صناعة على حافة الهاوية

قطاع السيارات في الولايات المتحدة يصارع للبقاء.. وحلم فورد برأسمالية كريمة تهدده العولمة

رسم كاريكاتوري يظهر كفين يمثلان الحكومة الاميركية يمسكان بالدولارات وتحتهما صف من السيارات تنتظر الحصول على الاموال (كي آر تي)
TT

في الوقت الذي تنتظر فيه شركات السيارات في الولايات المتحدة، دعم الحكومة لها واقرار خطة تنقذها من الافلاس، بدأت البوادر الأسوأ بالظهور. بالأمس أعلنت شركة كرايسلر انها ستغلق كل مصانعها الثلاثين في الولايات المتحدة شهرا كاملا، مع عطلتي الميلاد ورأس السنة، وستفصل خمسين الف عامل. وفي نفس اليوم، اعلنت شركة فورد انها ستغلق مصانعها، ما عدا اثنين، أسبوعين كاملين بعد اجازة الميلاد. وأيضا اعلنت شركة جنرال موترز انها ستغلق مؤقتا عشرين مصنعا، من دون أن تحدد متى ستنفذ القرار. في بداية الشهر، قال رؤساء شركات فورد وجنرال موتورز وكرايسلر، خلال استجواب الكونغرس لهم، لأنهم طلبوا ثلاثين مليار دولار دعما من الحكومة، «نحن لا نريد اكثر مما يريد غيرنا». كان هذا كلاما مهذبا معناه: لماذا رصد الكونغرس سبعمائة مليار دولار لإنقاذ البنوك والشركات الاستثمارية، وبخل على شركات السيارات بثلاثين مليار دولار؟

شركة «اي.آي.جي»، اكبر شركة تأمين في العالم، طمعت وامنت على كل كبيرة وصغيرة في العالم، وعندما فشلت، اعطاها الكونغرس مائة وخمسين مليار دولار. ومصرف «سيتي»، اكبر مصرف في العالم، غامر بطريقة لا تغامر بها أية شركة لصناعة السيارات، وعندما خسر، اعطاه الكونغرس عشرين مليار دولار.

قال أصحاب شركات السيارات ذلك للكونغرس، وامامهم احصائيات شهر اكتوبر (تشرين الاول) بأن مبيعات السيارت انخفضت بنسبة ثلاثين في المائة. وقالوا انه اذا لم تساعدهم الحكومة سيفقد الاقتصاد الاميركي ثلاثة ملايين وظيفة، وسيفقد تجارة تزيد قيمتها عن ثلاثمائة مليار دولار. قال رؤساء الشركات الثلاث انهم سيفعلون اي شيء حتى لا تعلن الشركات الافلاس. رئيس «جنرال موتورز»، قال انه مستعد لأن يكون راتبه دولارا واحدا فقط في السنة. ورئيس «فورد» قال انه سيبيع طائرة الشركة الخاصة التي يتنقل بها. ورئيس «كرايسلر» قال انه سيخفض رواتب كبار المسؤولين العشرة في الشركة.

ماذا يحدث لأكبر صناعة في التاريخ؟ لشركة فورد، اول شركة سيارات في العالم؟ لمدينة ديترويت، عاصمة صناعة السيارات؟ لولاية ميتشيغان التي وصفتها مجلة «تايم» بأنها «الولاية الصناعية الكريمة»؟ لأكبر مصنع سيارات؟ لأقوى نقابة عمال؟ لقلب الحلم الاميركي؟

