طبيب.. لمرض استثنائي

تيموثي غيثنر وزير الخزانة الأميركي انطلق سيئاً عندما نسي ضرائبه.. ورهانه: اطلبوا الحل ولو في الصين لمشاكل أميركا

TT

يتحدث تيموثي غيثنر وزير الخزانة الجديد اللغة الصينية. وهو يعتقد أن الدواء من العلل التي يعانيها الاقتصاد الأميركي الذي يترنح «يوجد في الصين». يرى غيثنر أن علاقة واشنطن وبكين، واحدة من أكثر العلاقات أهمية بالنسبة للولايات المتحدة». ويظن أن علاقات قوية مع الصين تعني تحقيق «فرص بلا حدود». إذا كان الخير للاقتصاد الأميركي يأتي من الصين، فإن المشاكل تأتي أيضاً من الصين. يقول غيثنر إن الصين هي أكبر «مناور ومراوغ» في مجالات العملات في العالم، وقال أيضاً «الصين تتلاعب بعملتها» ولابد من سياسة «هجومية» ضدها. يدعو غيثنر إلى الضغط بكل الطرق الدبلوماسية على الصين لتغيير سياستها التي تجعلها تتلاعب بأسعار عملتها، حتى تبدو أسعار الصادرات الصينية دائماً أقل بكثير عن أسعار الصادرات الأميركية، الأمر الذي أضر ضرراً بليغاً بالوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة، وأدى إلى تأجيج تداعيات الأزمة الحالية. هذه الأفكار وردت في وثيقة بعث بها غيثنر قبل قرار تثبيته في منصبه، إلى لجنة الشؤون المالية في الكونغرس. غيثنر يطلب إذن حلاً صينياً لأسوأ أزمة تمر بها الولايات المتحدة منذ أزمة «الكساد الكبير» في ثلاثينات القرن الماضي، ولاشك أنه سمع بالحكمة القديمة التي تقول «لا أحد يستطيع أن يتخذ موقفاً وسطاً تجاه الصين، لأنها تفرض نفسها إما أن تتعصب لها وإما أن تتعصب ضدها» بيد أن غيثنر، الذي أنيطت به أكبر مسؤولية على الإطلاق في إدارة أوباما حيث طلب منه ترميم اقتصاد متداعٍ، يريد أن يسير ضد هذا القول «لا يتعصب للصين ولا يتعصب ضدها» لكن يلتمس عندها حلولا، وفي الوقت نفسه يقف ضد «تلاعباتها» كما يقول ويزعم. تيموثي غيثنر مطلوب منه، وفوراً أن يحقق التالي وخلال سنة واحدة: خلق ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين فرصة عمل جديدة، تشييد طرق وجسور جديدة لإنعاش سوق العمل، تحسين شبكة الكهرباء، خفض استهلاك الطاقة بنسبة 75 بالمائة في المباني الحكومية وصيانة آلاف المدارس، خفض الضرائب على الشرائح الوسطى وكذا على الشركات التي تساعد في كبح أرقام البطالة المتصاعدة. فمن هو وزير الخزانة الأميركي الجديد، الذي كلفه أوباما أكثر ملف شائك في الإدارة؟.. ولد تيموثي في بروكلين في نيويورك، وكان والده بيتر غيثنر مسؤول برنامج آسيا في مؤسسة فورد العملاقة، التي تترنح حالياً هي الأخرى وتقترب من دائرة الإفلاس. وثمة علاقة ربطت بكيفية غير مباشرة باراك أوباما مع أسرة غيثنر، ذلك أن بيتر غيثنر التقى ذات مرة والدة أوباما، آن دينهام، التي كانت تعمل مع مؤسسة تابعة لمؤسسة فورد في العاصمة الأندونيسية جاكارتا. والدة بيتر غيثنر، ديبورا موور، ظلت تعمل وتدرس آلة البيانو في لارشمونت (نيويورك). وعمل جده من أمه مستشاراً للرئيس دوايت أيزنهاور. تنقل تيموثي غيثنر مع والده في عدة دول، لذلك تابع دراسته الابتدائية في زيمبايوي والثانوية في العاصمة التايلندية بانكوك، ثم درس الجامعة في كلية دارتموث في هانوفر (ولاية نيوهامشير)، وبعد ذلك تابع دراساته العليا في الاقتصاد في جامعة جونز هوبكينز في مدينة بلتيمور (ولاية ميريلاند)، كما درس لغات شرق آسيا وتخصص في اليابانية والصينية. وكان أول عمل يعمل فيه تيموثي غيثنر في «مؤسسة كيسنغر» في واشنطن لمدة ثلاث سنوات، ثم انتقل عام 1988 إلى وزارة