الرابح والخاسر بين حماس وإسرائيل

3 أهداف للعدوان الإسرائيلي على غزة ليس من بينها مسح حماس من على الأرض

حسابات المكسب والخسارة ما زالت غير واضحة حتى الان («الشرق الاوسط»)
TT

جهود حثيثة ومتنوعة تبذل حاليا لوقف العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ أسبوعين. مظاهرات شعبية في عواصم ومدن العالم تندد بهول ما تقترفه آلة الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الغزي، وتعبر عن الغضب العارم من إسرائيل ومن العجز عن مواجهتها، وتطالب بإجراءات لمحاسبتها على ما تقترفه من جرائم بحق الشعب الفلسطيني. تحركات سياسية ـ دبلوماسية داخل الإقليم وخارجه بحثا عن مبادرات وصيغ تستطيع وقف هذه الحرب المجنونة وتنقذ أهل غزة من هول المأساة الإنسانية التي يتعرضون لها. انعقاد لمجلس الأمن وحضور عربي مكثف سعيا لاستصدار قرار لوقف إطلاق النار. كل هذا يجري والقذائف الإسرائيلية لاتزال منهمرة على مخيمات ومدن القطاع، على الأحياء السكنية والبيوت والمدارس، محدثة قتلا مستمرا ودمارا واسعا لن يكتشف العالم مداه سوى بعد أن يتمكن من لجم وإيقاف هذا العدوان. ولكن من الواضح أن هذا الإيقاف لم يحن بعد، فإسرائيل لم تحقق حتى الآن غاياتها من الحملة العسكرية، ولحين ذلك فهي تتمتع بغطاء الدعم الروتيني المتوقع من حليفتها العضوية، الولايات المتحدة الأميركية، التي تقود المساعي المستمرة الهادفة إلى حماية إسرائيل وضمان مكانتها المتفردة الخاصة فوق القانون الدولي. وبالمقابل، فان موعد إيقاف هذه العملية لم يحن أيضا لأن إسرائيل لم تتعرض حتى الآن لخسائر بشرية تثير على الحكومة رأيا عاما داخليا يجبرها على السعي لمخرج من مأزق. باختصار، لم تحقق إسرائيل حتى الآن انتصارا قاطعا، ولكنها لم تتعرض أيضا لهزيمة واضحة. وبالتالي فان الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة لم تنته بعد، ولن تتوقف ما لم يتم حصول أحد الأمرين المذكورين.

