ني هاو.. في السودان

معاهد لتعليم أفكار كونفوشيوس واللغة الصينية تمتد من أفريقيا إلى العالم العربي.. لكن الطريق ما زال طويلا

المشروعات الصينية باتت في كل مكان في السودان («الشرق الأوسط»)
TT

في منزل «منزوٍ» بضاحية «الرياض» الفاخرة في العاصمة السودانية الخرطوم، تجمع عدد من الموظفين، السودانيين والصينيين، في إحدى الشركات الأجنبية بالسودان. كانوا يستكملون تعلم رياضة «اليوجا»، أو ما يعرف بفن التأمل، وهي واحدة من أساسيات الثقافة الـ«كونفوشيوسية» التي تنتشر في اغلب دول شرق آسيا. عندما تتخرج هذه الدفعة خلال أسابيع من الآن، سيتهيأ المكان لاستقبال دفعة جديدة. فتعلم كل ما هو صيني بات ظاهرة عادية في السودان. ويقول عز الدين عبد الله، وهو سوداني مقيم في الخرطوم، وأحد طلاب هذه «المدرسة» إنه سيتخرج بفائدتين: ممارسة فن اليوجا، والتحدث باللغة الصينية، من خلال الاحتكاك اليومي مع الصينيين كطلاب مع معلمهم لرياضة اليوجا. ويضيف عز الدين عبد الله لـ«الشرق الأوسط»: «نحن نتلقى الدروس في المكان، خلال ساعتين في اليوم، أحيانا نتحدث بالعربية فيتعلم المعلم، وكثيرا ما يتحدث المعلم باللغة الصينية فنتعلم نحن منه اللغة الصينية». ويمضي قائلا: «الآن بوسعي أن أقول أكثر من جملة (ني هاو)، أي كيف الحال؟ باللغة الصينية». ويحصي المتابعون للشأن الصيني في السودان عدد 8 مراكز صينية غير حكومية في العاصمة السودانية، اثنين منها في السوق العربي الشهير في قلب الخرطوم، متخصصة في تدريس اللغة الصينية، وفقا للمناهج الصينية. ويقول احد المشرفين على هذه المراكز إنهم يجدون التشجيع من السفارة الصينية بالخرطوم ومن الشركات الصينية العاملة في السودان. ويشير إلى أن هناك رغبة كبيرة وسط السودانيين لتعلم اللغة الصينية، ولكنه يستدرك في حديثه لـ«الشرق الأوسط» قائلا إن هذه الرغبة تصطدم كثيرا بصوبة تعلم اللغة الصينية في حد ذاتها. ويتابع: «استقبلت في الدفعة الأخيرة 50 دارسا ولكن بعد أسبوعين تقلص العدد إلى 18 دارسا، والسبب صعوبة تعلم اللغة الصينية». ثم تابع «بنهاية العام الدراسي الحالي تتخرج 7 دفعات من قسم اللغة الصينية في جامعة الخرطوم، ووصل عدد طلاب القسم بين 60 إلى 70 طالبا في كل مستوى من المستويات الأربعة التي يحصل بنهايتها الطالب على درجة البكالوريوس، في اللغة الصينية». ويحصل السودان الآن سنويا على 10 منح دراسية لنيل درجة الماجستير والدكتوراه في اللغة الصينية. ويقول المسؤولون في القسم إن الإقبال متزايد من عام إلى آخر في القسم الذي أنشئ عام 1994، أي مع بداية دخول العلاقات بين السودان والصين مرحلة مشروعات إنتاج النفط المشتركة. غير أن علاقات البلدين ووجود الصين في أفريقيا قفز قفزات هائلة منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. وقبل نحو أسبوعين كان الرئيس الصيني هو جينتاو في جولة جديدة لأفريقيا، تعتبر الرابعة له منذ توليه الحكم في الصين عام 2003 شملت 4 دول أفريقية هي: مالي والسنغال وتنزانيا وموريشيوس، بهدف تعزيز أواصر التعاون والعلاقات بين الصين وهذه الدول الأفريقية. وحسب مصادر لـ«الشرق الأوسط» فإن الحكومة الصينية وافقت في الأسابيع الأخيرة على فتح مركز ثقافي صيني في السودان، وذلك بعد اتصالات استمرت لعدة أعوام بين الحكومتين الصينية والسودانية، والهيئة العالمية السودانية للصداقة الشعبية، وهى كيان سوداني شبه رسمي. كما أقيم في كينيا مؤخرا احتفال كبير حضره المسؤولون والجالية الصينية في كينيا بمناسبة تخريج الدفعة الثالثة من «معهد كونفوشيوس» بالعاصمة الكينية نيروبي الذي جرى تأسيسه عام 2005، وكان يمثل المعهد الثاني من نوعه بعد معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة. ويشير تقرير من الحكومة الصينية عن الظاهرة «إلى انه بجانب المركز الثقافي الصيني في القاهرة، أنشأت بعض الجامعات المصرية أقساما لتدريس اللغة الصينية في السنوات الأخيرة، مثل جامعة القاهرة، وجامعة الأزهر، وجامعة عين شمس».

