هل هناك بدائل.. للمياه؟

الأميركي يستهلك 90 جالوناً من المياه يومياً والأوروبي 53.. والأفريقي 5 جالونات فقط

المياه ستصبح مكلفة جدا للأجيال المقبلة
TT

المياه ليست هي فقط الحياة، بل تتحول في بعض المناطق إلى «شيء مقدس» كما هو الشأن في الهند. في كل سنة يتدافع ملايين الهنود في حالة أقرب ما تكون إلى الفرار الجماعي من اليابسة للاغتسال في نهر «جودافاري» الذي يعتبره الهنود نهراً مقدساً،. إذا اغتسلت بمياهه، فارقتك الأرواح الشريرة والأمراض.، هكذا يعتقدون. الأرقام بطبيعتها جافة رغم أن لها قدرة على البيان لا تضارعها فيها وسيلة أخرى من وسائل التعبير، وفي موضوع المياه تقول الأرقام إن الكرة الأرضية تتكون من سبعين بالمائة مياهاً و30 بالمائة يابسة، لذلك إذا أطلق عليها «الكرة المائية» سيكون التعبير أكثر دقة من «الكرة الأرضية». ويتوفر العالم على 1400 مليون كيلومتر مكعب من المياه، لكن هذا الكم الوفير من المياه، كما يتضح من الأرقام، تبلغ نسبة الصالح منه للاستعمال البشري 2.5 بالمائة فقط لا غير. و80 بالمائة من هذه المياه تستعمل في الزراعة. وهي تجدد نفسها عن طريق الأمطار، ولم تتغير كميات المياه على الرغم من الجهود التي بذلت لتحلية مياه البحر، وهي جهود اصطدمت بارتفاع التكلفة. وعلى عكس جميع الموارد الطبيعية يمكن البحث عن بدائل لكن المياه هي المصدر الوحيد الذي لا يمكن إيجاد بديل له. وصورة مستقبل مشكلة المياه في العالم قاتمة إلى حد بعيد، وتحذر جميع الجهات المهتمة بهذا الموضوع من أن 48 في المائة من سكان الأرض سيعانون نقصاً حاداً في المياه عام 2025 إلى درجة تقترب من حالة العطش، ويسوقون على ذلك أمثلة تتعلق بنضوب بعض الأنهار والبحيرات، على سبيل المثال نضوب النهر الأصفر في الصين ونهر كولورادو في الولايات المتحدة الذي باتت تفصله 60 كيلومتراً عن البحر حيث تحول مجراه على طول هذه المسافة إلى واد جاف. وفي أفريقيا تبخرت نسبة 70 في المائة من بحيرة تشاد.

إضافة إلى التلوث والعوامل الطبيعية فإن النزاعات السياسية أسهمت في مشاكل تقلص المخزون المائي، وفي هذا الصدد فإن الأنهار التي تشترك فيها عدة دول تكون عرضة للاستغلال غير العقلاني، لأسباب سياسية، إذ إن بعض الدول تعمد إلى إنتاج مواد زراعية لأهداف وشعارات سياسية، وفي أحيان يؤدي توتر العلاقات بين دول الجوار إلى محاولة الضغط بورقة مياه الأنهار. ويشار إلى أن من بين أهم الأنهار التي تمر بعدة دول، هناك في أوروبا نهر الدانوب الذي يمر في 16 دولة، والراين الذي يمر في 11 دولة. وفي أفريقيا هناك نهر النيل الذي يمر بعشر دول، ونهر الكونغو ويمر بتسع دول، ونهر النيجر ويمر بتسع دول أيضاً، وفي أميركا اللاتينية نهر الأمازون الذي يمر في ثماني دول، وفي المنطقة العربية نهر الأردن الذي يمر في خمس دول.

