مصر.. والعنف الطائفي

يبدأ بمشاجرات فردية وأول الحوادث بين المسلمين والأقباط وقع عام 1972

أقباط يتظاهرون في جنوب مدينة المنيا جنوب القاهرة بعد اندلاع اشتباكات بين الأقباط والمسلمين على خلفية صراع على أرض أدى إلى مقتل مسلم وجرح أربعة من الأقباط (رويترز)
TT

هل يصلح عناق الشيخ والقس في لم الشمل وترطيب الأجواء، أم ستظل «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها»؟ سؤال يترنح على وتر مشهد أصبح ينسخ نفسه، كلما تعرضت العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر لهبة هنا أو هناك. لكن في بعض الأحيان لا تبدو الفتنة نائمة في مصر، فبين الحين والآخر تقع مصادمات طائفية بين مسلمين وأقباط على امتداد الوطن كله، لكنها في الصعيد بالجنوب، تأخذ طابعا عنيفا أكثر من الدلتا في الشمال.

المثير للدهشة في تلك المصادمات الطائفية أنها تبدأ بشكل فردي ولأسباب بعيدة عن الخلافات العقائدية، فغالبا ما يكون السبب الرئيسي وراءها خلافات مالية بسبب نزاع على بيت، أو قطعة أرض، أو متجر، وفي بعض الأحيان بسبب جنيه واحد (الدولار يساوي 5.5 جنيه) مثلما حدث في قرية بمحافظة الدقهلية (شمال القاهرة)، أو علاقة عاطفية أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحي. إلا أن تلك الخلافات البسيطة في جوهرها تنتهي بشكل عنيف في مظهره، قد يصل أحيانا إلى مصادمات بين مئات من أفراد الطرفين، يكون حلها في أكثر الحالات أمنيا، إذ تعقد جلسات صلح بين الطرفين برعاية الأجهزة الأمنية، التي تكون قد اعتقلت أفرادا من الطرفين، وتشترط الموافقة على الصلح للإفراج عنهم، إلا أن هذا الحل ثبت أنه لا يعالج الدمامل والتقيحات بل يغلقها بشكل مؤقت ليبقى الاحتقان داخلها.

بعض المراقبين يرون أن العنف الطائفي الذي بدأ يتزايد في مصر هو جزء من ظاهرة أشمل هي زيادة العنف في الشارع المصري، وهو ما يظهر في صفحات الحوادث في الصحف المصرية يوميا، بالإضافة إلى تردي الأحوال الاقتصادية في الصعيد، الذي يعد من أفقر المناطق في مصر طبقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة.

وكان «المركز المصري للتنمية والدراسات الديمقراطية»، و«الجمعية المصرية لدعم التطور الديمقراطي» قد أصدرا أخيرا تقريرا مشتركا يحمل عنوان «إلي متى يستمر الاحتقان الطائفي بمصر؟»، قالا فيه إن عدد الحوادث الطائفية التي شهدتها مصر على مدار الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، يبلغ تسع حوادث طائفية، أربعة منها بمحافظات الوجه البحري، تتوزع على محافظات الدقهلية والغربية والإسكندرية، فيما شهدت أربع محافظات بالوجه القبلي خمسة حوادث طائفية، بواقع حادث واحد ببني سويف، وآخر بمدينة الأقصر، وثلاثة حوادث بالمنيا. وشهد شهر يوليو (تموز) الماضي نحو أربعة حوادث أخرى ليرتفع العدد إلى 13 حادثا طائفيا.

وأرجع التقرير هذه الحوادث إلى القتل والمشاجرات واختطاف البنات، فأربعة حوادث منها حركتها جرائم قتل، وأربعة أخرى نشبت بسبب مشاجرات، فيما كان اختطاف إحدى الفتيات السبب في الواقعة الأخيرة.

وكشف التقرير عن أن الطرف القبطي هو الذي بدأ بالصدام في خمس حالات بما فيها القتل، في حين بدأ الطرف المسلم بالصدام في ثلاث حالات، معتبرا أن تلك الحوادث تدل على وجود حالة احتقان طائفي بين الجانبين، فكل طرف لديه الدوافع للاشتباك مع الآخر، مما يؤكد فشل الدولة في إدارة الأزمة بين الجانبين، على حد قول التقرير.