في سنة 1920، قال مدير شركة جنرال موتورز «كل ما يفيد جنرال موتورز يفيد اميركا». وفي سنة 1914 قال مدير شركة فورد «اصنع سياراتي ليس للربح، ولكن لخدمة الناس»، من هنا جاء وصف «الولاية الصناعية الكريمة». في الحقيقة، في تلك السنة اثار فورد غضب عمالقة الرأسمالية عندما اعطى كل عامل خمسة دولارات راتبا عن كل يوم. غضبوا لسببين: اولا، لأن المبلغ كبير. وثانيا، لان الرأسمالية يجب ألا تتعهد بأجر معين للعمال. ولسنوات، بدأت حرب بين «كابيتالزم» (الرأسمالية) و«فورديزم» (الفوردية) وكأنها ليست جزءا من الرأسمالية، رغم انها كانت رأسمالية «كريمة». لكن فورد كان طيبا وذكيا في الوقت نفسه. وذلك لأنه اقتنع بواحد من اعمدة الحكمة الرأسمالية، وهو ان زيادة الانتاج تخفض تكاليفه. لهذا، اسس مصانع عملاقة تنتج السيارات ليلا ونهارا، واعطى كل عامل خمسة دولارات لكل ساعة، وكلما زاد انتاجهم، زاد ربحه. لكن، خلال عشرين سنة، ومع فترة الرخاء التي جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، برهن العمال على انهم ليسوا اقل ذكاء من الرأسماليين. وأسسوا أول نقابة عمال قوية في شركة فورد. ومنذ ذلك الوقت، صارت العلاقة بين النقابة والإدارة هي التي تحدد ليس فقط صناعة السيارات الاميركية، ولكن ايضا، الاقتصاد الاميركي.

بعد الرخاء الذي جاء في أعقاب الحرب العالمية الاولى (بعد سنة 1919)، جاء الشقاء خلال الانهيار الاقتصادي (سنة 1929). ثم رخاء مع الحرب العالمية الثانية عندما صارت مصانع السيارات تنتج دبابات ومصفحات، وبدأت مشروعا انتاج «سيارة لكل عائلة اميركية». لكن في السبعينات، اهتزت صناعة السيارات بسبب ارتفاع سعر النفط، ثم قطع النفط العربي مع حرب سنة 1973. ثم عاد الرخاء مع «ريغانوميكز»، وهي فلسفة الرئيس رونالد ريغان الاقتصادية بتخفيض القوانين الحكومية على الشركات الرأسمالية لتعمل في حرية. واليوم، وبعد جيل كامل من ريغان، وفي عهد رئيس جمهوري آخر، جورج بوش الابن، تأكد ان الرأسمالية بالغت في الطمع والظلم، واهتز كل الاقتصاد الاميركي بصورة لم تحدث منذ انهيار سنة 1929. واهتزت شركات السيارات، وها هي تواجه الافلاس.

خلال سنوات الرخاء، استفاد الجانبان: شركات السيارات ونقابات العمال. وصار اتحاد عمال السيارات اكبر واغنى نقابة في العالم. وصار راتب رئيس النقابة، من تبرعات العمال، ومن جزء من ارباح الشركة، يكاد ينافس راتب كبار مديري الشركة. عن ذلك الوقت، كتب جون بلانت، مدير شركة «تي آر دبليو» في كتاب مذكراته: «نحن نشاهد الآن اعظم تجربة اقتصادية واجتماعية مشتركة لأول مرة في تاريخ الانتاج». واشار الى انتصار الرأسمالية على الشيوعية، وكان يقصد أن نقابة عمال السيارات صارت أكبر وأغنى وأضمن وأقوى من أي نقابة عمال في روسيا، وفي كل المعسكر الشيوعي.

وكرر هذا ريتشارد نيكسون، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس في الخمسينات، عندما سافر الى موسكو لافتتاح اول معرض صناعي هناك. وكان واضحا أن الأميركيين يريدون ان يبرهنوا للروس أن الرأسمالية افضل من الشيوعية. في ذلك الوقت، كان نيكيتا خروتشوف هو أمين عام الحزب الشيوعي الروسي، وتبادل مع نيكسون ما عرف بـ«نقاش المطبخ»، لأن نيكسون اطلع خروتشوف على التقدم الصناعي الاميركي بزيارة قسم في المعرض عن ادوات المطبخ الحديثة، مثل ثلاجات وافران. ثم تبادلا «نقاش السيارات» عندما ذهبا الى قسم السيارات في المعرض.

ورغم ان خروتشوف قال للاميركيين، في وقت لاحق: «سندفنكم احياء» (اي سوف تنتصر الشيوعية على الرأسمالية)، اكد نيكسون في موسكو على ان الشيوعية هي التي ستنهزم.

