البندقية.. مدينة تغرق

تواجه أسوأ فيضان تعرضت له منذ العام 1968 بسبب هطول الأمطار المتواصل

سائح يقف في ساحة سان ماركو في البندقية تغمره المياه حتى وسطه (أ.ف.ب)
TT

تقول أغنية شارل أزنافور الشهيرة منذ الستينات «كم هي حزينة فينيسيا... اختفى منها الحب ولم تعد الدموع كافية فبقي بحار قارب الجندول لوحده ينظر إليك». هذه الكلمات تنطبق على فينيسيا هذه الأيام بعد هطول الأمطار الغزيرة وهبوب العواصف والزوابع وهرب السائحين والمحبين. فينيسيا، أو البندقية كما يسميها العرب، لم تشهد مثل هذه الأحوال الجوية السيئة منذ عشرات السنين، وربما منذ مئة عام. تبدو مؤخرا أشبه بباخرة كبيرة غرق نصفها السفلي. ولم يقتصر الأمر على أجمل مدينة في العالم، كما يصفها الكثيرون، بل عمت العواصف والأمطار والثلوج كافة المناطق في ايطاليا، وخاصة العاصمة الإيطالية روما التي وصل فيها ارتفاع مياه نهر التيبر إلى أعلى مستوى، وهناك من يتوقع انهيار قسم من شبكة الصرف الصحي بسبب ضغط الماء والطين. لكن الاهتمام بالبندقية في العالم بأكمله بلغ الذروة لأنها مدينة فريدة من نوعها، فهي المكان المثالي لقضاء شهر العسل. قنوات الماء هي شوارعها العادية. ويصف الأديب الألماني غوته قناتها الكبرى بأنها «أجمل شارع في العالم». فهي المدينة الوحيدة في الكرة الأرضية التي بُنيت على ما يزيد على 116 جزيرة صغيرة، منذ القرن الخامس الميلادي، حين هاجم البرابرة شبه الجزيرة الايطالية بقيادة اتيلا ملك الهون، ولجأ إليها السكان الهاربون من بطشه. ومنذ تلك الحقبة، شيدت ما يربو على أربعمائة من الجسور التي تصل الجزر ببعضها وفيها سبعة آلاف شارع بما في ذلك شارع الشيطان، الذي حمل اسمه لرداءة الوصول إليه.

ترتفع نسبة المياه في البندقية المطلة على البحر الادرياتيكي وتحميها بحيرة ضحلة لا تنفصل عنها يسمونها «لاغون»، أثناء فصل الخريف أو الربيع، في القسم السفلي للمدينة حيث تقع ساحة سان ماركو التاريخية الجميلة المعروفة بقصر الحاكم والكنيسة البيزنطية والمتاحف والآثار الفنية النفيسة والمقاهي المشهورة التي يقصدها السياح. وتقام فيها احتفالات الكرنفال يوم عيد العشاق بالأقنعة والملابس التنكرية، وتروى قصص المغامر العاشق كازانوفا. البندقية شهيرة كجمهورية تجارية بحرية سيطرت على التجارة في البحر المتوسط ولعبت دورا مهما في الحروب الصليبية وجلبت التوابل والزعفران إلى اوروبا من الشرق لاستعماله في تزيين المآكل وتبخير المسارح والوقاية من الطاعون. ثم قامت بغزو القسطنطينية عام 1204 ونهبتها وتحاربت وتعاملت مع الدولة العثمانية التي أقفلت عليها الطرق التجارية البحرية ولها تاريخ غابر من أيام الرحالة ماركو بولو الى الصين، كما وصلت الى ذروة المجد في القرنين الخامس والسادس عشر ثم بدأ انهيارها التدريجي مع صعود الدولة العثمانية.