تعد الحوادث الطائفية بين المسلمين والأقباط في مصر حديثة نسبيا، فأول حادثة يمكن رصدها هي أحداث الخانكة عام 1972، عندما حاول بعض الأقباط تحويل منزل بمدينة الخانكة (شمال القاهرة) إلى كنيسة، رغم أن القانون في ذلك الوقت كان يعطي سلطة الأمر ببناء الكنائس لرئيس الجمهورية فقط، فحدثت على إثر ذلك مواجهات بين المسلمين والأقباط، قام على إثرها البابا شنودة الثالث، بابا الأقباط الأرثوذكس، بإرسال وفد من القساوسة في حافلة ليقيموا الشعائر الكنسية في المنزل محل النزاع، كنوع من التحدي للرئيس الراحل أنور السادات (1918 ـ 1981)، إذ كانت العلاقة متوترة بين السادات والبابا الجديد الذي لم يكن قد مضى عامٌ على توليه سدة البابوية حينذاك، بحسب ما ذكره الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب»، وانتهى الأمرُ بلجنة تقصِّي حقائق شكلها البرلمان برئاسة الدكتور جمال العطيفي، زارت أماكن الأحداث، والتقت شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ محمد الفحام، والبابا شنودة الثالث، وأصدرت تقريرا في نهاية عملها. ومنذ حادثة الخانكة، وبعدها أحداث الزاوية الحمراء عام 1981، انشغل المصريون، مسلمين وأقباطا، بموجة العنف التي نفذها إسلاميون متشددون، وطالت أهدافا مسلمة وأخرى مسيحية، وإن اقتصرت الأهداف المسيحية على محلات الذهب المملوكة لأقباط، إلى أن وقعت أزمة طائفية في قرية الكشح بمحافظة سوهاج بصعيد مصر في شهر أغسطس (آب) عام 1998، والتي عرفت بأحداث الكشح الأولى، والتي اندلعت على خلفية قضية ثأر بين عائلة مسلمة وأخرى مسيحية، أي إن الأمر لا علاقة له بخلافات دينية، وتلتها أزمة أخرى في نفس القرية في ديسمبر (كانون الأول) 1999، عرفت بأحداث الكشح الثانية على خلفية نزاع بين تاجر مسلم وتاجر قبطي.

وفي عام 2007 شهدت قرية بمها التابعة لمركز العياط بالجيزة أحداثا طائفية أسفرت عن حرق نحو 20 منزلا ومتجرا وإصابة عدة أشخاص من الطرفين بسبب اعتزام أقباط القرية تحويل أحد المنازل إلى كنيسة لإقامة الشعائر الدينية، وانتهى الأمر بجلسة صلح عرفية بين الطرفين. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام اندلعت مصادمات أخرى بين الأقباط والمسلمين في مركز سمالوط بالمنيا (بصعيد مصر) بسبب شائعة عن اعتزام دير قبطي شراء 5 أفدنة مجاورة له وضمها إلى مساحته، وأسفرت عن إصابة 12 شخصا، واعتقل على خلفية تلك المصادمات 40 شخصا من الطرفين أفرج عنهم بعد جلسة صلح عرفية.

وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 2007 وقعت مصادمات طائفية عنيفة في مدينة إسنا التابعة لمحافظة قنا بصعيد مصر استمرت 24 ساعة إثر مشاجرة بين تاجر قبطي وسيدة منقبة طالبها بالكشف عن نقابها لشكه أنها سرقت بضاعة من متجره، واعتقل على إثر تلك المصادمات 25 شخصا من الطرفين، أفرجت عنهم النيابة بعد جلسة صلح عرفية.

ويعد الحادث الطائفي الأبرز في الفترة الماضية هو حادث دير أبوفانا، في مايو (أيار) 2008، حين هاجم عربان من البدو المسلمين دير أبوفانا بمحافظة المنيا بالأسلحة واختطفوا 3 رهبان، وقُتل شاب مسلم بطلق ناري مجهول المصدر، بسبب النزاع على وضع اليد على أراض مملوكة للدولة، واعتقل على إثر الحادث قبطيان، بتهمة قتل الشاب المسلم، ورغم عقد جلسة صلح بين الطرفين برعاية اللواء أحمد ضياء الدين محافظ المنيا وبحضور ممثلين عن الكنيسة القبطية، فإن البابا شنودة الثالث بابا الأقباط الأرثوذكس صرح أخيرا بأن مشكلة دير أبو فانا لم تحل بعد.

