إسرائيل.. ورؤيتها لحرب غزة

حماس اعتمدت على حسابات وهمية وكانت مقتنعة بأن الهجوم لن يبدأ قبل الأحد على اعتبار أن اليهود لا يقومون بأعمال أيام السبت

صبي فلسطيني ينظر إلى دفن ثلاثة أطفال قتلوا في الغارات الإسرائيلية في رفح بقطاع غزة (رويترز)
TT

تعيش القيادة الاسرائيلية العسكرية والأمنية وغالبية القيادة السياسية هذه الأيام، شعورا بنشوة النصر على «حماس». وبدافع من هذا الشعور، ترفض وقف اطلاق النار والتفاوض على تهدئة جديدة، بل ترفض حتى المبادرة الفرنسية لوقف النار 48 ساعة. وهناك من ينادي في الحكومة الى توجيه ضربة قاضية لحركة «حماس» تؤدي الى سقوط حكمها في قطاع غزة. هل تملك القيادة الاسرائيلية أسسا ترتكز عليها وتجعلها واثقة من أن فوزها هذه المرة سيكون مختلفا عن المرات السابقة؟ إذا كانت هناك قيادات اسرائيلية تنسى ما دار في حرب لبنان الأخيرة (صيف سنة 2006) مع حزب الله، فإن رئيس الوزراء ايهود أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي لفني، لم ينسيا، وكذلك رئيس أركان الجيش جابي اشكنازي، ورئيس المخابرات العامة يوفال ديسكين، فأربعتهم عايشوا تلك الحرب عن قرب، ويعملون بحذر شديد، وتخيم فوق رؤوسهم توصيات لجنة فينوغراد التي شكلت للتحقيق في اخفاقات حرب تموز 2006، وخطر تشكيل لجنة تحقيق أخرى قد تقوم للتحقيق في اخفاقات هذه الحرب. وهم لا يريدون بأي حال أن يدفعوا مرة أخرى الثمن الذي كان قد دفعه رئيس الأركان السابق، دان حالوتس، الذي أوصت اللجنة بأن يترك وظيفته، ووزير الدفاع عمير بيرتس، الذي استقال بسبب الانتقادات اللاذعة ضده في تقرير اللجنة. وأولمرت بالذات كان قد دفع الثمن قاسيا، حيث انه يترك كرسي الحكم بعد شهرين، ومع ذلك، فان ما يحصل اليوم في غزة، يبدو مختلفا بالنسبة اليهم. فقد عرض رئيس المخابرات الاسرائيلية ديكسين على جلسة المجلس الوزاري الأمني المصغر الذي التأم أول من أمس الأربعاء وقرر الاستمرار في العدوان، تقريرا مفصلا عن حالة «حماس» وقادتها. وفي هذا التقرير قال أمورا مذهلة، إذا كانت صحيحة. قال ان قادة «حماس» يعيشون في حالة هلع وذهول منذ تلقي الضربات الأولى في غارات يوم السبت، وانهم أظهروا ضعفا وهزالا غير مسبوقين في تاريخ هذه الحركة. وأضاف انه في الوقت الذي كانت فيه اسرائيل تستعد لهذه الحرب بكل دقة ومثابرة كانت حسابات «حماس» وهمية وساذجة. وأدارت المعركة بشعور ان اسرائيل هي الطرف الضعيف في المعادلة وانها ستخشى من اجتياح غزة وستكتفي بتوجيه ضربات من الجو، وان هذه الضربات لن تكون دقيقة وستثير الرأي العام العالمي والعربي ضدها وتضطر الى التوقف.