مشكلة ارتفاع مستوى الماء تعتبر مشكلة مزمنة، خاصة في منطقة ريالتو التجارية. وقد أطلقت منظمة اليونسكو الدولية حملة واسعة النطاق لانقاذ البندقية من الغرق التدريجي منذ العام 1966، واعتبرتها جزءا من تراث الانسانية. وتواجه المدينة اليوم أسوأ فيضان تعرضت له، خاصة في شوارعها التي لا تخضع للخطوط المستقيمة نظرا لطبيعة الجزر وجغرافيتها. لكن المشكلة الآن هو هطول الأمطار الغزيرة المتواصل منذ أول الشهر الحالي مع فترة «هدنة» لم تتجاوز يوما أو اثنين، مصحوبة بريح عاصفة وارتفاع المد إلى أخطر ما مر في تاريخ المدينة، نتيجة الاحتباس الحراري الذي بدأ يشتد منذ العام الماضي. ووصل مستوى مياه البحر إلى 152 سنتيمترا، وهو أعلى مستوى منذ العام 1968. ودفع هذا الامر بأفراد الحماية المدنية ورجال الاطفاء إلى اطلاق صفارات الانذار وإقامة الجسور الخشبية في ساحة سان ماركو، لتسهيل عبور المارة، بينما اضطر العديد منهم للغوص في المياه بجزمات مطاطية عالية وزعت عليهم. وقامت الفنادق بتقديم وجبات الطعام المجانية للزبائن الذين اضطروا للبقاء داخلها كما لو كانت حالة منع التجول قد اعلنت.

هطلت في نفس الفترة أمطار غزيرة مضرة بالانتاج الزراعي في كافة المدن والأرياف الايطالية ووصلت في روما خلال اسبوعين الى نفس المستوى العام للموسم، أي 400 ميليمتر، وكانت الأمطار تهطل بمعدل عشرة مليمترات يوميا. وأصبح نهر التيبر يهدد روما بالطوفان عند جسر ملفيو الروماني في شمال المدينة القائم منذ ألفين ومئتي عام ومنه أعلن الامبراطور قسطنطين تحوله الى المسيحية بعد انتصاره في المعركة. وفي البندقية، توقفت المواصلات البحرية لبضعة أيام، في حين ازدحمت الشوارع في روما بالسيارات واصيبت المدينة بما يشبه الشلل، واخليت بعض المنازل في الضواحي بالطائرات المروحية. وسقط أحد السائحين الارلنديين في نهر التيبر عندما كان يتأمل مشهد مطعم عائم على ظهر سفينة نهرية ثابتة جرفتها العواصف العاتية الى منتصف النهر، فعلقت تحت جسر حصن سان أنجلو قرب مدينة الفاتيكان. وعانت نابولي أيضا من صعوبة سفر البواخر إلى الجزر السياحية مثل كابري وايسكيا، وغرقت المواشي في مقاطعة كالابريا الجنوبية نتيجة الطوفان المفاجئ، كما سبب انهيار الثلوج في شمال ايطاليا على الحدود الفرنسية الى مقتل عدد من الأشخاص واغلاق الطرق.