ولكن لكي نُقيِِِم ميزان الربح والخسارة، ليس لإسرائيل فحسب، وإنما لحركة حماس خصوصا، وباقي المكونات السياسية الفلسطينية عموما، علينا أن نفهم الدوافع والأهداف الكامنة وراء تحريك الطائرات والدبابات الإسرائيلية في عملية شائكة ومحفوفة بالمخاطر. وإذا استطعنا استخلاص الزبدة من رغوة التصريحات الإسرائيلية يمكننا تحديد ثلاثة أهداف إسرائيلية متشابكة لهذه الحملة من الوجهة الإسرائيلية. أولا، إنهاء حالة الخاصرة الرخوة التي تحوَل إليها قطاع غزة بعد سيطرة حركة حماس عليه وتحويله إلى قاعدة للمقاومة المسلحة المرموز لها بإطلاق الصواريخ على غلاف قطاع غزة، وتعاظم قدرة حركة حماس العسكرية ومكانتها السياسية. تستهدف إسرائيل من عدوانها على قطاع غزة، إذا، توجيه ضربة عسكرية قاسية لحركة حماس لتكبح قدراتها القتالية وتوقف خطوط إمدادها التسليحية، وبالتالي تتوصل إلى تهدئة طويلة الأمد ينتهي معها إطلاق الصواريخ من قطاع غزة. ولهذا السبب تحاول آلة الحرب الإسرائيلية أن تبرهن وتعرض قوة ردعها كي توصل الرسالة بوضوح ودون إمكانية للتأويل. وبالتالي لن توقف إسرائيل الحملة العسكرية إلا عندما تتيقن من ضمان تحقيق هذا الهدف. وثانيا، تعتقد أوساط سياسية إسرائيلية نافذة أن زعزعة قدرة حركة حماس على المقاومة الفعلية (حتى وان حافظت على شعاراتية المقاومة) سيؤدي إلى الاضطرار في نهاية المطاف إلى تليين مواقفها والانسياب إلى حلبة التسوية السياسية. وثالثا، تريد هذه الأوساط توجيه ضربة للتحالف المضاد لإسرائيل في المنطقة، وأن تبدأ بتفكيكه، ليس ابتداء? من إيران وإنما انتهاء? بها. وعلاوة على هذه الأهداف الاستراتيجية الثلاثة يجب أن لا يغيب عنا الدوافع التكتيكية لأطراف سياسية إسرائيلية، والمتمثلة بحسابات الحملة الانتخابية الدائرة في إسرائيل حاليا من ناحية، والقيام بالاستعدادات الضرورية لاستقبال الإدارة الأميركية الجديدة من ناحية أخرى. في هذا السياق علينا أن لا نخطئ في تقدير الدوافع الإسرائيلية واعتبار أن ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة الآن يأتي من رغبتها إعادة قطاع غزة لسيطرة السلطة الفلسطينية. فإسرائيل في حقيقة الأمر لا تكترث بالسلطة الفلسطينية إلا كأداة لفرض التسوية السياسية بالشروط الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. وعلى من لا يدرك أن يعي أن توصيل قطاع غزة بالضفة بواسطة ممر بري لا يقع ضمن الرؤية الإسرائيلية. بل إن إسرائيل تُفضّل استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني وتركيب هذا الانقسام ليتوافق مع الفصل الجغرافي بين الضفة والقطاع. فهذا الأمر يُسهّل المهمة الإسرائيلية في تذويب القضية الفلسطينية وتحويل القبول الإسرائيلي الشكلي بحل الدولتين إلى تثبيت واقع باندوستوناتي (كانتونات مجزأة) للفلسطينيين لينساب في النهاية ليصب في خانتي مصر والأردن. من هذا المنطلق لا أعتقد أن مسح حركة حماس عن الخارطة السياسية يدخل في الحسابات الإسرائيلية. وهناك فرق كبير في الاستراتيجية الإسرائيلية بين حركة حماس السياسية حتى وذات البرنامج المناوئ للتسوية السياسية، وبين حركة حماس المسلحة صاحبة ومنفذة مشروع المقاومة الفعلية. الأولى مرغوبة والثانية مرفوضة.

في مقابل الدوافع والأهداف الإسرائيلية يوجد بالتأكيد دوافع وأهداف لحركة حماس. فهذه الحركة فازت في الانتخابات الفلسطينية، ولكن ذلك لم يُمكنّها من الحكم بيسر وسلاسة لأن الكثير من العُصيّ وضعت لها في الدواليب، محليا وإقليميا ودوليا. ونتيجة لاستهدافها من ناحية، وعدم بصيرتها السياسية التي قادت إلى تشبثها بالحكم من ناحية أخرى، ارتكبت الحركة سلسلة من الأخطاء الاستراتيجية أوصلتها إلى الانحشار في قطاع غزة، ما سهّل حصارها. وكان لابد لحماية مكانتها السياسية أن تخوض حركة حماس في لعبة الإرادات وأن تُحقّق كسر هذا الحصار. وبالتالي تحول فتح معبر رفح بسيطرة الحركة عليه من الجانب الفلسطيني إلى غاية قصوى، كون ذلك سيؤدي إلى ضمان شريان استمرار السيطرة على غزة، وبالتالي الحفاظ على الحركة كرقم صعب في المعادلة السياسية الفلسطينية الداخلية، والخارجية أيضا. ولتحقيق فتح المعبر وتمرير حكمها في قطاع غزة حاولت حركة حماس كل الوسائل الممكنة، من محاولات إقناع مصر، إلى القبول بتهدئة مع إسرائيل أطاحت بمبرر خلافها مع السلطة المتهمة من قبلها بعدم المقاومة والتفريط التفاوضي، إلى حفر الإنفاق واستخدامها للتسلح ورفع وتيرة ونبرة التهديدات لإسرائيل، ناهيك من التصعيد المتبادل بينها وبين حركة فتح والسلطة الفلسطينية.