الخزانة في قسم العلاقات الدولية، وعمل ملحقاً تجارياً في سفارة الولايات المتحدة في العاصمة اليابانية طوكيو. وفي عام 1995 تولى أول منصب رفيع في إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، حيث أصبح نائب مساعد وزير الخزانة للعلاقات الدولية في قطاع السياسة النقدية والمالية، وفي عام 1997 ترقى إلى منصب مساعد وزير الخزانة للعلاقات الدولية، ثم وكيلاً للوزارة للشؤون الدولية حتى عام 2001. ومن موقعه داخل وزارة الخزانة ساعد على تجاوز أزمات اقتصادية في كل من البرازيل والمكسيك وأندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايلاند. غادر تيموثي غيثنر وزارة الخزانة عام 2002 حيث انضم إلى مجلس العلاقات الخارجية في وظيفة رفيعة، وتولى في صندوق النقد الدولي منصب مدير مصلحة التنمية والمراجعة. ومن واشنطن عاد من جديد إلى نيويورك ليتولى مسؤولية بنك الاحتياط الفيدرالي في نيويورك. كان من المسؤولين الرئيسين الذين ضغطوا لإنقاذ شركة التأمين الأميركية العملاقة «إيه أي جي» التي كان انهيارها سيؤدي إلى إفلاس عدة بنوك وشركات تأمين وشركات صناعية، وفي الوقت نفسه كان تيموثي غيثنر من المناوئين لفكرة إنقاذ الشركة المالية الضخمة «ليمان براذرز». غيثنر، ابن عازفة البيانو الذي تنقل من مدارس هراري في زيمبابوي إلى بانكوك في تايلاند، يملك عقلية المصرفيين ويعرف جيداً كيف يقيل البنوك المترنحة من عثرتها. صحيفة «واشنطن بوست» في عددها أول من أمس كتبت تقول «حالة عدد من البنوك تزداد سوءاً... وتواجه مصاعب في إعادة ديونها للشركات المالية، وبلغت خسائرها حتى الآن تريليون دولار». وأولى مهام غيثنر أن يساعد هذه البنوك على أن تقف على رجليها. طلب باراك أوباما من تيموثي غيثنر ترميم الاقتصاد، وإنقاذ البنوك، ومحاصرة مجموعات الضغط (لوبيات) ونشر مفاهيم النزاهة في القطاعات المالية. لكن من المفارقات أن غيثنر لم يكن فوق الشبهات في مسألتي الضغط على اللوبيات ونشر مفهوم النزاهة. في الموضوع الأول اضطر البيت الأبيض أن يتدخل للدفاع عن اختيار غيثنر مارك باترسون ليصبح رئيس موظفي وزارة الخزانة، على الرغم من أن الرجل عمل مع مجموعة لوبي قبل فترة وجيزة. وكان باراك أوباما أعلن في وقت سابق أن أي شخص عمل مع مجموعة ضغط (لوبي) خلال السنتين الأخيرتين لن يشغل موقعاً في إدارته. وكان روبرت غيبس المتحدث الصحافي باسم البيت الأبيض قال بدوره «القرار من القوة بحيث لا توجد إدارة في التاريخ الأميركي قامت بذلك». وكان باترسون نائب رئيس مؤسسة غولدمان عمل (لوبي) حول عدد من المسائل في إطار عمله ضمن المجموعة وكان ذلك كافياً طبقاً للضوابط التي حددتها إدارة أوباما لكي لا يحصل باترسون على الوظيفة إلا إذا حصل على استثناء من البيت الأبيض. ولا يعرف لماذا شمل الاستثناء باترسون وقبل ذلك مسؤولين اثنين في وزارة الدفاع ووزارة الصحة. ومن سوء حظ غيثنر أنه انطلق سيئاً أيضاً في جانب النزاهة. الرجل لم يكن نزيهاً بما فيه الكفاية، بعد أن اكتشف أنه تملص من أداء ضرائب شخصية تراكمت حتى بلغت 34 ألف دولار، وكان يفترض أن يقوم بذلك بنفسه لأنه طبقاً للقانون الأميركي موظف ظل يعمل لحسابه وليس لحساب شركة أو مؤسسة، منذ عام 2001. خلال جلسات الاستماع في الكونغرس أبانت وثيقة عرضت على لجنة المالية أن غيثنر لم يسدد 35 ألف دولار مستحقة للضرائب منذ عدة سنوات، على الرغم من أنه تعهد بتسديد هذه الضرائب وكتب ذلك في إقرار ضرائبي، وهي ضرائب على مداخيل شخصية كانت ضمن إقراراته