وهناك تباين واضح بين دول العالم في استعمال المياه، وفي هذا الصدد يقول الخبير في مجال المياه في البنك الدولي الدكتور سلمان سلمان إن القانون الدولي يكفل حق أي مواطن في أن توفر له دولته قدراً من المياه، إذا كان بمقدوره أداء فاتورة الاستهلاك أو لم يستطع، وقال الدكتور سلمان لـ «الشرق الأوسط» «إن هناك تفاوتاً كبيراً في استعمال المياه بين الدول تبعاً لدرجة تقدمها وليس للأمر علاقة بمدى توفر المصادر المائية»، ويشرح فكرته قائلاً «معدل استعمال الأميركي 90 جالوناً من المياه في اليوم (في جميع الاستعمالات) ويستهلك الأوروبي 53 جالوناً يومياً، في حين يتراجع استعمال المواطن الأفريقي من المياه إلى خمس جالونات فقط». ويقول سلمان الذي يشدد على أن آراءه شخصية ولا علاقة لها بالبنك الدولي «إن استهلاك الإسرائيلي والفلسطيني من المياه متفاوت على الرغم من أنهما يوجدان في رقعة جغرافية واحدة، حيث يستهلك الإسرائيلي من المياه خمسة أضعاف الفلسطيني» وهكذا يتضح أن العلاقة بين استهلاك المياه وتقدم المجتمع حضارياً، علاقة طردية، إذ كلما حدث تقدم زادت الكميات التي يستهلكها الفرد من المياه.

ويعتقد كثير من خبراء المياه، أن شعوراً بالخيبة ساد وسط المنظمات والجمعيات التي تحاول التنبيه إلى أهمية المياه وترشيد استغلالها عقب إجازة الأمم المتحدة لاتفاقية المياه (المياه العابرة للحدود) عام1997 ، ذلك أن هذه الاتفاقية لم تدخل بعد حيز التطبيق بعد أن تراجعت معظم الدول عن المصادقة عليها. وانبثقت فكرة هذه الاتفاقية في مطلع السبعينات وظل خبراء مياه من عدة مؤسسات دولية يعملون على إقناع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بجدواه حيث يرون أنها السبيل الوحيدة لترشيد استعمال المياه في جميع أرجاء العالم، كما أن الاتفاقية تعالج عدة مواضيع من أهمها القوانين التي تحدد كيفية بناء السدود على الأنهار خاصة إذا كانت هذه الأنهار تمر في عدة دول. وبعد جهد، وافقت 103 دول على الاتفاقية عندما صوتت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1997 وامتنعت 27 دولة عن التصويت، وعارضتها ثلاث دول هي الصين وتركيا وبورندي. عارضت الصين الاتفاقية لأن عدداً كبيراً من أنهارها ينبع خارجها وهي لا تريد أن تلتزم باتفاقية تحد من حريتها في إنشاء سدود فوق هذه الأنهار، في حين عارضت تركيا الاتفاقية لأنها كانت أعدت دراسة لتشييد 22 سداً فوق نهري دجلة والفرات، وإذا ما نفذ هذا المشروع التركي الطموح سيعني ذلك ـ قطعاً ـ حرمان العراق وسورية من مياه النهرين. أما بورندي فقد عارضت الاتفاقية لأن الصين التي تنجز عدة مشاريع هناك أوعزت لها بمعارضتها، حتى يقال إن دولة من دول العالم الثالث وأفريقيا، على وجه التحديد، تعارض الاتفاقية.

ولم يصل عدد الدول التي صادقت مؤسساتها التشريعية (برلمانات وما إلى ذلك) على الاتفاقية حتى الآن إلى 35 دولة، وهو العدد المطلوب حتى تتحول إلى اتفاقية دولية ملزمة، أي إن الدول التي صادقت عليها لا تزال أقل من 35 دولة. وقد أعلنت فرنسا أخيراً أنها ستصادق على الاتفاقية. وهكذا بعد أن ظلت هذه الاتفاقية مهملة لفترة طويلة أصبحت تثير منذ سنتين اهتماماً متزايداً مما يؤشر على قرب اعتمادها على العدد المطلوب لتدخل حيز التنفيذ.

