مبعوث سلام الشرق الأوسط.. رجل يجري للنزاعات

جورج ميتشل توسط في أزمة أيرلندا الشمالية وتوصل لتسوية تاريخية.. والآن عينه تتجه للشرق الأوسط.. فهل يخدمه نصفه الشرق أوسطي كما خدمه نصفه الأيرلندي؟

TT

«أي نزاع يمكن أن يحل» يقول جورج ميتشل مبعوث السلام لمنطقة الشرق الأوسط في إدارة باراك أوباما الجديدة، موضحا أنه إذا ساهم في حل الصراع في أيرلندا الشمالية فهذا دليل على أنه ليس هناك شيء اسمه «صراع مستعص على الحل». وقال ميتشل في مقابلة صحافية الشهر الماضي: «أفهم أن شعوب الشرق الأوسط تشعر بالإحباط، أعرف شعور الإسرائيليين. لكن من خبرتي في أيرلندا الشمالية، أعرف أنه ليس هناك صراع غير قابل للحل. الصراعات من صنع البشر، ويمكن للبشر أن تنهيها. يمكن أن تأخذ الصراعات وقتا طويلا، لكن مع الالتزام والنشاط وقوة القيادة، يمكن أن تحل مشاكل الشرق الأوسط». فمن هو ميتشل مبعوث السلام الجديد لمنطقة الشرق الأوسط؟ وهل هو الشخص المناسب للمهمة؟ ولد جورج ميتشل، وهو الابن الأكبر بين خمسة أولاد، في 20 أغسطس (آب) 1933 في واترفيل (ماين شمال غرب) وهو من عائلة كاثوليكية متواضعة من أب أيرلندي، جورج جون ميتشل وأم لبنانية اسمها ماري سعد كانت تعمل في صناعة النسيج وهاجرت من لبنان إلى أميركا وعمرها 18 عاما. كانت أحوال العائلة المالية ميسورة لأنه كان على كل فرد فيها أن يعمل. وبالتالي وبعدما عمل لتمويل دراسته في الحقوق كسائق شاحنة ومراقب ليلي، بدأ ميتشل حياته المهنية كمحام ومدع عام وقاض بعدما تخرج من جامعة «جورج تاون» العريقة 1961. ومع تفوقه في الدراسة، ظهر اهتمام جورج ميتشل بالعمل السياسي، فانخرط في صفوف الحزب الديمقراطي، ثم نال ترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب حاكم ولاية مين عام 1974، غير أنه خسر في الانتخابات العامة أمام جيمس لونغلي. لكن برغم الخسارة عينه الرئيس جيمي كارتر مدعيا عاما لمين من عام 1977 إلى 1979، ثم شغل ميتشل بعد ذلك منصب قاض فيدرالي إلى أن عين في مجلس الشيوخ الأميركي عام 1980 عندما عينه حاكم مين جوزيف برينان في المنصب بعد استقالة ادموند موسكي ليشغل منصب وزير الخارجية. أعيد انتخاب ميتشل في مجلس الشيوخ عام 1988، غير أنه فضل عدم الترشح لولاية ثالثة عام 1994. لكن سنوات عمل ميتشل في مجلس الشيوخ جعلت منه شخصية معروفة وأساسية وسط الديمقراطيين في الكونغرس. وبالتالي عندما غادر المجلس عرض عليه الرئيس السابق بيل كلينتون أن يعمل قاضيا في المحكمة العليا التي تنظر في المسائل الدستورية وتعد أقوى مؤسسة قضائية في أميركا، إلا أن ميتشل رفض، وفضل العمل في مشروعات مرتبطة ببرامج الرعاية الصحية والتي كانت محل اهتمامه خلال عمله في الكونغرس. وفي الوقت نفسه عمل ميتشل في شركة محاماة خاصة في واشنطن، لكن هذا جلب عليه الكثير من الانتقادات إذ اتهم بعلاقات مع جماعات ضغط في صناعة التبغ. ثم عمل عضوا في مجالس إدارة العديد من المجموعات الكبرى. كما ترأس ميتشل مجلس إدارة «ولت ديزني» من مارس (آذار) 2004 وحتى ديسمبر (كانون الأول) 2006. وربما كانت مسيرة ميتشل السياسية لتنتهي من دون أحداث كبرى تذكر، لكن جاءت النقطة الفاصلة في مسيرته عندما كانت أزمة أيرلندا الشمالية في أحرج مراحلها، وكانت مساع سابقة قد فشلت فشلا ذريعا، ففي عام 1995 وخلال إدارة كلينتون قبل ميتشل أن يكون مبعوثا خاصا للسلام لأيرلندا الشمالية. لم تكن أزمة أيرلندا الشمالية أزمة سهلة، بل على العكس تماما، كانت معقدة، تداخل فيها الدين بالأرض بالسيادة، ولم يكن تحقيق نجاح فيها أمرا سهلا أو متوقعا. وبالتالي اضطر ميتشل إلى تكرار زيارات وجولات عديدة لأيرلندا لوضع الأسس الأولى لمبدأ وقف العنف، ثم وضع شروط المصالحة. لكن وساطة ميتشل لم تكن وساطة الأوراق فقط بين الأطراف المعنية، فقد كان كثيرا ما يتدخل شخصيا وسط المتنازعين وبالذات بسبب سوء التفاهم التاريخي بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية، والخلافات حول مسألة السيادة والعلاقة مع بريطانيا، فـإيان بيزلي الذي يرأس الحزب الديمقراطي الاتحادي في أيرلندا الشمالية كان