الحياة وسط الدخان.. والظلام

فلسطينيون يروون لـ «الشرق الأوسط» الحياة تحت القصف وانقطاع الكهرباء وتوقف المخابز.. والخوف من الآتي

المدنيون الفلسطينيون دفعوا ثمنا باهظا في هذه الحرب («الشرق الأوسط»)
TT

بعد طول انتظار عاد محمد، 14 عاماً، وعلى كتفه ما جمعه من حطب من كرم الزيتون القريب من بيت العائلة الواقع على طرف منطقة «بركة الوز»، غرب مخيم المغازي وسط قطاع غزة. في هذه الأثناء كانت إسلام، 19 عاماً، قد أنهت تقطيع العجين الذي اكتمل اختماره. تقدمت الوالدة نهلة، 39 عاماً، نحو فرن المعدن البدائي الذي يعمل بالحطب، وشرعت بحشو فوهته بالحطب الذي جمعه نجلها محمد، وأشعلته، ثم أخذت تطهو الخبز. لم يكن أمام نهلة بدا إلا مكابدة الدخان المنبعث من فوهة الفرن. فما تملك هذه العائلة من الغاز المعد للطهو نفد منذ شهر، ولم يعد بإمكانها استخدام فرن الغاز الموجود في المطبخ. كما ان إسرائيل حظرت دخول الغاز، وجميع أنواع الوقود الأساسية، في إطار الحصار الخانق الذي تفرضه على القطاع. بعد حوالي الساعة، أنجزت نهلة أو كما تحب أن تنادى «أم أدهم»، طهو الخبز، في الوقت الذي كان فيه زوجها عبد الرحمن عواد يقوم بتثبيت قطع من النايلون على نوافذ البيت، بعد ان تحطم زجاجها بفعل عمليات القصف التي استهدفت أحد مواقع الشرطة القريبة من البيت. يقول عبد الرحمن الذي يعمل في مجال تجارة المواشي، إنه على الرغم من أن موقع الشرطة الذي تعرض للقصف يبعد حوالي أكثر من كلم، إلا أن القصف أدى الى إلحاق ضرر كبير ببيته. فالطائرات الاسرائيلية أنزلت ثلاث قنابل على الموقع المستهدف؛ تزن الواحدة منها طناً من المتفجرات. نهلة التي تؤكد أن أسرتها قطعت شوطاً كبيراً في التأقلم مع أوضاع الحصار والقصف. وتقول إن الواقع الذي استجد بعد أن بدأت إسرائيل حملتها العسكرية الكبيرة الأخيرة على قطاع غزة، جعل الحياة بالغة الصعوبة، وفرض عليها وعلى زوجها وبقية أسرتها تحديات كبيرة اضافية. تقول نهلة إنها اتفقت مع زوجها على اتخاذ العديد من الإجراءات والاحتياطات، لتضمن عدم تعرض أفراد الأسرى للأذى جراء القصف المتواصل على قطاع غزة.

ومن الإجراءات التي تشير إليها نهلة ان جميع أفراد الأسرة المكونة من أحد عشر شخصاً باتوا ينامون في غرفتين فقط، غرفة لها ولزوجها وابنهما الأصغر زياد، 3 اعوام، اضافة الى منى ومهند، 8 اعوام، وابتهال، 12 عاماً، وإسلام، وغرفة أخرى تضم الأبناء الذكور: أدهم، 21 عاما، وهيثم، 16 عاماً، ومحمد، 14 عاماً. تؤكد نهلة أن حرصها على وجود الأطفال الصغار بالإضافة للبنات معها وزوجها في الغرفة نفسها، يأتي لتعزيز الشعور بالأمن لديهم، حيث تبين لها أن هناك تأثيرا واضحا لحالة الفزع التي أصابتهم بسبب أصوات الانفجارات الضخمة التي تضرب مواقع الشرطة ومواقع عسكرية تابعة لحركة حماس، فضلاً عن منازل عدد من قادة الحركة، وبعضهم يقطن بالقرب من حيث يعتاشون. تقول إنه في بعض الأحيان عندما تتعرض المنطقة التي تقطن فيها للقصف، فإنها لا تتردد في النوم مع أفراد عائلتها في الطابق السفلي من البيت، على أمل أن يكون تأثر البيت بالقصف أقل، ويكونون هم في مأمن أكبر. ومن الإجراءات الجديدة التي قررت نهلة وزوجها اتباعها، ترك نوافذ المنزل مفتوحة أثناء الليل والنهار، رغم الطقس الشتوي القارس والأمطار الغزيرة المتساقطة. تقول «في كل مرة كنا نترك الشبابيك مغلقة، كانت تتحطم بسرعة عندما تغير الطائرات على المنطقة. اليوم بتنا نفضل البرد على أن يتعرض أبنائي للخطر بسبب تطاير الزجاج عليهم وهم نيام». تحرص نهلة على إقناع صغارها الأطفال بالنوم مبكراً ما أمكن، حتى إذا ما قامت الطائرات بالقصف ليلاً تكون إمكانية اصابتهم بالفزع متدنية.