لم تُمكّن كل هذه الأساليب حركة حماس من فك الحصار المفروض عليها وفتح المعبر الرئيسي لقطاع غزة على العالم الخارجي مباشرة، أي معبر رفح. لذلك عندما انتهى موعد التهدئة مع إسرائيل لم تجد الحركة أي دوافع أو مبرر لتجديدها دون الحصول على المقابل المطلوب. وتدحرج الوضع بسرعة وأخرجت إسرائيل إلى حيز التنفيذ خطتها العسكرية المُعدّة سلفا، وبدأت بالتنفيذ. وبدأت المساعي العربية والإقليمية والدولية تتكاثف لوقف العدوان الشرس على قطاع غزة. وكما في جميع الأحوال التي يُطلب فيها تدخل المجتمع الدولي فان أول الأهداف يبدأ بالسعي لتحقيق «وقف إطلاق النار». وبدأ هذا التعبير يُتداول ويستجمع قوة في العواصم المختلفة وأروقة مجلس الأمن. وعلينا الانتباه الى أن هذا التعبير يختلف اختلافا جذريا عن تعبير «وقف العدوان» لأن هذا الأخير يطلب من الطرف المعتدي فقط أن يتوقف بينما مفاد «وقف إطلاق النار» أن الطرفين سيتوقفان. وبالتالي يكون أول الأهداف الإسرائيلية قد تحقق في أن وقف الحملة الإسرائيلية أصبح مرتبطا بوقف الصواريخ الفلسطينية. هذا هو أساس التهدئة القادمة والتي سيحتاج إبرام اتفاق بشأنها إلى إجراءات عديدة، وقد تصبح مشمولة بقرار دولي يصدر عن مجلس الأمن. وبالتالي، يمكن توقع أن تحقق إسرائيل الهدف الملموس الأول من حملتها العسكرية، وستنتظر تحقق الهدفين الأخيرين كنتائج تابعة (إلا في حالة توسع رقعة الحرب وفتح جبهة جديدة على إسرائيل من جنوب لبنان). وعليه، وبخلاف ما حصل في الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، ستدَعي الحكومة الإسرائيلية انتصار جيشها في هذه الحملة لترد له الاعتبار المفقود منذئذ.

ولكن كيف يمكن تحقيق «وقف إطلاق النار» دون أن تحصل حركة حماس على مقابل يسمح لها هي أيضا إعلان انتصار الصمود والثبات، هذا إذا لم تستطع إسرائيل تحقيق حسم عسكري تام يتطلب إعادة احتلال كامل للقطاع والمكوث فيه لفترة مديدة لا تدخل على ما يبدو ضمن الرغبة الإسرائيلية المتوخاه من هذه الحملة العسكرية الحالية. سيكون موضوع إعادة فتح المعابر ضمن الإجراءات المطلوبة لعقد اتفاق تهدئة طويلة بعد تحقق «وقف إطلاق النار». وستوافق إسرائيل على فتح المعابر التي تصل بينها وبين القطاع مباشرة لان لها سيطرة أمنية مباشرة عليها. ولكن العقبة ستكون في إعادة فتح معبر رفح الذي تريده حركة حماس معبرا تحت الإشراف الفلسطيني- المصري المباشر. هذا الأمر لن يتحقق، ولكن قد يكون هناك إمكانية لإدخال تعديلات مهمة (ولكن لا تمس الجوهر) على اتفاق عام 2005 بشأن معبر رفح، ما يمكن أن يعطي انطباعا بتغيير الوضع عليه استجابة لمطلب حركة حماس.

قد ينتهي الأمر عند ذلك بالنسبة لإسرائيل، ولكنه يجب أن لا ينتهي بالنسبة للفلسطينيين، وإذا انتهى عند ذلك الحدّ ستكون النتائج كارثية على القضية الوطنية الفلسطينية. علينا فلسطينيا أن نستخلص العبر مما جرى لنا وأن نقوم بمراجعة شاملة لتعديل المسار. وفي هذا السياق يتطلب أخذ ثلاثة أمور بالجدية الكبرى والضرورة القصوى.