في الاسبوع الماضي، قال جيفري ساخس، خبير الاقتصاد الاميركي، خلال برنامج تلفزيوني «نتحدث كثيرا عن طمع الرأسماليين. ماذا عن طمع النقابيين؟»، وقال ان كارثة صناعة السيارات سببها الجانبان. في جانب، بالغت الشركات في صناعة موديلات سيارات تكلف اكثر، وتستهلك وقودا اكثر، وتتنوع اكثر. وفي هذا قال رون هاربر خبير سيارات في ديترويت «تنوعت شركة جنرال موترز حتى صارت تنتج اكثر من عشرة انواع من السيارات، وهي لا تسيطر الا على ربع سوق السيارات. وقال ان فلسفة فورد، المؤسس، كانت زيادة الانتاج لتخيض السعر، لكن صارت الفلسفة الحديثة هي زيادة الكماليات لزيادة السعر، اي ان اغراء الزبون صار اهم من اقناعه. ولم يعد الهدف هو «سيارة لكل عائلة اميركية»، ولكن سيارة للأب وسيارة للام وسيارة لكل ولد وبنت.

قبل تركيز «وول ستريت» على القروض، وبيعها وشرائها، بدأت شركات السيارات تغري الناس بأن يقترضوا ليشتروا. ومن حكم التاريخ أن وصول «وول ستريت» الى حافة الافلاس، قبل شهور قليلة، قلل القروض والديون، واثر هذا بدوره، على شركات صناعة السيارات التي كانت بدات هذه الفلسفة قبل أكثر من خمسين سنة.

وقال ساخس إنه في جانب الثاني، هناك النقابات التي اتهمها أيضا بالطمع. جربت النقابات كل انواع الاضرابات: كامل وبطيء ومرض وفجائي وفرعي (اضراب نقابات فرعية ليست جزءا من الشركات الرئيسية، لكنها تمدها بقطع السيارات). وخلال سنوات الرخاء، استجابت الشركات لمطالب النقابات، وتأكد ان نقابة عمال السيارات في ولاية ميتشيغان هي أقوى وأغني نقابة عمال في العالم. لكن في «الولاية الصناعية الكريمة» وحدها، وخلال الخمس عشرة سنة الماضية، صرفت شركة جنرال موترز اكثر من مليار دولار على العمال الذين تقاعدوا، لأن نقابات العمال لم تضمن فقط اجورا عالية للعاملين، ولكن ايضا معاشات عالية للمتقاعدين. وصار العامل السعيد هو الذي يتقاعد من العمل في شركة لصناعة السيارات.

قبل أيام نشرت صحيفة «واشنطن بوست» احصائية قالت انه قبل ثلاثين سنة، كانت سن التقاعد اعلى، ومتوسط سن الوفاة اقل. كان العامل يتقاعد وهو اكبر، ويموت بعد ذلك بسنوات قليلة. لكن الآن، صارت سن التقاعد اقل ومتوسط سن الوفاة اعلى. لم يسبب شيء كارثة صناعة السيارت، مثلما سبب العمال المتقاعدون. وفي الاسبوع الماضي، رفضت نقابة عمال السيارات طلبا من الكونغرس بتغيير ظروف العمل والتقاعد. وقال رئيسها خلال جلسة صاخبة في الكونغرس، وهو يخاطب عضو كونغرس تحدث عن «طمع العمال»: «يا سيدي، العمال ليسوا الطماعين الوحيدين في الولايات المتحدة. هل هناك اطمع من المستثمرين في وول ستريت في الولايات المتحدة وفي كل العالم». وعندما كرر عضو الكونغرس سؤاله، رد عليه: «يدفع لكم مليارديرات ومليونيرات وول ستريت تكاليف حملاتكم الانتخابية، ولهذا انتم تنحازون لهم. رواتب ومعاشات عمال السيارات تخجل من رواتب ومعاشات مديري وول ستريت».