وأضاف ديسكين ان اسرائيل نجحت في إحداث المفاجأة بالهجوم بشكل كامل. وروى كيف تمت المفاجأة، حيث ان اسرائيل أعلنت انها ستعقد جلسة للحكومة في يوم الأحد لاقرار خطة الهجوم، وفتحت المعابر في يوم الجمعة لادخال المواد الغذائية والأدوية. فاقتنع قادة «حماس» العسكريون بأنها لن تبدأ الهجوم قبل يوم الأحد. وكان في هذا شيء من المنطق، حيث ان اليهود لا يقومون بأعمال في أيام السبت لأسباب دينية. ولم يكن قادة «حماس» العسكريون مطمئنين وحسب، بل تصرفوا كما لو انهم في حالة سلام. فالشرطة أقامت حفل انهاء دورة ووزعت الشهادات وأقامت استعراضا عسكريا علنيا في ساحة مكشوفة بمشاركة مئات العناصر، فقصفته الطائرات الاسرائيلية وقتلت 40 عنصرا في ضربة واحدة. وعقدوا اجتماعا علنيا لقادة الأجهزة الأمنية بحضور عشرات الضباط، الذين يرافق كلا منهم أربعة أو خمسة عناصر أمنية، فقصفتهم الطائرات الإسرائيلية وقتلت منهم 50 عنصرا بينهم ثلاثة من كبار القادة الأمنيين، وهذا فضلا عن السجن الذي ضم عشرات المعتقلين السياسيين من «فتح» والذي وقع فيه أيضا عشرات القتلى. وفي اليوم التالي، قصفت الطائرات الإسرائيلية 40 نفقا على الحدود المصرية الفلسطينية الشمالية، بعضها انفجرت بداخله مواد تفجير مهربة (ولكنها كانت خالية من البشر، وهناك من يقول في اسرائيل ان سبب اختفاء البشر من الأنفاق هو ان اسرائيل أبلغت مصر فسارع الضباط المصريون الى ابلاغ الفلسطينيين بذلك فانسحبوا في الوقت المناسب). وفي اليوم الثالث، قصفت الطائرات الاسرائيلية شحنة من صواريخ «غراد» متوسطة المدى، التي تعتبر نوعية وتوجد منها كمية قليلة لدى «حماس» لا تزيد عن عشرات، حسب التقديرات الاسرائيلية. وزعم رئيس المخابرات الاسرائيلية ان قادة «حماس» الأساسيين اختبأوا جميعا تحت الأرض وانقطعوا عن الجمهور الفلسطيني في غزة، لأنهم يشعرون بأنهم مستهدفون ويخافون على حياتهم. وأضاف ان بعضهم يتواجد في مواقع يعرفون ان اسرائيل لن تقصفها مثل المساجد (في الحقيقة ان اسرائيل قصفت 7 مساجد خلال العمليات العدوانية الأخيرة)، وفي بيوت سكنية تابعة لأناس لا يقربون لهم (يلمح عمليا بأن بيوت أقرباء هؤلاء القادة مهددة بالقصف)، وفي المستشفيات (حسب قوله فإنهم يرتدون ملابس الأطباء). وتحول الموضوع الى نكتة يتندرون فيها عندما قال ديسكين ان بعض قادة «حماس» يختبئون في مستشفى الولادات النسائية. وقال ديسكين ان الضربة التي وجهها الجيش هي أقسى ضربة تتلقاها حركة «حماس» في تاريخها، وان قادتها لم يصحوا بعد من ذهولهم. وقال مسؤول عسكري آخر ان مشكلة قادة «حماس» ان أحدا لا يحاسبهم على اهمالهم وأخطائهم ولا أحد يجرؤ على انتقادهم، «فلو كانوا يقودون دولة سليمة لكانت تمت محاكمتهم بتهمة القتل الجماعي جراء الاهمال». وقال رئيس أركان الجيش، جابي اشكنازي، ان الغارات الاسرائيلية طالت 450 هدفا تابعا لحركة «حماس»، بضمنها تم القضاء على مختبرات تطوير الأسلحة وتعليم الكوادر على اعداد المتفجرات والعبوات الناسفة وعشرات المشاغل التي تنتج الصواريخ. وحسب رون بن يشاي، الخبير العسكري الذي التقى عددا من قادة الجيش الاسرائيلي خلال القتال، فإن الضربة التي تلقتها «حماس» أكبر بكثير مما نتصور. وفي رد على السؤال كيف يفسر اذا استمرت «حماس» في اطلاق الصواريخ باتجاه البلدات الاسرائيلية بل قامت بتوسيع نطاق ومدى صواريخها، فأجاب: «لم يقل أحد ان «حماس» انهارت تماما. ما نقوله هو انها تلقت ضربة ضخمة وانها فاجأتنا بضعفها. ولكن ما زالت لديها قوة كبيرة تستطيع استخدامها واسرائيل تحاول عرقلة هذا الاستخدام وشل تلك القدرات». وأضاف بن يشاي ان الطريقة التي تعمل فيها «حماس» بسيطة للغاية عند المبتدئين في عالم المتفجرات، فهي تمتلك أدوات صنع صواريخ بدائية وتمتلك بعض الصواريخ النوعية. ولدى مقاتلي «حماس» توجد معرفة أولية عن سبل توجيه الصواريخ ونحن ـ أي الاسرائيليين ـ نساعدها. وعندما سئل كيف؟ أجاب: أولا بإمكان كل انسان اليوم أن يدخل الى موقع «غوغل» في الانترنت ويشاهد صور كل مدن وقرى العالم بما في ذلك البلدات الاسرائيلية. وما يحتاجونه هو اجراء حسابات دقيقة لتوجيه الصواريخ نحو الهدف، وعادة يخطئون الهدف. فكما تعرف 75 في المائة من الصواريخ تسقط في مناطق مفتوحة في اسرائيل و10 في المائة تسقط في أراضي قطاع غزة نفسها وتصيب الفلسطينيين ولا أحد يعلن عن ذلك. ما تبقى يسقط في المدن والبلدات. فعندما يطلقون صاروخا باتجاه أسدود يقع في منطقة يفنة. ونحن نتبرع ونعلن ان الصاروخ سقط في يفنة، فينظر مقاتلو «حماس» في الخريطة ويفتشون عن يفنة ويعدلون الحسابات والمعادلات، فيسقط الصاروخ التالي في أسدود. وعندما يطلقون صاروخا باتجاه بئر السبع يسقط في بيادر راهط (وهي مدينة عربية لفلسطينيي 48 تقع في الشمال الغربي من بئر السبع). وعندما نعلن نحن عن موقع سقوط الصاروخ، تقوم «حماس» بتعديل المعادلات، فيسقط الصاروخ الثاني على ساحة روضة أطفال في بئر السبع نفسها. فليست هناك بطولة خارقة. في ظل هذا التقويم للوضع يصيح ايهود أولمرت: هل نوقف اطلاق النار ونحن نحرز كل هذه الانجازات؟ ولا يخشى أولمرت من لجنة تحقيق أخرى فحسب، بل يشعر ان هذه هي فرصته للظهور أمام الاسرائيليين بشخصية رئيس الوزراء المسؤول الذي تعلم من أخطاء حرب لبنان ويجد فرصة في الحرب مع «حماس» لتحسين صورته. لا بل ان الاستمرار في الحرب حتى نهاية هذا الشهر مثلا، من شأنه أن يؤدي الى تأجيل الانتخابات العامة المقررة ليوم 10 فبراير (شباط) القادم واطالة عمره السياسي. وانتهاء هذه الحرب بنجاح، قد يؤدي الى تغيير وضعه في المجتمع الاسرائيلي الذي يريد التخلص منه حاليا. لذلك، وبعد التشاور مع قادة الجيش، يقول صراحة: «نحن لم نخرج الى هذه الحرب لكي نعود الى الهدنة بالشروط نفسها» ويعلن اصراره على «الاستمرار في العمليات الحربية حتى تحقق أهدافها». ولكن، هل يعرف أحد أهداف هذه الحرب أصلا؟ ففي البداية كان الحديث عن «ضربة قاسية تجعل حماس تعيد حساباتها وتقرر العودة الى التهدئة بنفس الشروط السابقة»، أي من دون التعديل الذي تطالب به بكسر الحصار عن القطاع. ولكن سهولة الاصابات في مرافق «حماس» وكثرة الاصابات بين صفوف الغزيين (المخابرات الاسرائيلية تقول انه من مجموع 360 ضحية فلسطينية سقطت في هذا العدوان حتى الآن يوجد 40 مدنيا بشكل مؤكد و220 عنصرا منظما في «حماس» بشكل مؤكد والباقون لم يعرف بعد إن كانوا من المسلحين أو من المدنيين)، فتحت الشهية أمام المزيد من الضربات من أجل المزيد من التنازلات من طرف «حماس». فقد طرحوا شروطا اضافية للتهدئة، مثل: الربط بينها وبين ضرورة اطلاق سراح الجندي الأسير، جلعاد شليط، مقابل 450 أسيرا فلسطينيا قررت اسرائيل من هم (بعد أن قدمت «حماس» لائحة بأسمائهم ووافقت اسرائيل على نصف اللائحة ورفضت النصف الآخر). ويلقى هذا المطلب رواجا في المجتمع الاسرائيلي خصوصا من اللجنة الشعبية لاطلاق سراح شليط، التي توجهت رسميا الى أولمرت، تطالبه بألا يوقف الحرب قبل أن توافق «حماس» على اطلاق شليط.