وتضم الجامعات الثلاث معا حاليا أكثر من 700 طالب يتعلمون اللغة الصينية، وفى الشهر الماضي، وقع مكتب المجلس الدولي للغة الصينية خطاب نوايا مع جامعة القاهرة للاشتراك في إنشاء معهد كونفوشيوس آخر في القاهرة. ويتحدث التقرير الصيني حول أن التلهف على تعلم اللغة الصينية ليس في شرق أفريقيا وكينيا وحدهما، وإنما أيضا في بعض الدول الأفريقية الأخرى. ويقول في هذا الخصوص إن المجلس الثقافي الصيني في القاهرة بدأ في إقامة دورات دراسية مدتها ثلاثة أشهر لتعلم اللغة الصينية منذ سبتمبر 2003 لتعليم الدارسين بعض أساسيات اللغة الصينية. ويرصد التقرير أن معهد كونفوشيوس بجامعة «ستيلينبوش» في جنوب أفريقيا، اختتم مؤخرا ما يعرف بـ«شهر الصين»، وهو حدث احتفالي بالثقافة الصينية، وينوه إلى أن جامعتين و20 مدرسة في جنوب أفريقيا بدأت دورات في تعليم اللغة الصينية، كما تم خلال السنتين الماضيتين إنشاء معاهد كونفوشيوسية في عدد من الدول الأفريقية من بينها رواندا، وزيمبابوي، بينما تسعى بعض الدول الأفريقية الأخرى لإنشاء مثل هذا المعهد في جامعاتها وكلياتها، وفقا لمكتب الصين الوطني لتعليم اللغة الصينية كلغة أجنبية. وتشير إحصاءات واردة في التقرير صادرة عن وزارة التعليم الصينية إلى أن هناك أكثر من 8 آلاف طالب أفريقي يتعلمون اللغة الصينية، وأن هذا العدد في ازدياد. وقد افتتحت حوالي 120 مدرسة في 16 دولة أفريقية دورات لتعليم اللغة الصينية في العامين الماضيين من أجل سد الحاجة المتزايدة للطلاب الأفارقة، وأرسلت الصين حوالي 200 مدرس إلى أفريقيا. ويكشف تقرير أفريقي بمناسبة مرور 50 عاما على العلاقات الأفريقية الصينية أن الصين قدمت منذ ذلك التاريخ وحتى الآن حوالي 18 ألف منحة دراسية لصالح 50 دولة أفريقية. وطبقا للتقرير فإن الصين ساعدت أيضا دولا أفريقية، من بينها الكاميرون، ومصر، وموريشيوس في بناء معاهد لغوية لتعليم اللغة الصينية، وزودتها بالكتب الصينية أيضا. ومن بين 130 معهدا كونفوشيوسيا في العالم الآن، وأكثر من 200 جهاز قدمت طلبات لفتح معاهد كونفوشيوس لها. يقول التقرير إن أكثر من 55 من هذه المعاهد منتشرة في أفريقيا، خاصة غرب أفريقيا. وحسب آخر الإحصاءات فإن الصين تنفق أكثر من40 مليون دولار أميركي لتحرير وتعميم مواد تدريسية بشتى اللغات وإهداء كتب ومواد تدريسية مرئية وسمعية إلى هذه المعاهد وتدريب مدرسيها، ووضع المقر «دليل مديري معاهد كونفوشيوس»، و«شروط عمل المدرسين في معاهد كونفوشيوس»، وغيرها من اللوائح للعمل في المعاهد. وتجد أفريقيا نصيبا وافرا من هذا الدعم، خاصة في العقد الأخير. وفي هذا الخصوص قالت سونغ لي شيان أستاذة الجامعة الصينية ونائبة عميد «معهد كونفوشيوس» بجامعة نيروبي، إن هذه الإحصاءات تضيف إلى حقيقة واحدة، وهى أن «الولع بتعلم اللغة الصينية» يتزايد في أفريقيا مثلها مثل الأجزاء الأخرى من العالم. وأوضحت «أن تزايد شعبية تعلم اللغة الصينية دليل على ذلك، وأن التحدي أمام الصين هو كيفية الوفاء بهذا الطلب».

