كركوك.. كلٌ يدرس على هواه

المدارس العربية تتبع مناهج بغداد.. والكردية تؤكد «كردستانية» المدينة.. والتركمانية تترجم كتبها في تركيا

طالبات في صف دراسي بإحدى المدارس العربية بكركوك («الشرق الأوسط»)
TT

تنفرد مدينة كركوك (255 كلم شمال بغداد) بحالة خاصة جدا تتميز بها عن سائر محافظات ومدن العراق الأخرى، ليس على الصعيد السياسي وحسب بل على المستويين الاجتماعي والتربوي أيضا. فالمدينة التي يصفها أهلها وسائر العراقيين أيضا بـ«العراق المصغر»، صارت تعج بالأحزاب والتيارات والقوى السياسية الكردية والعربية والتركمانية والكلدوآشورية والسريانية، بشتى تلاوينها وانتماءاتها الفكرية والعقائدية والدينية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كما هي حال مدارسها الابتدائية والثانوية بل وحتى كلياتها، إذ هناك عدد لا يكاد يحصى من المدارس بمختلف مراحلها تلقن تلاميذها بشتى اللغات العربية والإنجليزية والتركية والكردية بل والسريانية أيضا، والأغرب من كل ذلك هو وجود مدارس تدرس تلاميذها اللغات الأربع المذكورة في آن واحد.

إنها حقا «مدينة التآخي القومي» من المنظور الاجتماعي البحت، فأبناء القوميات الأربع المتعايشة في كركوك يدرسون موحدين ومتآخين في مدرسة مشتركة ويتتلمذون على يد معلم واحد، لكنهم سرعان ما ينقسمون على أنفسهم بعد التخرج تحت تأثير الأحزاب والقوى السياسية المختلفة لقومياتهم. وتتنازع المكونات الرئيسية الثلاثة من العرب والأكراد والتركمان على مدينة كركوك، الغنية بالنفط. ولم يتمكن الساسة العراقيون حتى الآن من الوصول إلى تسوية بشأن عائدية كركوك بين أربيل وبغداد.

ومع انطلاقة العام الدراسي الجديد.. تبدو هذه المدارس المتنوعة كألوان الطيف السياسي.. ويبرز تساؤل: هل الأفكار والأيديولوجيات السياسية تتسرب إلى أذهان التلاميذ ومقاعد الدراسة ومناهجها، أم أن الأحزاب السياسية بشتى تلاوينها في واد، وقطاع التربية والتعليم في واد آخر.

مدينة كركوك الحالية مقسمة من الداخل بالفعل إلى مناطق وأحياء كردية وتركمانية وعربية خالصة وأحياء ومناطق مختلطة، فالأحياء والمناطق الواقعة إلى الشمال الشرقي والغربي منها والمحاذية لمدينتي السليمانية وأربيل هي أحياء كردية خالصة يقطنها الكرد فقط وبعض مناطق وسط المدينة وخصوصا الأحياء الراقية يقطنها التركمان وقلة من العرب والأحياء الجنوبية يقطنها العرب فقط وقليل من الأكراد.

وكذلك حال مدارس كركوك، إذ لا تجد مدرسة كردية في الأحياء التركمانية أو العربية، لكن المدارس العربية والتركية توجد في الأحياء الكردية، أما طبيعة المناهج الدراسية فإنها تختلف كليا في المدارس الكردية عن سواها من المدارس العربية والتركمانية، لا سيما درس التاريخ والجغرافية، مثلما تختلف طريقة إلقاء المحاضرات والدروس بين معلمي ومدرسي هاتين المجموعتين من المدارس.

فالمدارس الكردية في كركوك تعتمد المناهج التي تردها من وزارة التربية والتعليم في إقليم كردستان ومعظم مدرسيها يتقاضون رواتبهم من الوزارة ذاتها، وهي مرتبطة شكليا بقسم الدراسات الكردية في مديرية التربية والتعليم في كركوك المرتبطة أساسا بالحكومة الاتحادية في بغداد حتى الآن، بخلاف المدارس الأخرى التي ما برحت تدرس المناهج التي تردها من بغداد أسوة بمدارس العراق الأخرى، وهنا بيت القصيد، فمناهج التاريخ والجغرافية الكردية بل ومعظم مدرسيها ومعلميها في كركوك لا يخفون كون المحافظة جزءا أساسيا لا يمكن تجزئته من أرض إقليم كردستان منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، بينما مناهج المدارس الأخرى تتطرق إلى جغرافية وتاريخ كركوك كأي محافظة عراقية أخرى.

