كنيس.. يعود إلى الحياة في بيروت

رئيس الطائفة اليهودية في لبنان يؤكد أن حزب الله يميز بين اليهود والإسرائيليين وأنه لم يعترض على ترميم المعبد

صورتان للكنيس قبل ترميمه في وسط بيروت (أ.ف.ب)
TT

نفض كنيس «ماغن إبراهيم» في وادي أبي جميل، وسط بيروت التجاري، الغبار والركام عن مبناه المتداعي. وهو يشهد عملية ترميم لمحو آثار الحرب الأهلية اللبنانية التي أصابته كما غيره من مباني الوسط. إلا أن الأسئلة التي رافقت هذا «الحدث» من خارج سياق السياسة اليومية تفتح الباب على واقع الطائفة اليهودية في لبنان، تحديدا في ظل الصراع الحاد بين لبنان وإسرائيل. لكن رئيس الطائفة اليهودية في لبنان إسحق آرازي يرفض من حيث المبدأ أي مزج بين اليهود بشكل عام، ويهود لبنان بشكل خاص، مع إسرائيل. ويقول لـ«الشرق الأوسط» «لماذا يجب وضعنا كطائفة لبنانية بمواجهة مشكلة كبيرة كالقضية بين إسرائيل والعرب؟ لا مشكلة لدينا مع أي كان. نحن لبنانيون مثل غيرنا من أبناء الطوائف الأخرى». ويضيف «يجب عدم الخلط بين اليهود وإسرائيل». وعما إذا كان الخوف ينتابه بعد التسليط الإعلامي الكثيف على ترميم الكنيس، يقول آرازي: «إذا بقينا خائفين لن نفعل شيئا. وإذا ربطوا وجودنا كلبنانيين يهود بكل ما يحصل إقليميا، حينها الأفضل أن نلازم بيوتنا ولا نعمل أو نرحل إلى بلد آخر». وأشار آرازي إلى أن «الطوائف الأخرى والأحزاب السياسية بما فيها حزب الله لم تُبدِ اعتراضات على ترميم المعبد»، وأضاف «لم يعترض أحد ولم نتلقَّ أي تهديد. والأهم أن حزب الله أوضح أنه يفرق بين اليهود وإسرائيل».

وشدد على عدم وجود أي علاقة له ولأبناء طائفته كمواطنين لبنانيين بإسرائيل التي تطالب باعتراف العرب بها، ومن ضمنهم لبنان، دولة يهودية، مما يعني إثارة حساسيات تتعلق باليهود أينما وجدوا. ويقول «الديانة اليهودية عمرها أكثر من خمسة آلاف عام، أما إسرائيل فعمرها 61 عاما. كما أن الجيش الإسرائيلي يضم يهودا ودروزا ومسلمين ومسيحيين. لا علاقة لنا بإسرائيل ونحن نفتخر أننا لبنانيون. ونحن نربي أولادنا على هذا الأمر. أصحابنا من كل الطوائف اللبنانية».

أحد اليهود اللبنانيين الذي تحفظ عن ذكر اسمه، قال: «لترميم الكنيس، نستعين بعمال فلسطينيين. على أي حال المسؤولون الفلسطينيون والإسرائيليون يجتمعون ويتفاوضون، والناس العاديون الذين يتطرفون يدفعون ثمن الصراع». هذا الشاب لا يجد غضاضة في اعتبار أن «اليهود لهم الحق في الوجود والأمان والدولة». يصنف كنيس «ماغن إبراهيم» على أنه الأهم والأجمل هندسيا في الشرق الأوسط. أنجز بناؤه عام 1926. وهو يتميز بالقناطر في معبده التي نقشت عليها نجمة داوود وكتابات باللغة العبرية بقيت مطمورة لنحو ثلاثين عاما. يقول «يعاد بناء الكنيس وفق هندسته الأصلية القائمة على العمارة العربية مع القناطر. تحسبين أنه جامع».