فيما يرى رئيس جامعة القاهرة ورئيس مجلس إدارة معهد كونفوشيوس الدكتور على عبد الرحمن يوسف أن التعاون بين جامعة القاهرة وجامعة بكين في إقامة معهد كونفوشيوس وسيلة ممتازة وفعالة للتبادل الثقافي والتعليمي بين مصر والصين.

وتتباين تفسيرات الخبراء حيال الموجة الثقافية الصينية باتجاه أفريقيا عبر المعاهد، ومراكز تعليم اللغة الصينية، وعبر البعثات الدراسية إلى الصين، غير أنهم يتفقون على أن نشر المصالح الصينية الاقتصادية التجارية في أفريقيا هي الدافع الأول الذي يحرك الحكومة الصينية في اتجاه فتح منافذ ثقافية صينية تترسخ عبر المعاهد الكونفوشيوسية «كما فعل الاتحاد السوفياتي لفترة طويلة إبان سطوة الدولة الشيوعية»، حسب قول أستاذ سوداني يدرس اللغة الصينية في جامعة الخرطوم كبرى الجامعات السودانية طلب عدم ذكر اسمه. لكن الخبير في الشؤون الصينية والأمين العام لجمعية الصداقة السودانية الصينية السر محمد نور يعتقد أن الأسباب قديمة، «فقط تجددت بصورة قوية مع التوجه الصيني الكبير في السنوات الأخيرة تجاه العالم الثالث خاصة دول الكاريبي وأفريقيا»، موضحا لـ«الشرق الأوسط» أن الأهداف الصينية القديمة المتجددة في هذا الخصوص تتمثل في الآتي: كسب الدول الأفريقية عبر جذبهم للانتماء بشكل من الأشكال إلى الثقافة الصينية، حماية توجهها نحو العالم الثالث بالنشاط الثقافي، وهناك هدف سياسي قديم متمثل في مساعدة شعوب هذه الدول على التحرر.

ويذهب في ذات الاتجاه الكاتب الغيني غينيا كوناكري المقيم في الخرطوم كمارا عباس، حيث يعتقد عباس في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن من شجع الصين على المضي في اتجاه نشر الثقافة الصينية في أفريقيا زعماء التحرر الأفريقي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وعلى رأسهم كوامي نكروما في غانا، وأحمد سيكتوري في غينيا، ومودي بوكيتا في مالي. وأضاف: «هؤلاء سمحوا للصين بنشر ثقافتها عبر هذه المعاهد وعبر البعثات التي تقدمها الصين للطلاب الأفارقة»، ولا يشك في أن التمدد الحالي للمعاهد الكونفوشيوسية سببه النمو الصارخ، على حد تعبيره، للنشاط الاستثماري والتجاري بين الصين وأفريقيا لصالح الأخيرة، حتى الآن. كما يرى أن الظاهرة الثقافية الصينية في أفريقيا يمليها «تزايد نفوذ الصين ومحاولتها الدوؤب لاكتساب مواقع جديدة وتسجيل النقاط إيجابيا لحسابها في القارة. في الوقت الذي تنكمش فيه الدول الغربية». وحسب الإحصاءات فإن حوالي 800 شركة صينية تعمل الآن بشكل واسع في أفريقيا، وتشير الأرقام إلى أن حجم التجارة بين الصين والقارة الأفريقية قد تجاوزت 100 مليار دولار في العام الماضي، بزيادة 45% خلال سنة واحدة. وتبلغ الصادرات الصينية إلى أفريقيا نحو 51 مليار دولار في عام 2008، بزيادة 36% بالمقارنة مع عام 2007. أما الواردات الصينية من القارة ومعظمها من المواد الخام خصوصا النفط فقد بلغت 56 مليار دولار. ويرى مراقبون في الخرطوم أن الصين أقامت في الأعوام الأخيرة من خلال الزيارات المباشرة أو عبر ممثلياتها الدبلوماسية في القارة الأفريقية سلسلة من الأنشطة الدبلوماسية والسياسية والثقافية بهدف تحقيق المنفعة المتبادلة والمشتركة. ويقول الدكتور عثمان الحسن عثمان رئيس قسم اللغة الصينية في جماعة الخرطوم إن «السودان والصين تهتمان بالعلاقات الثقافية وغيرها لدعم النشاط التجاري المشترك المتنامي بين البلدين»، وأضاف «أن الصين أصبحت تصرف على مثل هذه الأنشطة. وفي هذا الخصوص يقول جيان تابي مانغا، مسؤول معهد كونفوشيوس في الكاميرون وهو أحد المعاهد حديثة الإنشاء في القارة: إن تأسيس معهد كونفوشيوس سيفتح في الوقت نفسه طريقا جديدة لإجراء التعاون الاقتصادي والسياسي بين البلدين، فضلا عن انه «سيعرف المزيد من شعوب أفريقيا ومواطني الكاميرون بالثقافة واللغة الصينية بشكل أعمق».

