دانيال بيلمار.. الكتوم

بوجهه «المقفل» وقامته المربوعة الممتلئة وربطات عنقه التي يغلب عليها اللون الأحمر.. قاد التحقيق في جريمة اغتيال الحريري إلى المحكمة

TT

وقف القاضي الكندي دانيال بيلمار المدعي العام في محكمة جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وسط المسؤولين اللبنانيين أول من أمس، كان ينهي جولته الوداعية قبل مغادرته بيروت للالتحاق بعمله في المحكمة الدولية بصفته المدعي العام فيها. بقي بيلمار حتى آخر لحظات لقائه مع المسؤولين اللبنانيين مستمعاً أكثر من متحدث. كان هناك مسؤول لبناني يتحدث في الدقيقة عشر عبارات، فيما بيلمار يرد ربما بكلمة. والأمر طبيعي، فهو الذي يسأل ويستمع ويحلل ويقارن، وهو الذي يكتفي بأجوبة برقية عن أسئلة طويلة كانت توجه إليه. وبالرغم من طلبات الصحافيين وأسئلتهم، فإن بيلمار غادر ولم يشبع فضول أحد، لا سلباً ولا إيجاباً. اكتفى بابتسامته المقتضبة.

«يصعب اختراق ملامح القاضي الكندي دانيال بيلمار. وجهه مقفل»، كما يقول عنه مرجع قضائي نسق معه في الترتيبات القضائية لعمل لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. ويضيف: «يحرص بيلمار على عدم إعطاء أي انطباع عن عمله. الأمر طبيعي، فهو يعرف أن الملف حساس ويحتاج إلى الكثير من التركيز والجهد والحذر. كما يعرف أن التجاذبات السياسية بخصوص التحقيق ومن ثم المحكمة الدولية وصلت إلى ذروتها وانعكست صراعات مفتوحة على الساحة اللبنانية. من هنا يلتزم الحذر والتكتم. وكان متشدداً، إذا صح التعبير، بحيث لا يعكس في سلوكه ما يدل على أي معلومة تتعلق بالتحقيق، سواء قابل رئيساً أو وزيراً أو نائباً أو أياً كان». لكن المرجع القضائي، الذي تحفّظ على ذكر اسمه، أكد أن «بيلمار مجتهد ولديه أسلوب يختلف عن أسلوب سلفه سيرج براميرتس. لعله أقرب إلى الألماني ديتليف ميليس الذي كان المحقق الأول في القضية، ولكن بظروف مختلفة».

وقبل التوغل في الظروف اللبنانية والإقليمية للمحكمة الدولية التي بدأت ملامحها تتضح تمهيداً لانطلاقتها بعد غد، في الأول من مارس (آذار) المقبل، لنسلط الضوء على هذا المحقق الكندي الذي عينته الأمم المتحدة في منصب مدعي عام المحكمة، فنحاول اكتشاف ما يخفيه وجهه «المقفل» وقامته المربوعة الممتلئة وحرصه على تسريح شعره الكث وكأنه «يروضه» وأناقته البارزة في بذلاته وربطات عنقه، التي يغلب عليها اللون الأحمر. فقد ولد في مايو (أيار) 1952، وحصل على البكالوريوس في القانون من جامعة أوتاوا عام 1975 ثم مارس مهنة المحاماة.

عام 1976 عمل مدعياً فيدرالياً بمدينة مونتريال. وذاع صيته عندما تسلم محاكمة مغني البوب الكيبيكي كلود دوبوا بتهمة تهريب المخدرات. وحصل على الماجستير في القانون من جامعة مونتريال عام 1980. وفي عام 1983 عمل في قسم سياسات القانون الجنائي بوزارة العدل في العاصمة أوتاوا، وكلف بصياغة تعديلات القانون الجنائي قبل أن يعين رئيساً للقسم نفسه.

أما من عام 1993 حتى 2006 فقد تولى منصب مساعد وكيل النائب العام. وبهذه الصفة كان مسؤولا عن كل الملاحقات القضائية الفيدرالية في البلاد باسم النائب العام. وفي إطار عمله هذا كان يشرف على فريق عمل من 800 شخص يعملون بموازنة سنوية تبلغ نحو 85 مليون دولار. وبموازاة هذا المنصب كان بيلمار أيضاً مسؤولا عن مجموعة المساعدة الدولية في مجال استرداد وتسليم المجرمين بوزارة العدل. واهتم بمسائل مرتبطة بقضايا الأمن القومي. ولعب بيلمار دوراً في إنشاء اللجنة التنفيذية لجمعية المدعين العامين الدولية عام 1995. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2006 عين مستشاراً خاصاً لنائب وزير العدل، إلى أن تقاعد في 29 سبتمبر (أيلول) 2007.