وفي يونيو (حزيران) عام 2008، شهدت قرية النزلة بمحافظة الفيوم بصعيد مصر مصادمات بسبب اختطاف سيدة أشهرت إسلامها وتزوجت مسلما وأنجبت منه واستمرت المصادمات حتى تمت إعادة السيدة إلى زوجها.

ووقعت مصادمات مشابهة بين الحين والآخر، كان آخرها يوم السبت الماضي في قرية دفش المنيا بسبب شجار بين تاجرين أحدهما قبطي والآخر مسلم، بسبب معاملات مادية بينهما، وتعددت الأسباب ما بين علاقة عاطفية أحد طرفيها من المسلمين والآخر من الأقباط، أو بسبب محاولة الأقباط تحويل أحد المنازل إلى كنيسة، وانتهت كلها بجلسات صلح عرفية، وإن كانت الأمور على أسوأ ما يكون في محافظة المنيا، الأمر الذي دفع نجيب جبرائيل المستشار القانوني لبابا الأقباط الأرثوذكس لتقديم مذكرة للرئيس المصري حسني مبارك يطلب فيها بإقالة محافظ المنيا، لأن «الحوادث الطائفية في المنيا وحدها خلال العام الماضي فاقت الحوادث التي وقعت في بقية المحافظات»، حسبما جاء بالمذكرة.

وقال جبرائيل: «محافظ المنيا يعالج الأمور من منطلق أمني، بصفته كان ضابط شرطة، وهذا هو أول تهديد للوحدة الوطنية، فالمحافظ منصب سياسي ويجب على صاحبه أن يتحلى بالحكمة والكياسة في إدارة الأمور». واعتبر جبرائيل أن الحل يكمن في نقطتين؛ أولاهما إقرار وسن تشريعات تزيد من ممارسة المواطنة بشكل صحيح وأهمها قانون بناء دور العبادة الموحد، ليقضى على الخلافات التي تنشأ بسبب بناء كنيسة أو تحويل منزل إلى كنيسة، وثانيها أن تنشر وسائل الإعلام ثقافة قبول الآخر والتسامح للقضاء على التعصب. «جلسات الصلح العرفية وعدم تطبيق العقاب على المخطئ في الحوادث الطائفية لا يردع وبالتالي يزيد الاحتقان»... بهذه الكلمات عبر حافظ أبو سعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عن رأيه في تلك الحوادث، معتبرا أن أسلوب المعالجة الأمنية يتنافى مع مبدأ المواطنة الذي أقره الدستور المصري ويرسخ مبدأ التمييز العنصري على أساس الدين ويهدد فكرة السلام الاجتماعي».

وقال أبو سعدة «عدم عقاب المخطئ يظهر أن الدولة تمر بأزمة غياب القانون، ويظهر أن هناك تواطؤا ما بين المسؤولين الرسميين والجناة الذين يرتكبون مثل هذه الأفعال سواء كانوا مسلمين لأنهم من الأغلبية العددية أو كانوا من الأقباط خوفا من الانتقادات الدولية والاتهامات باضطهاد الأقباط».

واتفق معه الدكتور إيهاب رمزي محامي دير أبو فانا قائلا «إن أسلوب إدارة السلطات وخاصة الأمنية يزيد المشكلات الطائفية تعقيدا، لأن القبول بالحل تحت الضغط الأمني لن يحل المشكلات».