بمداخيله خلال عام 2006، وتبين أنه لم يسدد ضرائب كانت مستحقة خلال عامي 2001 و2002، كما أنه لم يسدد مبلغاً إضافياً للضرائب عن عامي 2003 و2004 يقترب من 15 ألف دولار، علماً بأن راتبه الشهري بلغ في ذلك الوقت 34 ألف دولار شهرياً، وبسبب هذه المشكلة جاءت نتيجة التصويت لتثبيت غيثنر في منصبه خلال الجلسة العامة في مجلس الشيوخ بأغلبية عادية، حيث صوت 60 معه و34 ضده، وقال المعارضون إن ما قاله غيثنر بأن عدم تسديده الضرائب عندما كان يعمل في وظيفة رفيعة في صندوق النقد الدولي «خطأ غير مقصود» يعد تفسيراً غير مقنع ولا يمكن القبول به. واضطر غيثنر في وقت لاحق أن يسدد ما بذمته من ضرائب مع غرامة عن التأخير بلغت في حدود 15 ألف دولار. وقال في معرض الدفاع عن نفسه إن ذلك حدث فقط كجزء من «حالة إهمال» عادية، وقال إنه يعتذر لأعضاء اللجنة عن الوقت الذي تم تبديده في بحث هذا الأمر. ولم تكن قضية الضرائب هي مشكلة النزاهة الوحيدة التي لطخت سجله الشخصي، بل اتضح كذلك أن خادمة في منزله تعمل معه بدون عقد منذ ثلاثة أشهر. وعلى الرغم من الانعكاسات السلبية لمسألة «الخطأ غير المقصود» فإن هناك من نوه بكفاءة غيثنر، وفي هذا السياق قالت السيناتور الجمهورية ليندساي غراهام «غيثنر يتمتع بكفاءة عالية وهو الشخص المناسب لوزارة الخزانة»، في حين قال السيناتور أورين هاتش «ارتكب غيثنرخطأ يمكن لأي بشر أن يرتكبه». مشيراً إلى أنه أفضل شخص يمكن لإدارة باراك أوباما أن تعينه في منصب وزير الخزانة. لكن بالمقابل طلب معلق شبكة تلفزيون «فوكس نيوز» اليمينية، جيرالدو ريفيرا، من غيثنر، حتى بعد أن تم تثبيته من طرف الكونغرس، أن ينأى بنفسه عن المنصب بسبب مشكلة المصداقية والمسؤوليات الجسيمة التي تقع على عاتق وزير الخزانة. لكن لأن أوباما يريد أن يستفيد من ألمعية تيموثي غيثنر وذكائه الاقتصادي الحاد فقد دافع عنه حتى يتم تثبيته، وقال عن تملص غيثنر من تسديد الضرائب «هذه أخطاء عادية تحدث»، واعتبرت وقتها هذه بمثابة إشارة من أوباما إلى أنه يريد تثبيت وزير الخزانة في كل الأحوال. شرع غيثنر الآن في تطبيق سياسة باراك أوباما، وعلى الرغم من اللغط الذي أثير حول تعيينه مارك باترسون فقد بدأ يحاصر جماعات الضغط المالية (لوبيات)، إذ صدرت إجراءات مشددة تسد الطريق أمام هذه الجماعات للاستفادة من الأموال التي رصدت للخروج من الأزمة الاقتصادية. وقال غيثنر «دافع الضرائب الأميركي يريد أن يتأكد أن أمواله استعملت بفعالية من أجل استقرار النظام المالي في البلاد». وتفرض القواعد الجديدة إجراءات صارمة تمنع الاتصال بين مسؤولين حكوميين سيشرفون على إنفاق خطة الإنقاذ ومجموعات الضغط. وذلك للتأكد من أن القرار بتمويل أي مشروع عن طريق خطة الإنقاذ تم نظراً للحاجة إليه وليس لأن مجموعة ضغط هي التي ضغطت لتنفيذه. هناك كثيرون يقولون الآن في واشنطن إن وجود شخصيات مثل تيموثي غيثنر في إدارة باراك أوباما يضع شكوكاً حول ما إذا كان شعار «التغيير» الذي رفعه أوباما خلال حملته الانتخابية، أصبح له مدلول عملي. وهم يعتقدون أن أوباما جاء بمعظم الذين عملوا مع إدارة بيل كلينتون، وبالتالي فإن الإدارة الحالية ما هي إلا «طبعة منقّحة» من إدارة كلينتون. وكان تيموثي غيثنر عمل وكيلاً لوزارة الخزانة مكلفاً بالعلاقات الدولية في عهد كلينتون. ملامح تيموثي غيثنر (48 سنة) ملامح أميركية عادية، لكن تبدو عليه أصول متوسطية. وجه ثعلبي مستطيل. عينان واسعتان، تنظران بعيداً عندما يفكر. غالباً ما يخرج جزء