يدعو إلى الاندماج في بريطانيا، بينما جيري آدامز رئيس حزب «شين فين» كان يدعو إلى الاستقلال عن التاج البريطاني. وبعد 3 سنوات من الوساطة المتواصلة والشاقة ويوم الجمعة العظيمة عام 1998، تم توقيع اتفاق السلام التاريخي بعدما توصل جيري آدامز وبيزلي على مشاركة السلطة وتشكيل إدارة مشتركة في الثامن من مايو (أيار) عام 1998 لإدارة الإقليم، ثم عقد الاجتماع الذي يعتبر الأول بين الزعيمين في برلمان الإقليم. واليوم وبعد نحو 10 سنوات من آخر أزمة تدخل ميتشل لحلها، يعود من جديد لأزمة جديدة في الشرق الأوسط. فميتشل، 75 عاما الذي أصيب بسرطان البروستاتا، والذي مانع في شغل مناصب سياسية يتوق لها غيره من السياسيين (مثلا يقال إنه لم يتحمس كثيرا عندما كان آل غور ينظر في ترشيحه له كنائب له على بطاقته الانتخابية عندما كان آل غور مرشحا رئاسيا عام 2001 عن الحزب الجمهوري)، لم يرفض تكليفات التوسط في الصراعات المستعصية. اختيار ميتشل مبعوثا لسلام الشرق الأوسط إشارة إلى أن أوباما سيحاول تحقيق تقدم في ذلك الملف المعقد جدا، فجورج ميتشل شخصية ذات وزن ثقيل، وسيكون على اتصال مباشر بأوباما، وسيقدم له التقارير ويبلغه بمسار العملية التفاوضية معتمدا على تجربة سابقة في الشرق الأوسط. كما أن اختياره يدل على أن أوباما يريد دبلوماسيين يستطيعون أن يتحركوا بحرية في الملفات الشائكة من دون أن يضطروا للمرور بالضرورة عبر مكتب وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. ويقول دبلوماسيون أميركيون إن اختياره يعد من أفضل القرارات التي اتخذها أوباما حتى الآن، فهو «متوازن وموضوعي وليس له أعداء أو أصدقاء في الشرق الأوسط». فميتشل في نظر الكثيرين داخل واشنطن مثال للسياسي القادر على الوقوف «في المنتصف» من دون أن ينحاز لطرف، فلا تعتبره إسرائيل عدوا لها، ولا يعتبره الفلسطينيون صديقا لهم. وعندما كان سيناتور في الكونغرس كان الكثير من مؤيدي إسرائيل يدعمونه، كما أنه دائما ما صوت لصالح تشريعات في الكونغرس تعزز العلاقات الأميركية الإسرائيلية. لكن في الوقت نفسه يتذكره الشرق الأوسط عندما ترأس «لجنة ميتشل» لنظر تأثير المستوطنات الإسرائيلية على عملية السلام بين 2000 و2001، وهي اللجنة التي دعت إسرائيل إلى تجميد بناء المستوطنات، ودعت الفلسطينيين إلى وقف الهجمات على إسرائيل. وفي تقريرها النهائي الذي عرف باسم تقرير ميتشل شددت اللجنة على حق إسرائيل الشرعي في الدفاع عن النفس، غير أنها نالت اهتماما إعلاميا أكبر لقولها: «على إسرائيل أن توقف كل الأنشطة الاستيطانية، بما في ذلك النمو الطبيعي للمستوطنات الموجودة بالفعل. نوع التعاون الأمني الذي تطلبه إسرائيل لا يمكن أن يتواجد مع الأنشطة الاستيطانية». وساعتها وافق شارون على التقرير ليكون أساسا للتفاوض، لكن أغلبية أعضاء الحزب الحاكم آنذاك الليكود وأعضاء حزب العمل وباقي الأحزاب الإسرائيلية رفضوا التقرير خصوصا تجميد بناء النمو الطبيعي للمستوطنات الموجودة بالفعل. ميتشل المعروف بأنه مفاوض حذق يجمع في مهاراته التفاوضية بين خبرته القانونية والقضائية وبين معرفته السياسية، والذي يهتم بالجوانب الثقافية والإنسانية للنزاعات، وليس فقط الجوانب السياسية أو الأمنية، سيدخل عش دبابير الشرق الأوسط مزودا بثقة أطراف النزاع، كما كان مزودا بثقة أطراف نزاع أيرلندا الشمالية، كما سيكون مزودا بحساسية خاصة تعود إلى علاقاته مع أهالي وشعوب المنطقة. وفي كتاب له حول تجربته في أيرلندا الشمالية بعنوان «صنع السلام» روى ميتشل كيف أن العادات السياسية المحلية خلال المحادثات حول اتفاق السلام شكلت اختبارا لقدراته كمفاوض، فأي شيء وأبسط لفتة أو هفوة يمكن أن تترك تأثيرا سيئا وأن تعكر مسار مفاوضات. هذه الحساسية الشديدة سيحتاج إليها ميتشل خلال عمله في الشرق الأوسط، وهناك كثيرون يتوقعون له النجاح، أو يتمنون ذلك، فالجانب الأيرلندي أو النصف الأيرلندي من شخصيته خدمه في أيرلندا الشمالية، فهل يخدمه نصفه الشرق أوسطي في حل أزمة منطقة جاء إليها الوسطاء طوال أكثر من 50 عاما من دون أي بصيص للنجاح. ربما، فهو مفاوض صبور جدا.