حرب المقطورة.. والتريلا

سائقو الشاحنات في مصر يجوبون 47 ألف كيلومتر من الطرق.. ويشكلون 90 % من حركة النقل.. وسبب أساسي لحوادث الطرق

ارتفاع معدلات الحوادث في مصر كان السبب في إصدار قانون المرور الاخير (أ.ب)
TT

«وحوش الأسفلت».. وصف يطلقه المصريون على سائقي مقطورات الشاحنات الكبيرة، ويبدو أن هذا الوصف لا يأتي من فراغ، بل فرضه إيقاع العمل الشاق لهؤلاء السائقين، الذين يجوبون البلاد من أقصاها إلى أدناها، ويعقدون يوميا صداقة محفوفة بالمخاطر مع مساحة من الأسفلت تبلغ نحو 47 ألف كيلومتر من طرق البلاد السريعة.

هذه الأجواء، وغيرها انعكست على الإضراب الذي نفذه الأسبوع الماضي سائقو المقطورات والشاحنات بمصر، لكن مع تداعياته التي ضربت واقعهم اجتماعيا واقتصاديا في مقتل، انكمش الوحش قليلا. وكما يقول الأسطى محمد مستهلا حديثه: «هات من الآخر إحنا حنخش السجن»، فهو يرى أن ما يحدث من إجراءات حكومية لتطبيق قانون المرور الجديد، يصب في النهاية في مسار واحد، يلقي به إلى السجن وإلى جواره ملاك وسائقو 40 ألف مقطورة تجري بطول البلاد وعرضها.

يتحرك «وحش الأسفلت» بحمولة تصل في بعض الأحيان إلى 70 طنًا وإلى جواره سيارات صغيرة، ترمقه بمهابة، لكن ذلك لا يمنع من إرسال تحية إلى ذلك الوحش المعدني الضخم عبر بوق السيارة الصغيرة، ليرد عليه بتحية تصم الآذان أحيانًا ولكن الاثنين يمضيان في طريقهما كل إلى وجهته المبتغاة. قفزت قصة المقطورات والشاحنات في مصر إلى الواجهة بعد الإضراب الأخير الذي نفذه السائقون وتسببوا في إيقاف حركة شحن البضائع داخل البلاد وحتى خارجها المتوجهة إلى ليبيا والسودان، والذي يمثل النقل البري العصب الأساسي لها بنسبة تتجاوز أكثر من 90% من عملية نقل البضائع في مصر.

الأسطى محمد الذي يقود سيارته لأكثر من 18 عاما متواصلة تقريبا زار خلالها كل طرقات مصر والسودان وليبيا وهو أحد المتضررين. يقضي في رحلته أكثر من شهر إذا كان في رحلة خارجية، ونصف هذا الوقت أو أقل قليلا إذا كان في رحلة داخلية، ويروي أنه نقل خلال رحلاته هذه تقريبا كل أنواع البضائع تقريبا.

قبل الصيف الماضي لم تكن لدى الأسطى محمد مشكلة، لكن مع تطبيق قانون المرور الجديد أصبحت لديه مشكلة، فالقانون الذي سيمنع مع عام2011 سير السيارات النقل بمقطورة لم يعطه أي بديل لتحويل سيارته النقل إلى تريلا، حيث قلص القانون فترة السماح لذلك التحويل إلى سنتين بدلا من 4 سنوات، وذلك على إثر حادث مأساوي وقع على طريق مرسى مطروح الساحلي كان سببه سيارة نقل بمقطورة، وقتها تقدم عضو مجلس الشعب كمال الشاذلي بطلب للتعجيل بتطبيق القانون ليسري بدءا من 2011 بدلا من 2013 حسبما كان مقررا له، لكن السائقين قالوا إن إجراءات تنفيذ القانون بدأت بالفعل ولم تسمح السلطات بإعطاء تجديدات للتراخيص التي انتهت صلاحياتها هذا العام كما هو معتاد لمدة 3 سنوات، بل اقتصرت مدة تجديدها حتى عام 2011، أي لعامين فقط.