والمياه ليست مصدر حياة فقط لكنها أيضاً تعد سبباً للموت، وتشير الإحصاءات إلى أن سبعة ملايين شخص يموتون سنوياً نتيجة أمراض لها علاقة بالمياه، ومن ذلك أمراض الكوليرا والإسهال والملاريا والبلهارسيا والدوسنتاريا، خاصة أن نصف الأنهار والبحيرات في العالم تعاني تلوثاً. ويعتقد أنه في عام 2030 لن يحظى على الأرجح خمسة مليارات شخص بنظام صرف صحي لائق، وهو ما يعني مزيداً من الأمراض والأوبئة، خاصة في الدول الفقيرة.

وبسبب القلق المتزايد حول مشكلة المياه في جميع أنحاء العالم، جاءت فكرة انعقاد مؤتمر دولي للمياه كل ثلاث سنوات، وكانت انطلاقة هذه المؤتمرات من مدينة مراكش المغربية، حيث انعقد أول مؤتمر عالمي للمياه وشارك فيه 500 شخص، وكان ذلك عام 1997، وتقرر يومها اعتبار يوم 22 مارس (آذار) من كل سنة يوماً عالمياً للمياه في العالم.

وعندما انعقد المؤتمر الثاني في لاهاي عام 2000 تضاعف عدد المشاركين ليصل إلى خمسة آلاف شخص، ووصل العدد في المؤتمر الثالث الذي انعقد عام 2003 في كيوتو في اليابان إلى 22 ألف شخص، أما المؤتمر الرابع الذي انعقد في المكسيك عام 2006 فقد بلغ عدد المشاركين 30 ألفاً، وتتباين الأرقام بالنسبة لعدد المشاركين في المؤتمر المنعقد حالياً في اسطنبول في تركيا، في حين تتنافس مرسيليا ودوربان (جنوب أفريقيا) لاستضافة المنتدى المقبل.

وأطلقت الأمم المتحدة في تقرير نشر قبل بضعة أيام من انعقاد مؤتمر المياه العالمي في اسطنبول تحذيراً واضحاً بشأن أزمات المياه. وقالت الوثيقة إن التعداد السكاني العالمي الذي يبلغ اليوم 5.6 مليار شخص، يتوقع أن يتجاوز تسعة مليارات عام 2050. وتبعاً لهذه الوتيرة فإنه يتوقع أن يزداد الطلب على المياه لتصل إلى 64 مليار متر مكعب كما تقول الأمم المتحدة.

بيد أن هناك من يعارض أصلا هذه المؤتمرات على اعتبار أنها أصبحت تمثل مصالح شركات عملاقة. ونظم معارضون مظاهرات وصلت حد محاولة عرقلة وصول المشاركين في اليوم الأول لمؤتمر اسطنبول إلى حيث تنعقد الاجتماعات، وردد المتظاهرون هتافات من بينها «المياه هي الشعب... والحياة ليست للبيع» وشعار آخر يقول «سنسحق هذا المنتدى الذي يريد الاستيلاء على مياهنا»، وفي سياق منفصل دعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدول المشاركة في المنتدى العالمي الخامس للمياه إلى الالتزام من أجل حماية المياه والشبكات الصحية في زمن الحرب.

وقال روبرت مارديني، مدير دائرة المياه والإسكان في اللجنة، إن «شبكات المياه والمجاري والكهرباء هي من أول المرافق التي تتوقف عن العمل عند اندلاع أي حرب» موضحاً أن توقفها عن العمل يتبعه غالباً نقص كبير وانتشار سريع لأمراض يمكن أن تؤدي إلى وفيات. وأفاد تقرير وزع على هامش مؤتمر اسطنبول أن هناك خمس مناطق في العالم هي التي تشرب أسوأ مياه على الإطلاق، ثلاث منها عربية، وهي العراق وغزة والصومال، إضافة إلى أفغانستان وسيرلانكا.