في البندقية، يبدأ نظام الانذار المبكر لتحذير الناس من المناطق التي ستتعرض للغمر أو الطوفان في وقت المد والجزر حين يصل منسوب مياه البحر الى 95 سنتيمترا. وعندها تتوقف المواصلات البحرية والمراكب البخارية وقوارب الجندول والتاكسيات المائية، وتقام الجسور الخشبية للمارة. ونظرا لتكرر هذه الظاهرة من فينة إلى اخرى، وافقت حكومة برلسكوني السابقة عام 2003 على مشروع لترويض البحر، عرف باسم "مشروع موسى"، وهو يرمز إلى قصة الكتب المقدسة عن عبور النبي موسى للبحر الأحمر وصراعه مع الأمواج. لكن الاسم العلمي الحقيقي للمشروع الفريد من نوعه، والذي لم يُجرب في أي بقعة في العالم هو ما ترجمته الى العربية «وحدة قياس تجريبية كهروميكانيكية»، ويهدف إلى حل مشكلة قائمة منذ ما يزيد على ألف سنة، عبر حماية مدينة البندقية من الغرق مع كنوزها الفنية والمعمارية من لوحات الرسامين كاناليتو وتيبيلو والابنية البيزنطية والقوطية، وتلك التي تعود الى عصر النهضة والباروك ومؤلفات فيفالدي الموسيقية وغولدوني المسرحية. تصل كلفة المشروع إلى ما يقارب 5 مليارات يورو (6 مليارات دولار)، ومن المفروض أن يستكمل العمل عام 2013 ويشمل اقامة 79 سدا فولاذيا بعلو 30 مترا وعرض 20 مترا لكل سد سيقام فوق بناء ضخم في قاعدة البحر عند جزيرة الليدو، لفصل البحر الادرياتيكي عن البحيرة الضحلة. وتنغلق السدود المقامة تحت البحر تلقائيا إذا زاد مستوى ارتفاع مياه البحر على 110 سنتيمترات، فلا يرى الناس أنها ممتدة على طول كيلومترين، مما قد يؤثر على البيئة، ويأتي بنتائج لا يعرفها أحد. إلا ان هذا المشروع الطموح، لم يرق للقوى السياسية المنقسمة بين اليمين واليسار، وبين أنصار تشجيع السياحة وأنصار حماية البيئة فرئيس مقاطعة فينيتو جان كارلو غالان (وعاصمتها فينيسيا) من مؤيدي حكومة برلسكوني اليمينية والمتحمسين للفكرة، وعمدة البندقية اليساري المعارض ماسيمو كاشاري، لا يتفقان على فائدة المشروع وإمكانية نجاحه. وخرجت مظاهرات معارضة للمشروع وراح المتظاهرون يهتفون «لا لموسى» لأنه سيهدد تدفق الماء الطبيعي من وإلى البحيرة الضحلة، وسيؤثر سلبيا على عالم الطيور والصدف البحري. يدرك الناس أن سبب هبوط ابنية المدينة شيئا فشيئا تحت الماء عبر السنين يعود لضخ المياه الجوفية للمعامل الصناعية والمزارع الحديثة خلال السنوات المائة المنصرمة. الا ان أهم سبب لارتفاع مياه البحر هي الريح الشرقية (سيروكو) التي تهب من شمال أفريقيا عبر البحر المتوسط، وكانت قوية وعاتية هذا العام ربما نتيجة للاحتباس الحراري المتزايد. يقول الممثل الساخر بيبي غريللو الذي يهاجم الساسة المرتشين من كافة الأطياف ويطلب وضع صورهم في الساحات وتحتها عبارة «مطلوب للعدالة» أن «هذا المشروع صمم لفائدة فئة معينة». ويضيف: «يقولون إننا سنغنم 23 سنتيمترا أي ستعود الحال مثلما كانت منذ مئة عام قبل توسيع موانئ البحيرة الضحلة لدخول حاملات النفط والاسمنت... إنه مشروع فرعوني في ضخامته ولسنا مقتنعين بجدواه، ولم تجر أي مناقصة لتلزيم المشروع».

في المقابل يعتقد المؤيدون للمشروع أن حسد المعارضين ينبع من عدم استفادتهم ماديا من المبالغ الضخمة المرصودة. اكثر البرامج الترفيهية شعبية على التلفزيون الايطالي هذه الأيام يدعى «حالة الطقس»، وتقول مقدمة البرنامج لوتشيانا ليتيزيتو: «نتيجة سوء الأحوال الجوية وخسائر الاقتصاد والسياحة والاضرار الكبيرة على الزراعة، أصبح الممثلون الهزليون يتحدثون كالساسة بينما فضّل السياسيون استعمال مفردات المهرجين لذا لاحظنا أن حديث السياسي اليميني في التلفزيون يفيد اليسار ويزيد عدد الناخبين الذين يصوتون لهم وبالعكس».

نشر منذ ثلاث سنوات كتاب طريف للكاتب التركي الساخر اسكين اوزكان المقيم في ستوكهولم بعنوان «فينيسيا الثانية»، ( تيمنا بميلانو الثانية التي بناها برلسكوني في مطلع حياته المهنية)، وهو من نوع السخرية الهادفة الخيالية. ويتصور فيه أن الحكومة الايطالية ستحدد عدد السياح المسموح لهم بزيارة البندقية مثل الحجاج كي لا يفسد الجو والبيئة ولا يسود الازدحام أيام الكرنفال ومعارض البينالي الفنية ومهرجانات السينما والموسيقى والمسرح، ويتعرض الزوار إلى الصعوبات والطوفان وستبنى مدينة جديدة أكبر من البندقية المعروفة بالفن والذوق الرفيع والعراقة بقنوات مائية حديثة اكبر حجما مستخدمة نموذج فندق فينيسيا بمدينة لاس فيغاس الاميركية ومشاريع بحيرة تونس السكنية. لكنه يضيف: «المشكلة أن كل شيء في المدينة الثانية سيكون مزيفا!».