والفرق بين «التريلا» و«المقطورة» - حسب الأسطى محمد - كبير، فـ «التريلا» هي المعروفة باسم شاحنة وهي عبارة عن قاطرة تشد وراءها ذيلا يتم تحميل البضائع فوقه، لكن المقطورة عبارة عن سيارة نقل مستقلة ومربوط بها جزء آخر يتم تحميل البضائع فوقه مرتبط بالسيارة الأصلية عبر مجموعة من الجنازير، وخطاف وأسلاك تتحكم بإيقافه فضلا عن 3 من المسامير (تعرف باسم «بنز»)، حجم كل منها 65 ملي، في حين أن «التريلا» أو الشاحنة يربطها بذيلها «بنز» واحد فقط حجمه 50 ملي.

يقول الأسطى محمد إن عوامل الأمان في المقطورة أكثر من «التريلا» رافضا بذلك الأرقام التي تتحدث عن أن أحد أهم الأسباب في حوادث الطرق تقف وراءها السيارات المقطورة. فحسب إحصائية لوزارة النقل فإن من بين 1421 حادثة طريق في عام 2007 تسببت عربات النقل الثقيل وحدها في 1364 حادثة منها خاصة على الطرق السريعة. لكن الأسطى محمد يدافع عن المقطورة، قائلا «دي حتة حديد مش هي السبب، الغلط من السواق، ما تجيش تقول لي هي السبب»، ويسرد غاضبا «الناس بتموت في القطر وبتموت من الموتوسيكل (الدراجة البخارية)، وبتموت وهي واقفة.. وبتموت من الزحمة.. وبعدين ما الناس ماتت في العبارة وفي البحر، هل ألغوا العبارات»؟! وجهة نظر الحكومة في تقليص فترة السماح للمقطورات منطقية ولها وجاهتها ونُص عليها في قانون المرور الجديد الذي اعتمده مجلس الشعب حيث أثبتت الإحصاءات أن 30% من حوادث الطرق سببها سيارات النقل بمقطورة التي تشكل ما يقرب من 8% من إجمالي حركة النقل داخل الجمهورية، لكن المشكلة من وجهة نظر الأسطى محمد هي عدم إيجاد بديل، فالحكومة من وجهة نظره قررت وقف المقطورات من دون توفير بديل له، ويشير إلى أن ثمن السيارة بالمقطورة حوالي 400 ألف جنيه، ولا يوجد سائق واحد أو حتى أكبر مُلاك المقطورات يستطيع دفع الثمن مباشرة، ولكن عن طريق التقسيط.

ويشير إلى انه ملزم بدفع 8 آلاف جنيه كأقساط شهرية، إضافة إلى دفع تكاليف صيانة السيارة والعاملين، إضافة إلى دفع مصروفات بيته، ويشير إلى أن كل هذه الأعباء جاءت الحكومة وتضيف عليها عبئا جديدا، إذ تطالبه بتحويل المقطورة إلى تريلا، ما يعني أنه يخسر حوالي 250 ألف جنيه منها 100 ألف جنيه رسوم تحويل المقطورة إلى شاحنة، و150 ألفا فرق الثمن الحقيقي بين التريلا والمقطورة، فضلا عن خسارة غير معلومة بعد التوقف الذي سيحدث أثناء عملية التحويل. ويرى الأسطى محمد أن أفضل حل هو إلغاء المواد الخاصة بإلغاء المقطورة والسماح باستمرار سيرها، لكن مع تشديد العقوبات على تحميل السيارات بحمولات زائدة يرى أنها أحد الأسباب الحقيقية وراء الحوادث، فضلا عن تعاطي بعض السائقين للمخدرات، وينبغي أن تشدد العقوبات بحيث لا يسمح لأي سائق يتعاطى المخدرات بالسير مرة أخرى.