وبسبب انقطاع التيار الكهربائي في المنطقة، فإن بنات وأبناء نهلة يضطرون لمذاكرة دروسهم ليلاً على مصابيح بدائية تعمل بالكيروسين، وبعضهم على ضوء الشموع الخفيفة. وعلى الرغم من ان المدارس في غزة أقفلت ابوابها حاليا، إلا ان الاولاد يتهيأون لتقديم امتحانات نهاية الفصل الاول، بمجرد أن تسمح الظروف الأمنية بذلك. عائلة نهلة تعيش على البقوليات فقط، العدس والفاصوليا والبازيلا الجافة والفول. تقول ام ادهم: «لدينا وجبتان فقط، الفطور الذي يؤخر تقديمه حتى الساعة العاشرة صباحاً، والغداء الذي يقدم قبيل صلاة المغرب، وباستثناء زياد الذي تعد له ساندويشات المربى بين الحين والآخر، فإن الجميع يلتزم بهاتين الوجبتين فقط. تضطر نهلة الى صنع الخبز ثلاث مرات في الأسبوع. وتقوم بتحضير 100 رغيف خبز في الاسبوع، ذلك ان العائلة لا تشتري الخبز من الأفران، ليس فقط لأن معظم الأفران في الآونة الأخيرة اغلقت ابوابها بسبب النقص في الدقيق ونفاد الغاز وانقطاع التيار الكهربائي، بل لأن نهلة معنية بتوفير المصاريف. فزوجها الجامعي فشل في العثور على عمل يتناسب مع مؤهلاته الأكاديمية، واضطر للعمل بتجارة الأغنام. وعلى الرغم من أنه حقق نجاحات في هذا المجال، إلا أنه ومنذ عامين، فقد شهد هذا النوع من التجارة تراجعاً كبيراً. وفي الفترة الأخيرة بات عبد الرحمن، 46 عاماً، يفضل ملازمة البيت، في حين يقوم ابناؤه بالعناية بالأغنام، من حيث جلب الحشائش لها وتنظيف الحظيرة الخاصة بها، الى جانب تأمين الحطب الذي تستخدمه والدتهم في طهو الخبز.