ويشير إلى أن مجلس الطائفة اليهودية فتح باب التبرعات، ويقوم بتمويل القسم الأكبر من الأشغال التي تقدر كلفتها بحوالي مليون دولار، على أن يسهم يهود من اللبنانيين المهاجرين في تأمينها. وقد قدمت مؤسسة «ادمون صفرا الخيرية»، التي تعود إلى أحد أكبر المصرفيين اليهود العالميين وهو من أصل لبناني، مائة ألف دولار للمساهمة في أعمال الترميم. والمعروف أن شركة «سوليدير» تتعهد عادة بتقديم مبلغ من المال لتمويل أعمال ترميم الأبنية الدينية في وسط بيروت، إلا أن تحديد المبلغ رسميا لم يتم، ليتردد في أوساط الجالية أن قيمته تقارب 150 ألف دولار، مع إشارة إلى قبول التبرعات من جميع اللبنانيين، وليس فقط من اليهود. ويقول آرازي «نريد أن نعيد المعبد إلى ما كان عليه بالنسبة إلى أثاثه والسجاد والثريات»، لافتا إلى أن أعمال الترميم تتم بناء على صور وخرائط قديمة يملكها بعض أبناء الجالية اليهودية. المعروف أن وادي أبو جميل كان خط تماس ومحورا من محاور الحرب. وعندما سقط تم احتلال البيوت التي تركها سكانها ليصار إلى تهجير من صمد ويصادر منزله. فور انتهاء الحرب اللبنانية وانطلاق العمل في وسط بيروت، أحيط الكنيس بألواح عالية تعزله عن الأعين. لكن التلصص كان ممكنا حيث كان يمكن رؤية الأعشاب التي تنمو عشوائيا وتكتسح الحديقة الكبيرة، في حين واجهة المبنى تحمل آثار القصف والدمار. اليوم رفعت هذه الألواح وبدأ العمال نشاطهم تحت رقابة مشددة، فنزعوا الأشواك من المدخل وبدأوا بتسوية الجدران وينهمكون حاليا في رفع أكوام الأنقاض من هنا وهناك.

وادي أبو جميل، أو وادي اليهود، كما يطيب لرئيس الجالية أن يسميه، كان يضم جالية يهودية لبنانية كبيرة يقارب عددها الثلاثين ألفا، وذلك قبل نشوء إسرائيل، ليبدأ بالتراجع شيئا فشيئا. ويصل عشية اندلاع الحرب اللبنانية إلى ما يقارب العشرين ألفا. أما بعد الاجتياح الإسرائيلي لبنان عام 1982، فقد اقتصر العدد على خمسة آلاف يهودي لبناني، سرعان ما رحلوا عندما تم خطف 14 يهوديا بينهم رئيس الطائفة بعيد الاجتياح. ويعترف لبنان بالطائفة اليهودية كواحدة من ثماني عشرة طائفة يقر رسميا بوجودها. ويعود وجود اليهود في لبنان إلى قبل نحو ألفي عام، لكنه تضاءل على مر السنين ليعودوا هربا من محاكم التفتيش الأوروبية في القرون الوسطى، ويستقروا ويرتفع عددهم من جديد. لديهم أملاك في مختلف المناطق اللبنانية، ذلك أن يهود لبنان لم يبيعوا أملاكهم، وبعد عودة السلم، رجعوا لينظموا أوضاعهم ويتفقدوا أملاكهم. لا مانع قانونيا يحول دون عودتهم. فهم لا يزالون يحتفظون بهويتهم اللبنانية.

يقول آرازي: «محلات اليهود كانت تشكل نسبة كبيرة من متاجر وسط بيروت وأسواق صيدا القديمة. في بيروت لا مشكلة لدينا، أما في صيدا فمعظمها صودر من قبل أفراد أو لا يزال مقفلا. سيأتي وقت ونبحث في الأمر فالحق لا يموت».