وتريد اسرائيل ان يقام حزاما أمنيا حول قطاع غزة يحظر على أي فلسطيني الدخول اليه لمسافة نصف كيلومتر داخل الحدود الفلسطينية وكل من يدخله يصبح دمه مهدورا. وتريد أيضا ان تغير من شروط الاتفاق حول معبر رفح الدولي، الذي من المفترض أن تديره السلطة الفلسطينية بالتعاون مع مصر تحت اشراف المراقبين الأوروبيين بمراقبة اسرائيلية من بعيد، لكن اسرائيل تطلب أن تكون شريكة في ادارته. وقد حشدت قواتها البرية بالقرب من الشريط الحدودي الفلسطيني المصري لكي تكون أولى اجتياحاتها البرية الى الشريط الحدودي المعروف باسم فيلادلفيا، فتحتله وتسيطر على معبر رفح من خلاله فلا تبقي مكانا لا لميليشيات «حماس» ولا لأجهزة الأمن الفلسطينية عليه. والقرار الصادر عن المجلس الوزاري الأمني المصغر ينص على ان تواصل اسرائيل الضغط بالعمليات العسكرية المقررة سلفا حتى ترضخ «حماس»، وهذه العمليات لن تقتصر على القصف الجوي والبحري الجاري حاليا بالطبع، انما تهدد اسرائيل بالاجتياح البري. وقامت بتجنيد 10 آلاف جندي في قوات الاحتياط خصيصا لهذه الغاية وهم يرابطون حاليا حول الحدود ينتظرون الأوامر بالهجوم، ينامون في الدبابات والمدرعات والأوامر المعطاة لهم: لا تخلعوا أحذيتكم، فالأوامر قد تصل في أية لحظة. وقد اتخذ هذا القرار بالاجماع، باستثناء وزير الدفاع، ايهود باراك، الذي يرى ضرورة في تجاوب اسرائيل مع المبادرة الفرنسية القائلة بوجوب وقف اطلاق النار 48 ساعة بهدف اعطاء الفرصة أمام «حماس» حتى توافق على التعودة الى التهدئة وتخرج من هذه الحرب بكرامة. ويقول باراك انه واثق من ان «حماس» لن تستطيع قبول هذه المبادرة وستواصل اطلاق الصواريخ. فإن فعلت ووقفت، تكون اسرائيل قد عادت الى التهدئة من مركز قوة وإن لم تفعل، فستواصل اسرائيل العمليات وسط تأييد أو على الأقل تفهم من العالم.

لكن رأي باراك رفض، خصوصا من الجيش والمخابرات، اللذين يعتبران الفرصة سانحة للمزيد من الضربات الموجعة التي قد تحقق لاسرائيل أهدافا أكبر من التهدئة. والسؤال هو: هل هذه الرؤيا الاسرائيلية هي رؤيا تبجحية قد تؤدي الى اقامة لجنة تحقيق تفحص سبب الاخفاقات القادمة، أم انها ستفلح هذه المرة في تقويم وضع «حماس» وتحقق الأهداف الاستراتيجية؟