من لسانه وهو يستمع للآخرين. شعر متدرج الألوان ما بين الرمادي والأشقر مع بياض وسواد متداخل. أذنان كبيرتان. ليس طويلاً وليس قصيراً. صوته بلا جاذبية. يسير إلى هدفه بصبر وتمهل. دخل إدارة أوباما باعتباره صاحب مشروع للإنقاذ الاقتصادي، لكنه ومنذ اليوم الأول دخل وزارته المجاورة، بل الملتصقة بالبيت الأبيض، انهمك في وضع الخطط، بل انشغل حتى بالتفاصيل. هو يراهن على أن الاقتصاد الأميركي سيسترجع عافيته عام 2010، لكن أوباما يحثه ويستعجله، لذلك قال له يجب أن تعمل ضعف طاقتك. يقول آرثر بيرغر الذي عمل مع تيموثي غيثنر عندما كان وكيلا لوزارة الخزانة في عهد كلينتون «تيموثي لا يتخذ قراراً إلا بعد أن يستمع للقريبين منه، ويسألهم حول ما يقترحون، لكنه عادة لا يوسع دائرة استشارته» ويضيف بيرغر لـ «الشرق الأوسط» عقليته مثل عقلية رجال البنوك مع أنه ليس مصرفياً، يريد في نهاية كل يوم أن يحسب الخسائر والأرباح ليستعد لليوم التالي، لذلك أعتقد أنه سيعتمد حلولاً فورية وقصيرة الأجل لمشاكل عويصة. ويستطرد قائلا «هو يميل كذلك إلى أن يعالج الأمور في إطارها الواسع ويتعدى تداعياتها الملموسة، وذلك بمنح الأزمة الاهتمام والتركيز المباشر والكافي». كان آخر منصب يتولاه تيموثي غيثنر قبل أن يأتي إلى العاصمة ليتولى وزارة الخزانة، هو رئاسة البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، لذلك قالت وكالة «بلومبيرغ» الاقتصادية المتخصصة في أخبار المال والأعمال «غيثنر يعرف جيداً خبابا شارع وول ستريت (شارع المال في نيويورك)، كان هناك وقت الصعود كما كان هناك وقت الهبوط عندما راحت الشركات والمؤسسات تتهاوى مثل صناديق الكرتون، ظل كتوماً حول أسباب الأزمة، إنه من النوعية التي يفضل الرئيس باراك أوباما العمل معهم؛ يتحدثون قليلا ويعملون كثيراً«. بعض الصحف الأميركية قالت إن غيثنر جاء إلى واشنطن ليشرف على إنفاق أكبر مبلغ في تاريخ الحكومات الفيدرالية، أولا مبلغ 350 مليار دولار الجزء المتبقي من خطة إنقاذ البنوك والشركات في شارع وول ستريت، ثم إنفاق مبلغ 825 مليار دولار التي طالب بها أوباما الكونغرس لإنعاش الاقتصاد خلال سنتين. ظلت دائماً رحلات غيثنر من نيويورك إلى واشنطن، ومن واشنطن إلى نيويورك، لكن الرحلة هذه المرة ليست مثل كل الرحلات. يعتقد تيموثي غيثنر، مثل سلفه الجمهوري هنري بولسون، أن وزارة الخزانة تحتاج إلى صلاحيات جديدة، حتى تستطيع أن تنطلق في معالجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة، التي بدأت الشرائح المتوسطة والفئات محدودة الدخل تتأثر بها، مما خلق لأول مرة تزايد عدد الأشخاص الذين يعلنون الإفلاس في الولايات المتحدة، ليس من أجل التخلص من منازلهم التي عجزوا عن تسديد أقساطها، بل من أجل التوقف حتى عن تسديد أداءات بطاقات الاقتراض (كريدت كارد). ووصف هنري بولسون تيموثي غيثنر الذي رشحه باراك أوباما منذ 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لتولي حقيبة الخزانة «رجل شاب وموهوب موهبة غير عادية يفهم الحكومة والعمل الحكومي كما يفهم أيضاً الأسواق وحركيتها«. الفهم شيء مطلوب، لكن هل يستطيع بهذه الميزة أن يحرك اقتصاديات بلاد يقال إنها إذا عطست أصيب العالم بالزكام. أميركا الآن مصابة بمرض متفاقم، تيموثي غيثنر هو الطبيب. ولا أحد يعرف ما إذا كان سيبدأ بالعمليات الجراحية أم بالعقاقير. هو الآن يسأل المريض الكثير من الأسئلة وبعدها ستبدأ رحلة التحاليل الطبية. انتظروا سنة وسنرى ماذا سيحدث للمريض.