يقول رمضان حمه صالح، مدير مدرسة «داستان ـ الملحمة» الكردية الابتدائية في حي الشورجة الكردي، إن مدرسته تلقن تلاميذها المناهج التي تردها من إقليم كردستان، وإن غالبية معلمي المدرسة يتقاضون رواتبهم الشهرية من حكومة إقليم كردستان باستثناء ثلاثة منهم. ويمضي حمه صالح في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى القول «في تلقيننا للتلاميذ دروس التاريخ والجغرافية، لا نخفي قط الحقيقة التاريخية الساطعة التي تؤكد كردستانية كركوك ولكننا نقر أيضا بأنها مدينة للتآخي القومي بين الكرد الذين هم الأغلبية قديما وحديثا وبين والعرب والتركمان والكلدوآشوريين، ونوضح لهم بان أفضل حل لمعضلة هذه المدينة هو تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي وإعادة المحافظة إلى الخارطة الإدارية لإقليم كردستان».

وأكد حمه صالح أن مديرية التربية في كركوك المرتبطة بوزارة التربية في بغداد لا تبدي ممانعة أو اعتراضا على هذه المناهج الدراسية المتبعة في المدارس الكردية. وتؤكد سروة محمد، معلمة مادة الاجتماعيات في المدرسة ذاتها، في حديثها لـ«الشرق الأوسط» أنها تدرّس تلاميذ المرحلة الخامسة تاريخ كردستان القديم الذي يتضمن سردا للحقب التاريخية السحيقة التي مرت بها كردستان منذ عهد الكوتيين حتى صدر الإسلام، وتشدد على أن الكوتيين الذين عاشوا في المنطقة بما فيها كركوك هم الأجداد الحقيقيون للكرد.

أما منهاج التاريخ للصفوف المنتهية في المرحلة الابتدائية فإنه يستعرض كيفية انبثاق الإمارات الكردية في كردستان مثل إمارات بوتان وبابان وسوران التي كانت كركوك جزءا منها، ومساعي زعماء الثورات الكردية لتشكيل الدولة الكردية المستقلة، والدول التي أسهمت في إجهاض مساعي الكرد لامتلاك دولتهم وتقويض ثوراتهم، كما يؤكد أن كركوك هي جزء من خريطة إقليم كردستان وستبقى كذلك. لكن جعفر محمد أمين، مدرس مادة الاجتماعيات في ثانوية «كويستان» الكردية، يؤكد أن منهاج تاريخ كردستان المعاصر يدرس حاليا في الصفوف المنتهية للمرحلتين المتوسطة والثانوية للمدارس الكردية.

ويقول أمين «إن هذين المنهاجين يتناولان أبرز الثورات الكردية في أجزاء كردستان الأربعة مع نبذة مختصرة عن سير أبرز قادة وزعماء تلك الثورات مثل القاضي محمد مؤسس جمهورية مهاباد الكردية في كردستان الإيرانية والشيخ سعيد بيران زعيم الثورة الكردية في كردستان تركيا والملك محمود الحفيد والجنرال مصطفى بارزاني زعيم الثورة الكردية المعاصرة في كردستان العراق وغيرهم، كما يتطرق بوضوح إلى الحدود الجغرافية لإقليم كردستان التي تضم كركوك بلا شك».

