مدارس مصر.. حلبات مصارعة

العنف في المدارس بين المدرسين والطلاب وبين الطلاب أنفسهم منتشر بشكل كبير والفقر السبب الأول

فتيات من إحدى مدارس القاهرة يمررن بجانب صف من رجال الأمن المركزي استعدادا لأي أعمال شغب ترافق عادة مظاهرات احتجاجية («الشرق الأوسط»)
TT

قبل لحظات من نطق الحكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات، كان مدرس الرياضيات هيثم نبيل عبد الحميد، البالغ من العمر 23 عاما، يصرخ بأعلى صوته وهو يبكي قائلا: «لم يكن قصدي أن اقتله... كنت أريد تأديبه». وفي الوقت الذي كان هو يصرخ، كانت أم التلميذ الذي قتل على يده، ترتمي على القفص حيث يقف تحاول الإمساك به عبر القضبان... كان المحامي يتلو لتقرير الطب الشرعي الذي أكد أن وفاة ابنها حدثت بسبب ركلة المُعلم. فالركلة اصابته بنوبة قلبية ونقص في التغذية الشريانية بالمخ أدت الى اصابته بغيبوبة. كما أدت الركلة إلى كسر في الضلوع من الثاني إلى الخامس، مصحوبة بانسكابات دموية وكدمات بالعضلات حولها.

مقتل التلميذ إسلام عمر بدر البالغ من العمر 11 عاما، في مدرسة عمر بن الخطاب في الإسكندرية، لم يكن الا الفتيل الذي أشعل قضية العنف ضد الطلاب في مدارس مصر. فخلال شهر واحد، امتلأت الصحف بأخبار تعكس أصنافا متنوعة للعنف داخل المدارس، سواء عنف موجه من المعلمين للطلاب أو بين الطلاب بعضهم بعضا، أو حتى بين المدرسين أنفسهم.

في قرية تطون بمحافظة الفيوم (بالقرب من القاهرة)، أسقطت نقابة المعلمين عضوية مدرس بعد إجباره تلاميذه على التجرد من ملابسهم والوقوف عرايا في الفناء. وفي مصر الجديدة بشمال القاهرة، اعتدى مدرس بالضرب على تلميذ بالصف الثاني الإعدادي لرغبته في الذهاب لدورة المياه. وفي الحي نفسه، تم تحويل معلمة للعمل إدارية بعد أن داست على طفل في المرحلة الابتدائية. واتهم مدرس بحي مصر القديمة طالبين بإحداث ضرر لسيارته وإحراقها، لأنه أنذرهما بالفصل. واعتدى مدير مدرسة بمنطقة عرب الشيخ في محافظة المنيا، على أحد الطلاب بيد مكنسة كهربائية لرفضه أخذ دروس خصوصية. ومدرس آخر في منطقة حلوان في جنوب القاهرة، اعتدى على طالب بالضرب فأصابه في وجهه بجروح، وعندما ذهبت أمه للمدرسة لاستطلاع المشكلة، اعتدى عليها هي الأخرى بالضرب. وطارد مدرس بمدرسة الكعابي الابتدائية بمحافظة الفيوم زميلته مدرسة اللغة الإنجليزية في الشارع، بمساعدة بعض التلاميذ فاستنجدت بالشرطة. كما اعتدى تلميذ بالصف السادس الابتدائي، على زميل آخر في منطقة المنوفية، بالمقص واصابه في وجهه.

هذه القصص ليست مجرد قصص وهمية، بل هي قصص حقيقية تجرى في مدارس مصر، وهي عينة لما تناولته الصحف في مصر لشهر واحد قبل أن تعتلي قضية مقتل إسلام صدارة اهتمام الرأي العام، وتدق أمام المجتمع ناقوس الخطر، وتلفت الأنظار لما يدور وراء أسوار المدارس. هذا العنف داخل المدارس دفع أعضاء أحد المجالس المحلية في محافظة الغربية الى أن يقترحوا إنشاء نقاط للشرطة داخل المدارس، وهو ما قوبل باستهجان شديد من المتخصصين في التعليم، فيما لجأت إدارة منطقة القاهرة الأزهرية إلى طريقة مبتكرة لتتبع مرتكبي العنف، فخصصت خطا ساخنا تتلقى من خلاله الشكاوى ثم يفحصها فريق عمل متخصص ويكتب تقريرا بشـأنها للمسؤولين.

