساحة السياسة بعد ان تبين لها ان باقي آل كنيدي ليس لهم رغبة في التزاحم داخل المجرى الخطر. وهي تريد ان ترفع راية هذه العائلة المنكوبة، فاختارت دخول السياسة الاميركية من باب نيويورك التي ولدت فيها ثم انتقلت في سن الثالثة الى واشنطن مع والديها الى البيت الابيض. وبعد مقتل والدها عادت من جديد الى نيويورك الى الشارع الخامس في مدينة لا تغفو. في عام 1975 انتقلت كارولين الى لندن للدراسة، وكادت ان تفقد حياتها هناك بسبب تفجير قامت بها منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي (إيه آر أيه)، أي انها كادت ان تفقد حياتها بسبب «قنبلة كاثوليكية»، لان الجيش السري الايرلندي هو الجيش الوحيد في العالم الذي يقاتل من اجل الكاثوليكية.

بعد حوالي سنة قضتها في لندن، عادت كارولين الى الولايات المتحدة، حيث نالت شهادة جامعية من جامعة هارفارد، ثم شهادة في القانون من مدرسة كولومبيا للقانون في نيويورك. بعد تخرجها عملت فترة مع عمها السيناتور تيد كنيدي، كما عملت فترة مع صحيفة «نيويورك دايلي نيوز». وفي عام 1980، انتقلت الى العمل في متحف الفنون في نيويورك، حيث التقت هناك زوجها أدوين سكولسبيرغ، الذي كان يعمل مصمم معارض، وتزوجته عام 1986، لكنها احتفظت باسمها كارولين كنيدي. واقامت مع زوجها في شارع بارك افينيو، حيث انجبت ابنتين وولداً. عملت بعد ذلك في إدارة التعليم لمدينة نيويورك، حيث استطاعت جمع مبلغ 65 مليون دولار لدعم المدارس العامة (الحكومية). وكارولين البالغة من العمر 51 عاما، سيدة خجولة وشديدة التحفظ. ليست في جمال والدتها التي كانت تتحول الى عاصفة من الجمال حين تتزين. عيناها خضراوان وشعرها أشقر، لكن السنوات لم تعاملها بحنو، فالتجاعيد تملأ وجهها. لا تحب الاضواء. ترغب في ان يتحدث عنها الصحافيون لكنها لا تتحدث معهم الا نادراً. جميع الصحف التي كتبت عن رغبتها في ان تصبح سيناتوراً، ورد في ثنايا تقاريرها تلك العبارة التي لا يجد الصحافيون سواها، عندما تخفق محاولاتهم في الوصول الى المصادر «تعذر الوصول الى كارولين كنيدي». تتقافز في مشيتها، يساعدها على ذلك طول قامتها النسبي. لا تجيد فن الخطابة وليست لها قدرة على إطلاق الافكار اللماعة، كما هي عادة السياسيين الاميركيين. حذرة ومنطوية على نفسها، قليلة الانشراح على الرغم من انها دائمة الابتسامة. لا تثير نوعية مزاجها الاهتمام وتفرض على مخاطبيها جهداً لفك الغاز كلامها. صرامتها المفرطة تضيق هامش التعاطف معها. تتيه أحياناً فخرا بأصولها العائلية. تجهد نفسها لإرضاء الذين يستمعون اليها. في شخصيتها لمسة من الغموض ولمسة من العبوس ولمسة من المرارة. كارولين كنيدي تريد ولوج السياسة من باب الأرث العائلي، في عصر جاء برئيس اميركي مدين لاصوات ناخبين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و30 سنة. أكبرهم ولد بعد 15 عاما من مصرع والدها. كارولين سيدة تأتي من ماض بعيد، لأجيال تتطلع لمستقبل آخر. تتحدر من أسرة نقية العرق، في بلد سيحكمه رئيس يتحدر من مجاهل افريقيا.