لكن صفاء عبد اللطيف عبد الله، مدير مدرسة بغداد الابتدائية، التي تدرس باللغة العربية في حي الحجاج الذي يقطنه خليط غير متجانس من الكرد والتركمان والعرب، فقد أكد أن الغالبية العظمى من تلاميذ مدرسته هم من الكرد إلى جانب التركمان والعرب. وقال إن دروس التاريخ مقتصرة على المرحلتين الخامسة والسادسة، مضيفا لـ«الشرق الأوسط»، أن درس التاريخ للصف الخامس يتناول مراحل نشر الدعوة الإسلامية وسيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ومراحل الخلفاء الراشدين، أما في الصف السادس فإنه يتناول مراحل التاريخ القديم والحديث والمعاصر ومراحل الغزوات المغولية والصفوية والعثمانية إلى جانب مرحلة تأسيس الدولة العراقية الجديدة عام 1921، وأبرز الملوك الذين توالوا على حكم البلاد وصولا إلى ثورة عبد الكريم قاسم. ويؤكد عبد الله أن المنهاج «لا ذكر فيه إطلاقا للأقاليم في العراق مثل كردستان والوسط والجنوب وغير ذلك وهو نفس المنهاج الذي يدرس في سائر مدارس العراق الأخرى ولن نحيد عن المنهاج أثناء إلقاء الدروس على التلاميذ ونمتنع عن خلط أو دمج مشاعرنا السياسية أو القومية بالدروس المنهجية». أما شونم نوري، مدرّسة التاريخ في ثانوية النرجس العربية للبنات، فقد أكدت أنها تدرّس الفرع الأدبي بالثانوية وأن مناهج التاريخ للمرحلة الثانوية تتناول بشكل عام المرحلة القديمة التي سبقت صدر الإسلام ثم مراحل نشر الدعوة الإسلامية والحروب والغزوات التي حصلت آنذاك، وأن منهاج مدرستها هو نفسه الذي يدرس في مدارس العراق الأخرى حاليا، ولا ذكر فيه إطلاقا لإقليم كردستان أو حدوده.

لكن نصيرة جليل، مديرة المدرسة الكائنة في حي كردي، أكدت أن الغاية من إبقاء المدرسة على حالها ومناهجها السابقة باللغة العربية رغم كون الغالبية المطلقة من طالباتها من الكرد، هي «الحيلولة دون إخفاق الطالبات اللواتي درسن في السابق باللغة العربية»، وقالت لـ«الشرق الأوسط» إنه «بعد زوال النظام السابق يجري التمهيد لتحويل هذه المدرسة أيضا إلى الدراسة الكردية في غضون الأعوام القليلة القادمة، رغم ميل الكثير من العوائل الكردية نحو تلقين أبنائها باللغة العربية».

وتابعت نصيرة تقول إنه «رغم التزامنا الشديد بالمناهج المقررة التي تردنا من بغداد، وحرصنا على نقل المعلومة إلى طالباتنا كما هي، فإننا نضفي مشاعرنا القومية في الغالب على الدروس المتعلقة بكركوك وتاريخها وانتمائها، سيما أن الطالبات يسبقننا غالبا في التأكيد على الهوية الكردستانية لكركوك كلما ورد ذكرها في منهاج الجغرافية أو التاريخ كمحافظة عراقية، فليس بالضرورة الالتزام بكل ما يردنا من بغداد من قرارات».

في حين أن إسماعيل شاكر، مدير مدرسة «بارش ـ السلام» التركية الكائنة في حي تركماني وسط كركوك، يؤكد أن مدرسته تضم المرحلتين الابتدائية والثانوية وهي تابعة لقسم اللغة التركمانية في وزارة التربية والتعليم العراقية، ويقول إن «مناهج هذه المدرسة هي نفسها التي تدرس في المدارس العربية في العراق لكنها مترجمة حرفيا وبأمانة إلى اللغة التركية اللاتينية من قبل مترجمين متخصصين في وزارة التربية العراقية لكنها نقحت في تركيا لضمان السلامة اللغوية».

وفيما يتعلق بدروس التاريخ والجغرافية قال شاكر «هي نفسها التي تدرس في المدارس العراقية ولم تتغير منها كلمة واحدة ولا ذكر فيها إطلاقا لموقع كركوك أو انتمائها الجغرافي، ولن نترجم مشاعرنا أو انتماءاتنا السياسية إلى دروس لنلقيها على التلاميذ بل ونمنع وصول السياسة إلى مدرستنا بتاتا». وهناك مدارس أهلية حديثة جدا في كركوك مثل ثانوية جاغ النموذجية التي تدرس مناهجها الدراسية العلمية باللغة الإنجليزية إلى جانب تدريس قواعد اللغات التركية والعربية والكردية، وغالبية طلبتها هم من أبناء العوائل الميسورة القادرة على دفع نفقات وتكاليف الدراسة في هذه المدرسة التي لها فروع في مدن إقليم كردستان العراق كافة. وتخضع لإشراف مديرية التربية في كركوك، ويديرها متخصصون أتراك، أما مناهجها الأدبية فهي نفس مناهج المدارس العراقية لاسيما دروس التاريخ والجغرافيا.