نهلة ولدت عام 1970 في مخيم المغازي للاجئين لعائلة فلسطينية، قامت العصابات اليهودية في عام 1948 بتهجيرها من أرضها من منطقة «بئر السبع» التي تقع على مسافة 40 كلم للشرق من غزة، وتعتبرها إسرائيل حالياً «عاصمة» جنوبها. تلقت تعليمها في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أنروا)، وأنهت الثانوية العامة بتفوق كبير، لكنها لم تكمل تعليمها، حيث تقدم لخطبتها قريبها عبد الرحمن الذي يكبرها بثماني سنوات، والذي انهى للتو تعليمه الجامعي، فتزوجا. تتحدث نهلة عن ثلاث مراحل في حياتها بعد زواجها، وتقول إن كل مرحلة لها طابعها وسماتها الخاصة. المرحلة الاولى، وهي التي تفصل بين الانتفاضة الاولى وانتفاضة الاقصى، والمرحلة الثانية التي تفصل بين انتفاضة الاقصى وتسلم حماس الحكم، والمرحلة الثالثة منذ تسلم حماس الحكم وحتى الآن. تزوجت أواخر عام 1987، حيث اندلعت الانتفاضة الأولى بعيد زواجها بعدة أيام، حيث كان يعمل زوجها فني بناء داخل إسرائيل. تقول نهلة إنه كان يتقاضى راتباً جيداً، مقارنة مع الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة. وبسبب الدخل الجيد، فقد تمكن من شراء قطعة أرض وبنى عليها بيتاً من طابقين في منطقة «بركة الوز»، مع أن نهلة وزوجها كانا يعيشان مع أم عبد الرحمن في بيت العائلة داخل مخيم المغازي، حيث الاكتظاظ السكاني الكبير والأزقة الضيقة، وما ينجم عن هذا الواقع البائس من مشاكل. لكنها تستدرك قائلة إن لقمة العيش التي كان يؤمنها عبد الرحمن بعرقه كانت مغمسة بالذل والهوان والقلق. وتشير الى أنه كان يخرج من بيته يومياً الساعة الثانية صباحا ليعود للبيت في الساعة السابعة مساء، الأمر الذي أثقل عليها كثيراً في تربية الأولاد، وجعلها تحرص من جهة على تأمين كل متطلباتهم، وفي نفس الوقت تعكف على متابعة دروسهم، فضلاً عن إشفاقها على زوجها. تتذكر أنه في بعض الأحيان عندما تكون أعدت له الطعام، تذهب لتعلمه ان الطعام اصبح جاهزا، فتجده قد أخلد للنوم من شدة الإعياء الذي ألم به بعد يوم عمل شاق وسفر. وتتحدث نهلة عن المخاطرة الكبيرة التي كان ينطوي عليها سفر زوجها للعمل داخل إسرائيل، حيث كانت الانتفاضة في أوجها، الأمر الذي فاقم قلقها، بحيث أنها لا تتنفس الصعداء إلا بعد عودته من عمله. وتشير نهلة الى أن زوجها ظل يعمل بشكل متقطع في اسرائيل حتى اندلاع انتفاضة الاقصى أواخر عام 2000. تؤكد نهلة أن زوجها مثل بقية الفلسطينيين، لم يكن أمامه بد إلا العمل داخل إسرائيل، لعدم وجود فرص عمل في القطاع. ومع ذلك فقد كانت تشعر هي وزوجها بالمرارة لاضطراره وعشرات الآلاف من الفلسطينيين لأن يعمل لدى من يعتبرهم أعداء. وتضيف «لا يمكن للمرء أن يشعر بالاستقرار والسعادة عندما يكسب لقمة عيشه من عدوه، هذا أمر كان قاسياً، وغير طبيعي». وتوضح نهلة أن اندلاع انتفاضة الاقصى مثل بداية المرحلة الثانية في حياتها، حيث توقف زوجها عن العمل بعد أن حظرت اسرائيل دخول العمال الفلسطينيين الى اراضيها بالتدريج. وتشير الى أن زوجها كان بإمكانه بعد تخرجه مباشرة العثور على فرصة عمل بشهادته الجامعية داخل القطاع، لكنه فضل العمل في اسرائيل بسبب المردود المادي الكبير نسبياً، مقارنة بما يمكن أن يحصل عليه الموظف في غزة. وتشير الى أن زوجها حاول العثور على وظيفة داخل غزة كمدرس، حيث انه حامل شهادة بكالوريوس في الجغرافيا، لكنه لم ينجح في ذلك. وتضيف أن زوجها اهتدى للعمل في تجارة الأغنام، وتقول ان هذه المهنة كانت مغامرة بالنسبة له، لكنها كانت ناجحة، حيث مكنت مردودات هذه التجارة من توفير مستلزمات العائلة التي تضاعفت مع ارتفاع عدد أفراد الأسرة، وزيادة تكاليف الحياة. الفترة الثالثة بدأت مع فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة وتشكيلها الحكومة، وما تخلل هذه الفترة من تفاقم الانقسام الفلسطيني الداخلي. تقول إن هذه الفترة شهدت تراجعا في الأوضاع الاقتصادية، حيث ان الحصار أدى الى عدم السماح بدخول الأغنام للقطاع، فضلاً عن ارتفاع ثمن الأعلاف، فتراجع دخل عبد الرحمن من هذه التجارة، بل انه تكبد خسائر لاضطراره أحياناً لبيع الأغنام بأسعار أقل من سعر شرائها. لكن إن كانت إسرائيل تهدف من خلال هذه المجزرة التي ترتكبها حالياً في القطاع الى ايجاد حالة من القطيعة بين المقاومة والمجتمع الفلسطيني، فإن ما يقوله أفراد هذه العائلة يدلل على أن النتيجة كانت عكسية تماماً، رغم كل ما لحق بهم من أذى. منى الطالبة في الصف الثاني الابتدائي، كثيراً ما تعكف على رسم صور بسيطة تعكس رؤيتها لمصير الهجمة الإسرائيلية الحالية، وهي انتصار المقاومة، فترسم مقاوماً فلسطينياً وهو يدوس بحذائه احد جنود الاحتلال. والأمنية الوحيدة لتوأمها مهند، هي أن يكبر ويصبح مقاوماً لـ«يقتل» جنود الاحتلال، الذين يقصفون المنطقة التي يقطن فيها.

ذوو مهند يؤكدون أنه يستعطف والده، لإعطائه ما يكفي لشراء بعض الحلوى لتوزيعها على عدد من المقاومين الذين يرابطون في المنطقة. نهلة، وبخلاف زوجها، لم تصوت في الانتخابات التشريعية الأخيرة لحركة حماس، لكنها حالياً تعتبر أن الحرب الوحشية التي تخوضها حالياً إسرائيل ضد حركة حماس في القطاع، هي معركة ضد الشعب الفلسطيني بأسره. وترى نهلة أنه يتوجب على حماس عدم الموافقة على وقف اطلاق النار، إلا بعد أن ترفع إسرائيل الحصارَ بشكل كامل عن القطاع. ومثل هذا الرأي يتبناه زوجها وإسلام الطالبة الجامعية. وتقول إسلام «بإمكاننا أن نصبر أكثر في حال تغير الواقع التعيس، الذي نعيشه بعض الشيء، واضح لنا أن اسرائيل تريد هدوءاً مقابل هدوء، أي تكريس الحصار للأبد، وهذا ما لا ينبغي الموافقة عليه بحال من الأحوال».