أما الأسطى ماهر وهو يمتلك أسطولا من السيارات النقل في منطقة الدقهلية في وسط الدلتا، فيرى أن الطرق في مصر ليست مصممة لحمولة التريلا باستثناء القليل من الطرق الرئيسية، ومن الصعب دخول التريلا إلى المراكز والقرى عند توصيل حمولتها من الأسمدة لبنوك القرى والجمعيات الزراعية وغيرها، حيث تقف خارج المركز ويتم تحويل الكميات بسيارات صغيرة إلى داخل القرى والمراكز وإلى بنوك القرى، على خلاف المقطورة التي يمكن أن يتم فك الجزء الخلفي منها ونقل الكمية المطلوبة بالجزء الأمامي فقط، ويتساءل كيف يأتي القانون ببساطة، ويريدنا التخلص منها وبيعها خردة بملاليم ولصالح من يكون هذا الخراب، حتى مع ما يطرحونه من حلول، كيف أسدد أقساط السيارات التي أشتريها وفي الوقت نفسه أسدد رواتب السائقين، إضافة إلى الصيانة، وفضلا عن كل هذا الآن مطلوب مني أن أسدد أقساط تحويل المقطورة إلى تريلا.. هذا حرام. وبعد 5 أيام متواصلة من الشد والجذب، وقفت خلالها حركة الشحن تقريبا داخل البلاد، لتتوقف حركة نقل السكر والأسمدة بنسبة ???، وتكدس إنتاج مصانع السماد، وأصيبت حركة نقل مواد البناء بالشلل، كما تكدست البضائع الحاويات في ميناء دمياط، واختفى الأسمنت من أسوان، وتوقفت حركة النقل على كوبري القنطرة العلوي والفردان الحديدي، وعلى طول المجرى الملاحي لقناة السويس.

لكن مع تدخل نواب من الحزب الوطني الحاكم لحل الأزمة، انتهى الأمر إلى الاتفاق مع وزارة الصناعة المصرية على تعديل المقطورات، ومع وزارة الداخلية على السماح بترخيص السيارات بعد تعديلها، والعمل على توفير قروض طويلة المدى ومنخفضة الفائدة للسائقين وملاك السيارات.

ويثمن النائب محمد القيراني على هذه الخطوات قائلا: يمكن القول أن «الأزمة انتهت على قاعدة لا غالب ولا مغلوب»، ويشير إلى أنه رغم التحذيرات التي كان أطلقها النواب أثناء مناقشة القانون، فإنها حدثت بالفعل من خلال الإضراب بعدما تجاهلت الحكومة إيجاد بديل لهؤلاء الناس.

ويشير إلى أن الحكومة تحركت بعد الإضراب وكان من الأفضل حل المشكلة في بدايتها لا أن يتم الانتظار حتى تتفاقم المشكلة، وبعدها تستمع الحكومة للمطالب التي كنا نناشدها بالاستماع إليها، فما الضير من الاستماع إلى وجهة النظر من البداية. أما عن ملامح الاتفاق فيقول: «اتفقنا على عمل إحصاءات دقيقة للسيارات المقطورة والتي يصل عددها إلى حوالي 40 ألف سيارة ومعرفة الوقت الذي ستستغرقه لتحويلها لكي تتناسب مع قانون المرور، وإذا ثبت عدم كفاية المدة الواردة في القانون التي تصل إلى سنتين لإنهاء العمل بالمقطورات فلن يكون هناك مانع في زيادتها لمدة أو لمدد أخرى».