واعتبر رمزي أن الأمور في الصعيد متفاقمة بشكل أكبر من أي منطقة أخرى، وقال «الظروف الاقتصادية متردية، بالإضافة إلى أن ثقافة حمل السلاح تعد أحد العوامل المهمة في تكوين الرجل الصعيدي». وشدد على ضرورة أن يرفع الأمن يده عن تطبيق نظرية عناق الشيخ والقس لعلاج المشكلات وأن يبدأ في حل المشكلات من جذورها. أما جمال مساعد محامي عربان ملوي فاعتبر أن تدخل الأطراف الخارجية هو الذي يظهر أن في مصر فتنا طائفية. وقال «أحداث أبو فانا على سبيل المثال لم تكن طائفية وإنما هي نزاع على أرض وتم تحويله لموضوع طائفي»، مؤكدا أهمية المجالس العرفية، فهي كما يرى «لها دور كبير داخل منطقة الصعيد والفلاحين وهي ذات فائدة كبيرة دون اللجوء للقانون والقضاء»، مشيرا إلى أنه كمحام قانوني يرجح مثل هذه المجالس بعيدا عن القضاء، حتى لا يتم إعطاء فرصه للدخول في مهاترات وتصوير البعض على أنها نزاع طائفي، فالجلسات العرفية تقوم باستئصال مثل هذه الموضوعات وحلها بشكل جذري بعيدا عن القضاء.

من جهتها، قالت الدكتورة عزة كُريم أستاذة علم الاجتماع الجنائي «العنف بشكل عام أصبح سمة تتزايد في الشارع المصري»، معتبرة أن تقسيم العنف إلى طائفي وغير طائفي وضد المرأة ونحو ذلك خطأ كبير. وأضافت د.كُريم «العنف موجود بين كل الفئات وكل الطوائف، ولكن تركيز الضوء وخاصة في وسائل الإعلام على العنف بين المسلمين والأقباط يزيد من تفاقم المشكلات».

وأوضحت أن معظم أسباب العنف قد تكون عادية ولكن تضخيم المشكلة عبر وسائل الإعلام هو الذي يزيد الأمور صعوبة، وقالت «قد تحدث مشاجرة بين تاجرين قد يكون كلاهما مسلما أو كلاهما قبطيا فلا تلفت نظر وسائل الإعلام، وعندما تحدث مشاجرة لنفس الأسباب بين تاجر مسلم وآخر قبطي تتحدث وسائل الإعلام عن الفتنة الطائفية».

واعتبرت أن منطقة الصعيد بشكل عام يتسم أهلها بالعنف في التعامل، وقالت «الأطفال في الصعيد يجيدون استعمال السلاح بشكل جيد، وقضايا الثأر هي أبرز دليل على العنف هناك».

أحد المصادر الكنسية بمحافظة قنا بصعيد مصر، قال لـ«الشرق الأوسط» «سبب معظم المشكلات هو رغبة الأمن في إنهاء الأزمات والمشكلات فورا ودون حل جذري لأسبابها».

وقال المصدر، الذي طلب عدم تعريفه، «معظم المشكلات في الصعيد تكون بسبب تحويل المنازل إلى كنائس، والأمن يماطل في إعطائنا تصريحا بذلك، وإن أعطانا التصريح يماطل في التنفيذ، وهناك قرى بها نحو 9 آلاف قبطي ولا توجد بها كنائس فأين يؤدي هؤلاء شعائرهم».

إلا أن مصدرا أمنيا بإحدى محافظات الصعيد قال «لا يمكن أن نسمح باستمرار المصادمات بين المسلمين والأقباط لأنها تكدر السلم العام والأمن الاجتماعي وبالتالي لابد أن تحل في أسرع وقت». وأضاف، مشترطا عدم ذكر اسمه، «نحن لا ننحاز لأي طرف سواء قبطي أو مسلم فالأولوية عندنا لإيقاف المصادمات أو الاشتباكات، لتبدأ بعدها مرحلة المفاوضات والصلح، والذي يتم بسرعة لأن الشعب المصري طيب».

ربما يكون ما قاله المصدر الأمني متناقضا بعض الشيء مع ما قاله البابا شنودة الثالث لـ«الشرق الأوسط» من أن العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر في مجملها ليست طيبة، وقال «شيخ الأزهر رجل طيب وسمح وتجمعني به علاقة طيبة، وكثيرا ما نلتقي في مناسبات مختلفة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه العلاقة الطيبة بين المسلمين والأقباط». وأضاف البابا شنودة أن كل مشكلة يجب أن تحل في إطارها والمناخ الذي نشأت فيه، وتعامل الجهات المختلفة معها، وقال «في المشكلات الطائفية لا نرى دورا سوى لرجال الأمن، وسط غياب تام لأعضاء البرلمان والمجالس المحلية، وبعد أن يتدخل رجال الأمن، تتدخل المؤسسات الدينية لكي تؤيد الحل الأمني».