ولكن هناك أسباب أخرى، أوصلت صناعة السيارات الى حافة الهاوية، غير طمع الرأسماليين وطمع النقابيين، وهو اعتماد السيارة على مصدر النفط، وهو مصدر طاقة محدود، ويتأثر بظروف جغرافية وتاريخية. ثم، خلال الثلاثين سنة الماضية، ظهرت مشكلة لم يتوقعها هنري فورد، وهي تلوث البيئة بثاني اكسيد الكربون. وعن ذلك، قال رالف شتاين، مؤلف كتاب «تاريخ السيارة»، ان السيارة هي اكبر ملوث للبيئة، وأن نصف الاميركيين لا يتنفسون هواء نقيا بسبب ذلك، بالاضافة الى تأثير ثاني اكسيد الكربون على طبقة الاوزون. واشار الى مشاكل اخرى، ايضا لم يتوقعها فورد المؤسس: تقتل السيارات اكثر من مليون شخص في العالم كل سنة، تسبب في زيادة الوزن خاصة في الدول الصناعية، وتزيد من انفرادية الناس. واضاف: «هل كان هنري فورد يعرف ان سيارته ستربح اطباء علم النفس؟» وهذه اشارة الى ان فورد المؤسس كان متدينا، وانتقد علماء النفس.

لماذا تواجه «فورد» و«جنرال موتورز» و«كرايسلر»، الافلاس، بينما هوندا وتويوتا نائيتان عن هذه المشاكل؟ خلال هذه الأزمة، اربعة مصانع لهاتين الشركتين اليابانيتين في ولايات انديانا ومسيسيبي وتنيسي، لم تتأثرا، وذلك سببه أولا أنه لا توجد نقابات عمال في الشركات اليابانية، فهي ممنوعة.

وقد وافقت المحكمة العليا على انها لا تقدر على اجبار شركة على السماح للعمال بأن يؤسسوا نقابة. وثانيا، لأن العامل في المصانع الاميركية ينال سبعين دولارا في الساعة، وفي المصانع اليابانية اربعين دولار. وينعكس هذا الفرق في توفير الفي دولار في قيمة كل سيارة، او في توفير الفي دولار لصالح المصانع اليابانية.

ومن حكم التاريخ ان المصانع الاميركية، منذ اكثر من عشرين سنة، ظلت تعمل لتنافس المصانع اليابانية، ونجحت في اكثر من مجال: سيارات اكثر كفاءة، واقل سعرا، واقل استهلاكا للبنزين (مثل: سي.تي.اس، آخر موديل في سيارات «كاديلاك» و150، آخر موديل في سيارات فورد).

وصارت مثل هذه الانواع الاميركية الجديدة تنافس، واحيانا تتفوق على سيارات هوندا وتويوتا. لكن الآن وبعد الاقتراب من حافة الافلاس، يبدو ان اليابانيين انتصروا مرة اخرى. ماذا عن المستقبل؟ كان العكس يحدث دائما في واشنطن، وهو ان يؤيد قادة الحزب الجمهوري الشركات الكبيرة، ويسارعون لمساعدتها، ويعارض قادة الحزب الديمقراطي ذلك. الآن، يتردد الرئيس جورج بوش في مساعدة شركات السيارات، ويضغط عليه الديمقراطيون ليفعل ذلك. وفي الاسبوع الماضي، وافق بوش مضطرا على انقاذ شركات السيارات، وتقديم سبعة عشر مليارا بدلا عن الثلاثين مليار التي كانوا طلبوها. ويريد الرئيس المنتخب اوباما ان يسير على طريق المساعدة، لكن سيعتمد كل شيء، ليس على جودة السيارت الاميركية بالمقارنة مع اليابانية، ولكن على توفير القروض في البنوك والمؤسسات الاستثمارية.

ويبدو في الجانب الآخر ان نقابة عمال السيارات مستعدة لتقديم تنازلات. ويتوقع ان توافق على تخفيض سبعين دولار للساعة الى خمسين دولار. وسيظل هذا اكثر من الاربعين دولارا في المصانع اليابانية، لكنه لابد ان يخفض تكاليف الانتاج.

طمعت النقابات الاميركية او لم تطمع، صار واضحا انها لم تعد قوية كما كانت. وصار واضحا أن المنافسات الأجنبية قللت من المزايا التي كان يتمتع بها العامل الاميركي. ويبدو أن حلم فورد المؤسس برأسمالية كريمة لن يقدر على مواجهة العولمة، ولا على مواجهة الطمع، طمع النقابات وطمع الشركات.