قبل حادثة إسلام، حذرت دراسات كثيرة من تصاعد مستوى العنف في المدارس المصرية، ومنها واحدة أجراها «المركز المصري للحق في التعليم» في عام 2007، قالت إن عنف المدارس منتشر منذ سبعينات القرن الماضي خاصة في المناطق الفقيرة وفي صعيد مصر. ولفتت إلى ان المدارس لعبت دورا كبيرا في مدّ جماعات العنف الديني بأعضاء جدد، كما كانت مسرحا لحوادث عنف بين الطلاب أنفسهم وبينهم وبين المدرسين. وأرجعت الدراسة عنف المدارس إلى ثمانية أسباب هي: الاعتماد على التلقين كوسيلة وحيدة لتوصيل المعلومة، ولجوء المدرسين للعقاب البدني، وإساءة المعاملة للسيطرة على الطلاب، وضعف الرقابة الحكومية علي التعليم، إلى جانب الكثافة العالية للفصول، وعدم وجود أنشطة مدرسية لقصر مدة اليوم الدراسي، بسبب عمل المدارس أكثر من فترة في اليوم الواحد. وهناك دراسة أخرى للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أظهرت أن 30 في المائة من طلاب المدارس تعرضوا للعنف، وأن 80 في المائة من صور العنف تقع بين تلميذ وآخر. كما بينت أن 91 في المائة من الطلاب المخالفين يتعرضون لعقاب يتسم بالعنف. ومن بين الأدوات التي يستخدمها الطلاب في العنف، احتل الحزام المرتبة الأولى، يليه الدبابيس ثم السلاح الأبيض. كما أظهرت الدراسة أيضا أن أسباب التحريض على عنف الطلاب كانت المرتبة الأولى فيها للأسباب الداخلية التي تنبع من تفكير الطالب بينما جاءت الأسباب المتعلقة بتحريض الرفاق في المرتبة الثانية ثم تحريض الأسرة والأخوات. وكشفت دراسة المركز القومي للبحوث كذلك أن 42 في المائة من المدرسين يلجؤون للعنف لضبط العملية التعليمية. المبرر الأخير الذي ذكرته دراسة المركز القومي للبحوث يتطابق مع ما ذكره المدرس القاتل في التحقيقات، عندما قال: «كنت أريد تأديبه، بعد إهماله أداء الواجب المدرسي»، وهي نظرة ربما تتطابق أيضا مع إيمان بعض الأسر بضرورة استعمال العنف كسبيل للتربية. فقد أظهرت الدراسة أن هناك تواطؤا ما بين المدرسة والأسرة لاستعمال العنف خاصة أن نسبة الأسر التي تؤمن بالعنف كوسيلة للتربية بلغت 42 في المائة، كما أن الأسرة والمدرسة تتفقان في تدرج أساليب العقاب، وإن كان ثمة تأكيد على استخدام الضرب في عقاب الأبناء داخل الأسرة وداخل المدرسة أيضا.

ومع تناول وسائل الاعلام لأخبار قضية التلميذ القتيل إسلام عمر بدر، كانت ملامح الصور تشي بتفاصيل ربما لم تعبر عنها الدراسات بالقدر الكافي، فمع تفحص الوجوه والزوايا، كان الفقر حاضرا بقوة، وتجلت ملامحه في تفاصيل كثيرة منها مبنى المدرسة المتهالك بشرق الإسكندرية وضيق الحال على الملابس والوجوه. وحتى عندما أرادت الوزارة تعويض الأم قررت تعيينها في وظيفة إدارية لمساعدتها على المعيشة.