وفي 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تعيين بيلمار رئيساً جديداً للجنة الدولية للتحقيق في اغتيال الحريري خلفاً للمحقق البلجيكي سيرج براميرتس. والمعروف عنه أنه خبير في القانون الجنائي وله «تجربة متينة كمدّعٍ عام». ويتمتع بـ«حس سياسي حقيقي». وهو «كفء وماهر بأهلية واقتدار. ولطيف ويتمتع بروح النكتة. إنه الرجل الصحيح للمهمة». من بيروت بدأت حكاية جديدة في سيرة الرجل المعروف عنه قدرته على إحباط كل محاولات الالتفاف التي واجهها ومن دون أي ضجيج إعلامي ليرسخ أسلوبه ويستعيد زخم التحقيق ويقوده باتجاه المحكمة الدولية.

إلا أن للحكاية خلفيات كانت قد بدأت في عام 2005 مع ميليس، الذي شكل اختياره رئيساً للجنة التحقيق صدمة إيجابية لدى البعض، وتحديداً فريق «14 آذار»، وصدمة سلبية لدى البعض الآخر وتحديداً فريق «8 آذار» الموالي لسورية.

فالمحقق الألماني كان وكيل نيابة رفيعاً في مكتب المدعي العام في برلين. وقد أشرف على التحقيق في قضية تفجير ديسكوتيك «لابيل» في برلين الغربية عام 1986، التي أودت بحياة جنديين أميركيين وامرأة تركية. وكان قد حقق مع سوريين متورطين في تلك القضية. أما قضية اغتيال الحريري فقد أعلن عن تورط مسؤولين أمنيين لبنانيين في جريمة الاغتيال. وأكد أن القرار لم يكن ليتخذ من دون موافقة مسؤولين أمنيين سوريين كبار، إضافة إلى تواطؤ نظرائهم في أجهزة الأمن اللبنانية. ولم يكتف بذلك، فقرن إعلانه هذا بتوصية إلى القضاء اللبناني بتوقيف أربعة من قادة الأجهزة الأمنية، هم المدير العام للأمن العام اللواء جميل السيد وقائد لواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج ومدير المخابرات في الجيش اللبناني العميد ريمون عازار. وأكثر من ذلك ذهب محققون من اللجنة بمؤازرة فرقة الفهود في قوى الأمن الداخلي لمداهمتهم وإلقاء القبض عليهم. بالطبع اشتد الهجوم على ميليس كما مورست الضغوط عليه وعلى الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان، ما دفع المحقق الألماني إلى التخلي عن الملف بعد توصله إلى استجواب خمسة مسؤولين سوريين في فيينا. وقد نقل عنه آنذاك إنه قال لهم: «يؤسفني أنني لن أستطيع توقيفهم» وذلك بموجب اتفاق «عسير» أُجري قبل موافقة الطرف السوري على مسألة الاستجواب هذه في فيينا وليس في بيروت كما كان يريد ميليس.