ورغم مظاهر احتواء الأزمة فإنها تأتي في سياق أزمات عدة مرت بها الحكومة المصرية، على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، بدءا من أواخر عام 2006 مع أولى إرهاصات موجة الإضرابات الجديدة التي دشنها عمال المحلة الكبرى، ليبدأ العام 2007 بسلسلة أخرى من الإضرابات تميزت بالتنظيم والاستمرارية ولم يخل شهر من أشهر العام من إضراب أو اعتصام في مختلف ربوع مصر. حيث شهدت البلاد العديد من المظاهرات والاعتصامات التي ضربت أكثر من 300 مصنع تضم ما يزيد على 150 ألف عامل أضرت بصورة سلبية بالاقتصاد المصري، وتسلم عام 2008 الراية أيضا باحتجاجات أصبحت أكثر تنظيما ودعوة لإضراب شمل البلاد كافة، وهو ما حدث مع إضراب 6 أبريل (نيسان) من عام 2008، حيث بلغت الإضرابات ذروتها في أبريل (نيسان) حين اشتبك آلاف العمال بمدينة المحلة الكبرى الصناعية مع الشرطة، وقتل شخصان على الأقل وأصيب أكثر من مائة بجروح، وحالت الحكومة دون تنظيم إضراب ثان بعدما زادت الرواتب بنسبة 30 في المائة، رفعت على إثرها أسعار الوقود والسلع الأساسية، كما فرضت ضرائب على الشركات العاملة في المناطق الحرة في إطار إجراءات لتوفير موارد لتمويل زيادة الرواتب ما أدى إلى تفاقم التضخم. ولم يكن إضراب الصيادلة الأخير بمنأى عما يحدث في البلاد، ورغم أنه تم احتواؤه في يومه الثالث، إلا أن ذلك الإضراب كان أكثر الإضرابات نجاحا وأقلها جماهيرية، فالمواطن العادي كان يضايقه صعوبة حصوله على الدواء، فرغم علم المواطنين بالإضراب إلا أن كثيرين كانوا متضايقين منه لأن الدواء يمس المرضى وبعضهم يحتاجه بصورة فورية، ولا دخل لهم بمشكلة بين الحكومة والصيادلة. جاءت الأزمة على خلفية قيام مصلحة الضرائب بإلغاء اتفاقية كانت عقدتها مع الصيادلة عام 2005 بشأن أسس المحاسبة الضريبية للصيدليات وألغتها من طرف واحد أخيرا، ويرفض الصيادلة رغبة الحكومة بتحصيل ضرائب كاملة من كل صيدلية يزيد رأس مالها على 50 ألف جنيه (نحو 9 آلاف دولار).

ومع استمرار ضغوط الصيادلة وافقت الحكومة ممثلة في وزارة المالية ومصلحة الضرائب على عدم تطبيق أي ضريبة بأثر رجعي والتجاوز عن السنوات السابقة، من 2005 إلى 2008، على أن يتم عقد اتفاق للمحاسبة الضريبية عن العالم الحالي (2009) بين نقابة الصيادلة ووزارة المالية يتضمن دراسة صيغة ملائمة لإقرار ضريبي يراعي طبيعة عمل الصيدليات. وفتحت الصيدليات أبوابها لاستقبال المرضى والمواطنين في جميع أنحاء الجمهورية، بعدما قدر مراقبون خسائر الإضراب بأنها تجاوزت 100 مليون جنيه، ويبلغ عدد الصيدليات الخاصة في مصر نحو 40 ألفا، تضم حوالي 100 ألف صيدلي، ويعتمد عليها المرضى سواء في صرف الأدوية أو استشارات طبية.

ومن جهته يربط الدكتور عمرو الشوبكي المحلل السياسي والباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية ما بين إضراب الصيادلة وأصحاب المقطورات والفوز الأخير الذي حققه المستشار أحمد الزند المحسوب على الحكومة في انتخابات نادي القضاة. ويرى الشوبكي أنه في الوقت الذي تستحوذ فيه الحكومة على النقابات، تأتي تلك الإضرابات الفئوية. ويتوقع الشوبكي أن تشهد البلاد خلال الفترة المقبلة مزيدا من الإضرابات والاحتجاجات، وأنها ستصبح جزءا من حياة المصريين حيث أنها (الاحتجاجات) أصبحت بديلا لضعف الأحزاب وسيطرة الحكومة على النقابات. لكن الشوبكي يرى تطورا في تعامل الحكومة مع الأزمات سواء في أزمة المقطورات أو في أزمة الصيادلة، مشيرا إلى أنها اكتسبت خبرة فنية في التعامل وتنوعا في أساليب التعامل مع الأزمات سواء من خلال استخدام كارت «الأمن» أو كروت الضغط الأخرى، أو الاستجابة لبعض المطالب.