وتفيد التقارير كذلك إلى أن مخزون المياه سيتراجع تراجعاً حاداً في منطقة الشرق الأوسط، ومرد هذا الانخفاض إلى ارتفاع نسبة التبخر ونضوب المياه الجوفية غير المتجددة، ويقول الخبراء إن أكبر نقص يوجد في منطقة الخليج العربي، حيث إن معظم المياه الجوفية ليست متجددة. في حين أن أكبر حوض مياه جوفية في العالم العربي يوجد حالياً هو الحوض الرملي الذي تشترك فيه أربع دول هي مصر والسودان وليبيا وتشاد. وكان تقرير أصدره البنك الدولي حذر من أن الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا سيواجهان أزمة مياه خانقة ما لم تخصص الاستثمارات الكافية لهذا القطاع بصورة عاجلة. وقال البنك في تقرير له عن وضع المياه في هاتين المنطقتين إن حصة الفرد من المياه ستتراجع فيهما إلى النصف في عام 2050. وأشار التقرير إلى أن التغييرات المناخية والنمو السكاني سيفاقمان من حدة هذه المشكلة. ودعا البنك الدولي دول المنطقة إلى معالجة مياه الصرف وإقامة شبكات مياه أكثر تطوراً وكفاءة والحد من استخدام المياه. ويقول البنك إن قطاع الزراعة في هذه الدول سيواجه التحدي الأكبر لأن هذا القطاع يستهلك أكثر من 85% من المياه. وأورد على سبيل المثال المغرب الذي سيكون مرغماً على الحد من كمية المياه المخصصة للري والتحول إلى زراعات أقل استهلاكاً للمياه وذات مردود مالي أكبر، وعلى الرغم من أن المغرب شيد عدداً من السدود لتجميع مياه الأمطار، لكن مستوى المياه تراجع في المناطق الزراعية سبعة أضعاف مقارنة بعام 1982. وفيما يتعلق بنوعية المياه أشار البنك إلى أن تدهور نوعية المياه قد ترك آثاراً سلبية على اقتصادات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ تراجع إجمالي الناتج الوطني في المغرب ومصر والجزائر بنسبة واحد بالمائة بسبب تدهور نوعية المياه، بينما وصل التراجع في إيران إلى أكثر من ثلاثة بالمائة. ويقول البنك الدولي إن تونس والأردن تعتبر من الدول الرائدة في المنطقة في مجال إدارة المياه وتطوير مصادرها. وفيما يتعلق بـ«البقع الداكنة في العالم» هناك خمس دول تعتبر الأكثر استهلاكاً للمياه الملوثة، منها دولتان عربيتان، هما السودان وتونس، حيث تفيد الإحصائيات أن 12.3 مليون شخص في السودان يشربون مياهاً ملوثة.، وفي فنزويلا يستهلك كذلك خمسة ملايين شخص مياهاً ملوثة، في حين يبلغ عددهم في زيمبابوي 2.7 مليون شخص، وفي تونس 2.1 مليون شخص، وكوبا 1.2 مليون شخص.

أما قائمة الدول التي ستعاني شحاً في المياه فسيكون في مقدمها الصين والهند، حيث أصبح موضوع المياه يشكل هاجساً حقيقياً للدولتين اللتين تحققان معدل نمو هو الأعلى في العالم وتقتربان من منافسة الولايات المتحدة في جميع المجالات، خاصة الصين، وبعد الصين والهند تأتي باكستان وإيران والمكسيك، في حين أن شح مصادر المياه في دولتين مثل مصر والجزائر جعلهما تعتمدان اعتماداً شبه كامل على استيراد القمح والحبوب. ثمة حكاية سوريالية تقول إن السكان في أفريقيا وكل من الصين والهند إذا سئلوا عام 2030، عن معنى «مياه الأنهار العذبة» سيرد الصينيون والهنود إنهم لا يعرفون ماذا تعنى كلمة «أنهار» في حين سيرد الأفارقة بأنهم لا يعرفوا معنى كلمة «عذبة». حكاية سوريالية، لكن العطش القادم من جوف المستقبل، ربما يجعلها حقيقة.