الفقر، بحسب الدكتور محمد المهدي استشاري الطب النفسي، عامل خطير للغاية في توليد العنف. فرغم تهديد الأزمة العالمية لاقتصاديات الدنيا بلا استثناء، إلا أن مدارس مصر لن تتأثر كثيرا برأيه والسبب بسيط، وهو إن الأوضاع وصلت للقاع ولم يعد هناك أدنى من ذلك. يقول المهدي: «علاقة الفقر والعنف متلازمة، فالفقير يعاني من درجة أعلى من الحرمان ويحاول دائما أن يشبع حاجاته وعندما يفشل يشعر بالإحباط الذي يؤدي بدوره إلى الغضب، وهو السبب الرئيسي للعنف سواء بين الطلاب بعضهم البعض أو بينهم وبين معلميهم. ولكن أخطر ما في الأمر هو تبلد الإحساس تجاه الضغوط، وهناك تجربة معروفة في علم النفس بـ «الفئران المحبوسة» التي يحبس فيها عدد من الفئران داخل قفص ويتعرضون للصعق ويشعرون بالألم الشديد في البداية، ثم لا تلبث أن تتبلد أحاسيسهم ويصبح الأمر عاديا، فهكذا هو الوضع الآن».

منذ أسابيع أبدت صحيفة «التايمز» البريطانية مخاوفها من تأثير الأزمة العالمية على سلوكيات التلاميذ، وقالت إن الركود الاقتصادي سيشعر التلاميذ بعدم الأمان وسينعكس ذلك سلبا على تصرفاتهم، وستتسم بمزيد من العنف، وطلبت من مدرسيهم دعمهم نفسيا في المرحلة القادمة، إزاء ذلك تهكم بعض المدرسين وتساءلوا «ومن سيدعمنا نحن؟!». يستبعد المهدي تأثير الأزمة المالية على مستوى العنف في مدارس مصر ويقول «وصلنا للحضيض منذ مدة طويلة ولا نحتاج للأزمة ليزيد معدل العنف». يروي أحمد كمال عيد، وهو مدرس مادة البيولوجيا في إحدى المدارس الثانوية في المنصورة، عن بعض الضغوط التي يتعرض لها المدرس فيقول: «نعمل في ظروف صعبة. يكفي أنه مطلوب مني أن أعمل 28 حصة أسبوعيا مدة كل واحدة 45 دقيقة في فصول دراسية يزيد عدد طلابها على 55 طالبا، إضافة إلى مهام أخرى مثل الأنشطة الاجتماعية والثقافية ودفاتر أعمال السنة، وفي ظل ذلك يلجأ المدرس أحيانا للقوة لإحكام السيطرة على الفصل خاصة أن بعض التلاميذ الذين ينتمون لبيئات فقيرة ينشأون في ظل موروث ثقافي يعزز العنف «اللي يضربك اضربه». وفي هذه البيئة العنيفة يصبح معيار القوة هو المسيطر، وأستطيع أن أجزم أنني أشاهد بشكل شبه يومي ضحية ينزف من رأسه يحوّل إلى المستشفى، كما أن بعض المدرسين ليسوا في الأغلب مؤهلين للتعامل تربويا مع الطلاب فهناك مدرسون إلى الآن لم يحصلوا إلا على شهادات متوسطة».

لم يخف عيد تأثير الضغوط الاقتصادية على سلوكيات المدرس، فعلى الرغم من مرور 9 سنوات على تعيينه مدرسا، فان مرتبه لم يتجاوز 530 جنيها (نحو 95 دولارا أميركيا)، وهو مبلغ لا يكفي أسبوعا واحدا من ميزانية المنزل خاصة أنه لا يعتمد على الدروس الخصوصية. ويقول إنه حتى لو اعتمد على الدروس الخصوصية، فان أسعارها زهيدة للغاية في قريته الريفية ولن تغير من وضعه الاقتصادي، إضافة إلى إيمانه بأن الدروس عنصر أساسي في كسر هيبة المدرس والتجرؤ عليه من قبل الطلبة، فيبدو في نظرهم مجرد سلعة يمكن شراؤها مقابل جنيهات قليلة.

ويضيف: «ضغوط الحياة قد تدفع المعلم للغضب أحيانا كنوع من حيل الدفاع النفسي ولا يضم عندها أن تزداد جرعة الضغوط فتترجم إلى عنف».