أولا، أن الوحدة الوطنية الفلسطينية شرط ضروري وأساسي للحفاظ على النضال الفلسطيني المستمر لتحقيق الحقوق الفلسطينية الشرعية للشعب الفلسطيني. ويجب أن لا تُعتبر هذه الوحدة ترفا أو إسرافا من قبل أي طرف فلسطيني، بل واجب كل طرف أن يقدم المطلوب لتحقيقها، ويحافظ عليها، ويرعاها لأنها السد المانع الوحيد لمجابهة الأطماع الإسرائيلية الصهيونية في فلسطين. من هذا المنطلق، وحتى إن لم ترغب إسرائيل (وهي ترغب) يجب أن لا ينتهي الحال بنا بعد هذه الحرب على التشبث بوضعنا البائس قبلها. وبالتالي على الانقسام السياسي الفلسطيني أن ينتهي.

ثانيا، لكي ينتهي هذا الانقسام بالفعل وليس فقط بالشكل والمظهر (هذا إذا انتهى) على طرفي الصراع الفلسطيني الداخلي أن يتنبها إلى خطر استمرارهما تبني خطين متوازيين لا يلتقيان، لأن ذلك لن يحقق لأي منهما الأهداف الوطنية المرجوة. فخط مفاوضات غير محدد زمنيا، بل مفتوح على مصراعيه إلى ما لا نهاية، وبما يسمح لإسرائيل بتثبيت وتوسيع الوقائع على الأرض من خلال الاستيطان، هو خط عدمي مدمر للقضية الوطنية. كذلك فان المقاومة المسلحة مع وجود عنوان رسمي وعلني للفلسطينيين تحت الاحتلال تحت تسمية السلطة الفلسطينية (إن كانت في الضفة أو القطاع) لن تنتج تراكما يؤدي إلى إنهاء الاحتلال، بل عبثا يؤدي إلى تقويض السلطة. فإذا أردنا تبني خط المقاومة المسلحة علينا واجب حل السلطة، أما إذا أردنا لها الاستمرار، بل خُضنا بين أنفسنا صراعا عليها، فان المقاومة المسلحة مع وجود هذه السلطة لن تنتج إلا تدمير القدرة الفلسطينية كما جرى في الضفة عام 2002، وكما يجري حاليا في غزة.

ثالثا، المقاومة والمفاوضات يجب أن يرفدا بعضهما بعضا. وهذا الأمر لا يتحقق في الحالة الفلسطينية بالتوازي وإنما بالتوالي. لذلك يجب أن يتضمن التوافق الفلسطيني الداخلي التوصل إلى استراتيجية موحدة تقوم بالأساس على فتح آخر فرصة زمنية محددة سلفا لمسار المفاوضات المستمرة منذ خمسة عشر عاما دون التوصل إلى النتيجة المطلوبة. ويجب أن يُعلن مسبقا لإسرائيل والعالم أن انتهاء هذه الفرصة الأخيرة التي نحترم خلالها التهدئة الشاملة والتامة سيؤدي إلى إغلاق الباب أمام التفاوض، وبالتالي أمام حل الدولتين، ويفتح الباب حينها للولوج إلى مرحلة جديدة تقوم بالأساس على مقاومة الاحتلال، إما بالوسائل المسلحة أو السلمية لتحقيق إما الاستقلال أو تحويل الوضع ألاحتلالي الإسرائيلي لفلسطين إلى دولة واحدة. وعندها على إسرائيل أن تختار بين أن تدخل معنا في مفاوضات جديّة لها نهاية زمنية، أو أن تُفتح خيارات أخرى تُغيّر لها طبيعتها.

العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مُرشّح لأن يحقق النتائج المرسومة له إسرائيليا، والمدعومة من حلفاء إسرائيل الغربيين. علينا وقف نزيف الدم بأسرع وقت ممكن وعدم الاكتفاء عند ذلك والانكفاء مجددا على وضعية الانقسام الفلسطيني. إن حصل ذلك تكون إسرائيل قد انتصرت، وهذه ستكون كعديد من سابقاتها: طامة جديدة كبرى.

* استاذ العلوم السياسية في جامعة بير زيت