آرازي لا يزال يحتفظ بلكنته الخاصة القريبة من اللهجة الحلبية، في حين تصعب معرفة اليهود الشباب من لهجتهم، مع أن اللغة الفرنسية تغلب على أحاديث نسبة منهم. هو يتحدث عن الوادي بحنين، فيقول «كان يضم أكثر من 10 إلى 12 كنيسا إضافة إلى مدرسة الاليانس. المدرسة هدمت بعد انتهاء الحرب الأهلية بالاتفاق معنا، إذ لا مجال لمدرسة داخل الأسواق، ربما يتم استثمار الأرض تجاريا. كانت الحياة في لبنان قبل الحرب الأهلية أشبه بجنة عدن مقارنة مع المرحلة الحالية. كنا نأكل البوظة في الوادي عند «رشاد» ونقصد المدرسة الملاصقة للبيت سيرا على الأقدام. كل الأمور كانت متوفرة ولم نكن نشعر بعنصرية تجاهنا قبل الحرب. وكان لدينا الكثير من حالات الزواج مع الطوائف الأخرى. لدينا أكثر من ألفي حالة زواج مختلط في لبنان. واليهودية لا تغير دينها، لكنها توقع تعهدا على عقد الزواج بتنشئة أولادها على دين والدهم».

ويضيف: «لم نكن مشاركين في الحياة السياسية اللبنانية. لم يكن لنا مختار أو نائب من نواب الأقليات وكان عددنا يفوق 22 ألفا، وكنا مؤثرين على العملية الانتخابية في الدائرة الأولى. كنا قوة انتخابية كبرى ولطالما كان مرشحو هذه الدائرة قبل الحرب الأهلية يزورون الكنيس ويجتمعون بنا». يشير آرازي إلى أن «إعادة ترميم الكنيس يجب أن تتم بتبرعات يدفعها اليهود اللبنانيون فقط. لا نرضى بمساعدات من غير اللبنانيين. وإذا لم يكف المال قد نبيع أحد عقاراتنا لتأمين المبلغ اللازم للترميم. نعمل مرحلة تلو أخرى لنتمكن من إنجاز كل ما يحتاج إلى ترميم. والمفروض أن نباشر ترميم المدفن مع الكنيس».

ولا يتعدى عدد اليهود في لبنان الـ300، ويقول آرازي عن ذلك: «نعمل لمستقبلنا في لبنان. ربما يعود مزيد من اليهود اللبنانيين الذين هاجروا خلال الحرب الأهلية. هم يحبون وطنهم كثيرا. نأمل في أن تؤدي المبادرة إلى توسع الجالية اليهودية مجددا». وينفي الرجل أي خوف من ارتدادات واقع العلاقة «العدوانية» بين إسرائيل ولبنان. يقول: «الآن لا توجس لدينا. الكنيس بقي على حاله، لم يتعرض أحد للمبنى، سوليدير حافظت عليه ومنعت الناس من الدخول إلا بإذن واليوم لا يدخل المكان أحد إلا بإذننا. وإذا توفر التمويل قد يستغرق إنجاز العمل حوالي السنة. وإذا عاد عدد من الذين رحلوا قد تتكون أجيال جديدة وهذه الأمور يجب أن تأخذ وقتها لتنضج». المرحلة الذهبية لليهود في لبنان كانت خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي وصولا إلى الحرب الأهلية. وهم يتباهون أن علاقتهم بالمسلمين كانت جيدة، وفي الدول الأوروبية يشتري المسلمون اللحوم من اليهود لأنهم عند نحر الذبيحة يقولون «باسم الله». أما اليوم فالأمور تغيرت. ويعيش اليهود اللبنانيون خصوصية لصعوبة تأديتهم طقوسهم. يقول الشاب الذي تحفظ عن ذكر اسمه «اليوم عندما يموت يهودي في لبنان نرسله إلى مسلم تعاقدنا معه ليغسله ويكفنه، ثم نواريه الثرى في مدفن الطائفة. لا أحد يصلي عليه لأن لا حاخام في لبنان يتولى شؤون اليهود، لذا يذهبون إلى قبرص أو تركيا ليتزوجوا. كانوا إلى فترة قريبة يحضرون اللحوم لطعامهم من سورية لوجود حاخام هناك يتولى الطقوس ليصبح أكلها حلالا. إلا أنه غادر لا نعرف لماذا. هم حاليا يأكلون لحوم الذبيحة التي تنحر على الطريقة الإسلامية».