أشرف الكردي وهو مهندس في إحدى شركات الكمبيوتر له ثلاثة أولاد، محمود في الصف الأول الثانوي وحسن الأول في الثاني الإعدادي وهشام في الفرقة الثانية من كلية الحقوق، يتقاضى أربعة آلاف جنيه (نحو 700 دولار أميركي) شهريا، وهو رقم مرتفع للغاية مقارنة بمعدلات الأجور في مصر. ورغم ذلك يتآكل راتبه بعد أيام من بداية الشهر والسبب فاتورة الدروس الخصوصية التي يطالبه بها ابناه الصغيران. يقول أشرف الذي غادر عمله فجأة الأسبوع الماضي بناء على استدعاء مدرسي بعد اشتراك ابنه في مشاجرة عنيفة نتج عنها إصابته بجروح في رأسه وكسر يد زميله: «لم أصدق أن يصل الشجار بين تلاميذ صغار لهذه الحدة، لكن ما لفت نظري الغياب التام لأية سلطة للإدارة، الأعداد كبيرة والمدرس ضعيف والفصول متهالكة، حتى الإسعافات الطبية شبه منعدمة». اقتصادياً يعيش القطاع التعليمي في مصر بكل عناصره، ظروفا صعبة للغاية. فالعجز في أعداد المدرسين وصل إلى 95 ألف مدرس بكل المراحل، وانتقد خبراء الانخفاض الذي شهدته ميزانية التعليم بمقدار 1.9 مليار جنيه، كما أبدت قطاعات عديدة من المدرسين تذمرها من الكادر الجديد الذي خصصته الدولة لهم لزيادة رواتبهم. والتذمر ناتج من أسباب عديدة منها ضآلة مبلغ الزيادة مقارنة بمعدلات التضخم رغم إعلان الدولة تخصيص نحو2.5 مليار جنيه لهذا الغرض. كما قال بعضهم إن الامتحانات التي خضعوا لها للزيادة اتسمت بالفوضى ولا علاقة لها بمهارات التدريس ولم يتلقوا تدريبات ليتخطوها، وتساءل بعضهم «كيف ندخل الفصول ثانية لو رسب أحدنا في امتحان ما وكيف يحترمنا الطالب؟!».

يقول عبد الله وهو مدرس للتاريخ بمدرسة ثانوية بمنطقة شبرا بشمال القاهرة: «أنا مدرس منذ 12 عاما على الأقل ودخلت الامتحانات لنيل الكادر الجديد وكذلك زوجتي التي تعمل مدرسة للتربية الفنية، والفاجعة الكبرى أنني فوجئت برسوبي رغم تمكني بشهادة الجميع في التاريخ. مررت بأيام صعبة واهتزت صورتي كثيرا أمام أبنائي في المنزل خاصة أنني دائما ما أطالبهم بالمذاكرة واسترجاع الدروس لنيل أعلى الدرجات، كما أن أمهم في نظرهم أصبحت هي الأجدر بنصحهم. ثم قدمت التماسا لمراجعة أوراق إجابتي وكانت المفاجأة السارة أنني اكتشفت خطأ في النتيجة لعدم كتابتي كود ورقة الإجابة بشكل صحيح وزالت الغمة، ولكن بعد أن فقدت كثيرا من هيبتي داخل بيتي».

ولكن ما فقده عبد الله من الهيبة داخل المنزل ربما فقد مثله أضعافا مضاعفة داخل أسوار مدرسته هو وزملاؤه، فهناك بجانب الهيبة المفقودة، يجدون متنفسا لإحباطاتهم الاجتماعية والاقتصادية ويبدؤون يومهم في مدارسهم المجانية وأمامهم طلاب محملون بكل رواسب طبقاتهم الاجتماعية ومشاكلها، ويستنشق الجميع هواء الغضب والعنف في فصول متهالكة تتحول تدريجيا إلى حلبات مصارعة، تغتال الأمل والبراءة من غصون غضة، كان أبرز ضحاياها إسلام عمرو بدر ومدرّسه معا.