البلجيكي سيرج براميرتس خلف ميليس في رئاسة لجنة التحقيق. ولم يستكمل ما كان بدأه سلفه، بل عاد إلى نقطة الصفر، ودرس كل ما يتعلق بالجريمة ليصل إلى النتيجة ذاتها التي كان ميليس قد وصل إليها. بالطبع اعتبر حلفاء سورية أن براميرتس سلك نهجاً هادئاً وذکياً في قيادة عملية التحقيق ولم يحاول إثارة حفيظة السوريين الذين كانوا يعانون من أزمات ومشاکل كثيرة وعزلة دولية. وبالتالي تابعوا هجومهم على ميليس وقرائنه وأدلته وشهوده. وفي هذا المناخ ترك المحقق البلجيكي الملف ليتسلمه دانيال بيلمار، فينتهج سلوك براميرتس الهادئ ويعمل بدينامية ميليس المتحفز. وكأنه يسعى إلى تهدئة مخاوف من توترهم المحكمة. لكن تتابع الاغتيالات، وأهمها اغتيال الرائد في قوى الأمن الداخلي ومهندس الاتصالات وسام عيد المكلف التنسيق مع لجنة التحقيق الدولية مطلع العام 2008، تدل على أن مسعاه لم يفلح في تطمين من يجب طمأنتهم. إلا أن بيلمار واجه هذه الأحداث الإرهابية مؤكداً أنه «لم يتسلم مهمات التحقيق ليفشل» وأنه «ملتزم وفريقه مواصلة التحقيق والبحث عن الحقيقة في الجريمة الكاملة الصعبة والحساسة، ولكن القابلة للحل، لأنها تستحق المتابعة». وفور دراسته الملف قرر فرز فريق تحقيق خاص لكل جريمة من جرائم الاغتيال التي تتابع مسلسلها منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2004 لدى محاولة اغتيال النائب مروان حمادة. ولعل الإشارة الأولى إلى مدى حرصه برزت عندما شدد على عدم تسييس التحقيق أو عمل المحكمة لاحقاً، مؤكداً إصراره على مواجهة أي محاولة للتأثير عليه حتى ولو اضطر إلى الاستقالة.

بيلمار وصل إلى حيث أراد أن يحمل ملفه، فهو كان قد صرح أنه وجد في المهمة «تحدياً مثيراً» لإمكاناته وقدراته. وصل إلى المحكمة ذات الطابع الدولي التي يظن بعض اللبنانيين أنها ستقضي قضاءً مبرماً على الطرف الذي اتهموه باغتيال الحريري بعد الجريمة فوراً. أما البعض الآخر فيتخوف من أن مسارها سيدفع المتضررين إلى فتح باب جنهم على لبنان للحؤول دون وقوع «الزلزال» الذي سيؤدي إليه إعلان القرار الظني وكشف هوية المتهمين. وتبقى فئة ثالثة تروج أن المحكمة مسيّسة لمصلحة «الإمبريالية والاستكبار العالمي وما إلى ذلك» أو أنها لن تجد من تتهمه وبالتالي لن تؤتى ثمارها، أو أن تسوية ما تلوح في الأفق وتجعل العقاب، إذا تمت الإدانة بعد عشر سنوات، مقتصراً على الدرجة الثانية أو الثالثة من المرتكبين. وفي هذا الإطار نشرت إحدى صحف المعارضة خبراً مفاده أن «قطباً في الموالاة قال في جلسة خاصة: من المفيد لنا أن نطلق سراح الضباط الأربعة حتى لا يطلق سراحهم من لاهاي ونتهم بأننا أصبحنا نظام وصاية جديداً»! الضباط الأربعة لم يطلق سراحهم. وبيلمار الذي أنهى جولته الوداعية على المسؤولين اللبنانيين قبل مغادرته بيروت للالتحاق بعمله في المحكمة الدولية بصفة مدّعٍ عام فيها، لن يلتفت إلى هذا الصراع المستعر على خلفية المحكمة. فقد غادر ولم يشبع فضول أحد، لا سلباً ولا إيجاباً، لكنه أشار بشكل أو بآخر إلى أن الضباط الأربعة الموقوفين سيذهبون إلى المحكمة. المرجع القضائي يؤكد في هذا الشأن أن «الترتيبات بدأت لتباشر الحكومة اللبنانية مساعدة الجهات القضائية على تسليم الملف بكل ملحقاته إلى أمانة المحكمة. والملحقات هي الأدلة والموقوفون والشهود ربما». ولعل أبرز ما كشفه بيلمار في تقاريره أن اللجنة ما زالت تحاول «خرق التضليل» وتمتلك أدلة على خيط يربط بين اغتيال الحريري وخمس من الجرائم الأخرى. هذه الخلاصة توصل إليها بعد إجراء لجنة التحقيق 288 مقابلة على مدى ستة أشهر، وبعد التبرير الضمني لاعتقال السلطات اللبنانية الضباط الأربعة - في ظل دعوات إلى إطلاقهم وتجريم توقيفهم – وبعد تواري العامل أو المحرك «الأصولي» لشبكة اغتيال الحريري، ليتحدث عن «مجموعة إرهابية محترفة مرتبطة بجهات منظمة» وعن أن الانتحاري الذي فجر نفسه في الموكب لم يكن أحمد أبو عدس الذي وصل شريط اعترافاته بطريقة غامضة إلى مدير مكتب قناة «الجزيرة» في بيروت غسان بن جدو، كما يتحدث عن «توزيع أدوار» ويذكر أن لجنة التحقيق قامت بجمع الأدلة من أجل التأسيس لفرضية وهي أن هذه الشبكة الإجرامية كانت موجودة قبل اغتيال الحريري وأنها قامت بعمليات استطلاع قبل تنفيذ عملية الاغتيال وأنها كانت نشطة في اليوم الذي تم فيه تنفيذ العملية. وأخيراً أن هذه الشبكة ما زالت موجودة حتى بعد اغتيال الحريري وأنها ما زالت نشطة ولها دور في الاعتداءات الأخرى التي لها صلة بجريمة اغتيال الحريري. وكل ذلك من دون أن يفصح عن أي تفصيل يمكن أن يضر التحقيق، ليشير إلى تفاؤله بنجاح مهمته، وإلا لما كان تابعها. وكان بيلمار قد حذّر من ارتكبوا الجريمة في مقابلة أُجريت معه إلى أنه قريب منهم. إلا أنه لا يستطيع أن يوضح مدى اقترابه من الحقيقة لضرورات التحقيق. وأضاف أنه يرغب «بإعلان مدى تقدّم تحقيقاته، لكن يمكن أن يكون بين من سيقرأون ما يقوله من هو ضالع في هذه الجريمة».