وهناك من يلفت إلى أن هذه المعاهد ومجمل النشاط الثقافي بين أفريقيا والصين يفتح الباب أمام شعوب الدول الأفريقية للحصول على وظائف في الشركات والأنشطة الاستثمارية الصينية في القارة، كما يقول الخبير السوداني في الشؤون الصينية السر نور، موضحا أن السودان يحصل على أكثر من 15 منحة دراسية إلى الصين فلا شك أن المستفيدين منها ستكون لهم الأفضلية في الالتحاق بشتى الأنشطة الصينية أو المشتركة في البلاد. ولكن هناك من يرى أن منافع أخرى يسعى إلى تحقيقها من تشملهم ظاهرة تمدد المعاهد واللغة الصينية في أفريقيا. وتقول الدكتورة نعمة بن مناف «المغربية الأصل» أستاذة اللغات في «جامعة جوبا» السودانية لـ«الشرق الأوسط» إنها تتعلم الآن اللغة الصينية في معهد في الخرطوم بغرض معرفتها ومقارنتها مع اللغات الأخرى، التي تتعامل معها في الجامعة، وتعتبر أن معرفتها مهمة بالنسبة لها، وليس بعيدا عن الدكتورة نعمة، سيد محمد، أستاذ اللغة الانجليزية وأحد الذين يدرسون اللغة الصينية في أحد المعاهد في الخرطوم، الذي أوضح لـ«الشرق الأوسط» انه يسعى إلى تعلم اللغة لتطوير حيلته من اللغات ولأنه لاحظ أن اللغة الصينية أصبحت أقرب إلى العالمية بفضل الانتشار الصيني في السنوات الأخيرة عبر صناعاتهم واستثماراتهم. وأضاف: «أنا الآن أحمل جهاز موبايل صيني الصنع فإذا ما عرفت اللغة الصينية بالطبع أستطيع أن أتعامل معه بشكل أفضل وأكثر كفاءة». وأضاف «أنها فرصة لي لمعرفة الوضع المتميز للشعب الصيني من بين شعوب العالم». فيما يقول جاكوب لوكاكا، الذي تخرج من جامعة نيروبي بأن مثل هذه الدراسات في المعاهد تعد فرصا عظيمة تنشأ من الروابط الوثيقة بين كينيا والصين، وأنه من أجل اغتنام هذه الفرصة «عليك أولا أن تتعلم اللغة». ومع ذلك، يقول الخبراء إن معاهد كونفوشيوس موجودة في العالم، إلا أنها لا تزال تعاني من مشاكل نقص المدرسين والمواد التدريسية الملائمة لحياة وعادات وأفكار شعوب مختلف الدول. ويقول خبير سوداني طلب عدم ذكر اسمه؛ لحساسية وضعه، إن المعاهد الكونفوشيوسية ومراكز اللغة الصينية لم تحقق أهدافها حتى الآن، والسبب هو الصيني نفسه. وأضاف: «الصيني بالرغم من أن حكومته أعلنت الانفتاح وصار الاقتصاد الصيني من أكثر الاقتصاديات انفتاحا في العالم، إلا أن الإنسان الصيني حتى اليوم يتعامل بتحفظ شديد مع الأجنبي. وهذا ناجم عن حالة نفسية نشأت تجاه الأجنبي خلال عقود حكم الرئيس السابق ماو تسي تونغ. إلى حد ترى فيه السلطات مجرد التعامل مع الأجنبي خيانة كبيرة قد تعاقب عليه.. وإلى اليوم من الصعب أن تنشأ صداقة ممتدة بين الصينيين والآخرين إلا في نطاق الضرورة والمصلحة، ثم تنقطع عندما تنتهي». وعليه يرى الخبير أن المشوار ما زال طويلا أمام الصين لتقول إن رسالة معاهد كونفوشيوس ومركز اللغة الصينية في أفريقيا قد حققت رسالتها.