وفي حين أعرب عن رضاه عن تعاون الحكومة اللبنانية. أبدى تعاطفاً مع عائلات الضحايا. وطمأنهم إلى مواصلته العمل على قضية اغتيال أحبتهم. بيلمار كان يتحسب للمناخ السياسي المحتقن في لبنان. وقد حرص على السير بين نقاط الاحتقان حتى لا يمنح أياً كان فرصة للنيل من التحقيق. ومقابل تعقيدات الساحة اللبنانية التزم خريطة عمل أساسية وبسيطة. وصفها كالآتي: «الوقائع والأدلة هي التي تقودني. وهذا هو أساس العمل الذي أقوم به».

وهكذا جمع المحقق الكندي الوقائع والأدلة وغادر إلى المحكمة الدولية، مشيراً إلى أنه لم يتعود على فكرة مدى الإزعاج الذي يسببه شخص مثله خلال تنقلاته. ذلك أن تنقلاته كانت تترافق دائماً مع إقفال للطرق والمنافذ التي تؤدي إلى حيث يكون. كذلك أزعجه أن يصبح نجماً بعد تسلمه هذا الملف اللبناني، وهو الذي أمضى عمره منكباً على ملفات معقدة وصعبة من دون أن تزعجه النجومية على الطريقة اللبنانية. فالطبيعي بالنسبة إلى رجل يقضي عمله بالتزام السرية هو أن يبقى بعيداً عن الأضواء ويستمر في العمل وراء الكواليس. هذا ما فعله بيلمار الحريص. اجتهد في جمع مادته وراء الكواليس. وأطل قليلا عندما شعر أنه بلور المفاصل الأساسية للقرار الاتهامي بعد أن استكمل النسبة الأكبر من تحقيقاته. لم يرْوِ غليل الفضوليين لمعرفة حصيلة عمله. ويبدو أنه لا يهتم بذلك، لأن همه بعد الأول من مارس (آذار) سيكون تقديم ملفه إلى قاضٍ ما قبل المحاكمة وفق الأصول الأنجلوساكسونية، وتحديداً الأميركية، ويستطيع متابعة عمله كمحقق. وسيحتفظ لهذه الغاية بمكتب اتصال في بيروت ويتابع تعاونه مع القضاء اللبناني.

إلا أن بيلمار يغادر لبنان متحسراً على أنه لم يتمكن من الخروج ومقابلة الناس. قال في حديث له إن ما يتمنى فعله حقاً هو التوجه إلى وسط بيروت والتحدث إلى المواطنين، لكن أسباباً أمنية حالت دون ذلك. وتحدث عن رغبته بالعودة إلى لبنان في زيارة سياحية بعد إنجاز مهمته. وأبدى أسفه لأن أقاربه لا يعرفون لبنان إلا من خلال الأخبار السيئة.