زواج وموت.. تحت الأنفاق

لم تعد الأنفاق وسيلة فقط لتهريب البضائع والمواد الغذائية.. بل أيضا الخطيبات والعرسان

الانفاق في غزة في الأفراح والاتراح
TT

بعد أن فرغ خليل نصيف (46 عاما) وزملاؤه في العمل من تحميل 4 بقرات في صندوق المصعد الكهربائي الذي ينقل عادة البضائع من أرضية النفق على عمق 30 مترا أسفل الأرض إلى فوهته، ارتخى على الجدار وهو يمسح عرقه ليرتاح قليلا، وبينما كان يتبادل أطراف الحديث منتظرا نزول المصعد داخل النفق من جديد لكي يحمل مجموعة أخرى من الأبقار، فإذا بالمصعد يهوي على رأسه فيسحقه على أرضية النفق. أصيب ثلاثة آخرون من زملائه بجراح بالغة، فلم ينتبه العمال الذين يقفون عند فوهة النفق وينزلون الأبقار من الصندوق أن خليل ورفاقه ما زالوا أسفل المصعد تماما، فأنزلوا المصعد ثانية دون تحذير زملاءئهم، فحدث ما حدث. وقع الحادث وقع الصاعقة على عائلة خليل المكونة من 11 نفرا، حيث إن العائلة تنفست الصعداء بعد أن انضم خليل لهذا العمل بعد أن كان عاطلا عن العمل وسط أسرته التي تعاني ألم الفاقة والعوز. ما حدث لخليل يسلط الضوء على عالم الأنفاق، ويدلل على أن الموت الذي حصد حتى الآن أرواح 120 شخصا غير ناتج فقط عن انهيار الأنفاق بفعل القصف الإسرائيلي أو الأمطار. بل إن هناك أسبابا أخرى لموت العاملين في الأنفاق، من بينها الخلل في تشغيل المصاعد الكهربائية التي تعتبر جزءًا مهما من أدوات تشغيل الأنفاق، وحدوث الماس الكهربائي. ويقول أحمد، 32 عاما، الذي يعمل منذ عامين في مجال الأنفاق، إنه نظرا للحاجة لتشغيل محركات ضخمة تستخدم في رفع البضائع والإضاءة وتشغيل المصاعد، فإن الأنفاق تعتمد على خطوط كهرباء ضغط عال. ويضيف أحمد لـ«الشرق الأوسط» «الكارثة أنه لا يتم استخدام أجهزة أمان تقوم بفصل التيار الكهربائي عند حدوث ماس كهربائي، وبالتالي فإن حدوث ماس كهربائي داخل النفق يؤدي قطعا إلى وفاة أو إصابة العاملين بشكل خطير». وينوه أحمد إلى أنه لما كان المجال الذي يتحرك فيه العمال ضيقا، فإن حدوث ماس كهربائي يؤدي إلى إصابة عدد كبير من العاملين. ويشير أحمد إلى أنه في بعض الأحيان تتعرى أسلاك الكهرباء جراء الضغط وارتفاع درجة الحرارة أو جراء الاحتكاك بالمواد الحادة، فيؤدي ذلك إلى حوادث التماس الكهربائي. وهناك مصادر أخرى للموت المفاجئ داخل عتمة النفق، فكثير من المواد التي يتم تهريبها داخل الأنفاق ذات رائحة نفاذة جدا، مثل الكلور والعطور، وفي بعض الأحيان تنسكب العلب التي تحتوي على هذه المواد فتتسرب إلى داخل الأنفاق. ويشير خالد (35 عاما)، الذي يعمل في الأنفاق، إلى أنه نظرا لعدم وجود أجهزة لتهوية الأنفاق، فإن بقاء المواد النفاثة يصيب العاملين بالاختناق. ويحكي خالد لـ «الشرق الأوسط» عن تجربته المرة في هذا الصعيد، حيث إنه في أحد الأيام شعر بالاختناق وكاد يقضي عليه لولا أنهم كانوا قريبين من نهاية النفق فصعدوا عبر المصعد حتى ينتهي تأثير هذه المواد. وأشار إلى أنه بعد أن عاد للنفق تبين له أن إحدى مواد الطلاء قد تسربت من علبة في النفق فانتشرت الرائحة لتخنق من كانوا في النفق. ويشير خالد إلى سبب آخر للإصابة داخل الأنفاق يتمثل في الأخطاء البشرية الناجمة عن التعامل مع خط السحب، وهو عبارة عن خط نقل معدني يتم عليه نقل البضائع من الطرف المصري للطرف الفلسطيني للنفق. ويشير خالد إلى أنه نتيجة التعب والإعياء يغفل بعض العاملين في الأنفاق ويضعون أياديهم في مجرى الخط، فيقوم بقطعها، قائلا إن هناك العديد من الأشخاص الذين بترت أياديهم جراء هذا الخلل.

وبالطبع هناك أسباب الوفاة الناجمة عن انهيار الأنفاق جراء القصف الإسرائيلي. فقد حددت إسرائيل «تسعيرة» الرد على عمليات إطلاق القذائف الصاروخية التي تتم من غزة. فردا على إطلاق كل قذيفة تقوم إسرائيل بشن ثلاث غارات على الأنفاق. ويقول سمير (39 عاما) الذي يعمل في مجال الأنفاق لـ«الشرق الأوسط» إن الطائرات الإسرائيلية تحرص على ضرب فوهة النفق لتضمن عدم الاستفاده منه تماما ولجعل مهمة إعادة تأهيله صعبة جدا. وتعتبر الانهيارات الناجمة عن الأمطار سببا مهما في حوادث الموت. وينوه سمير إلى أنه في بعض مناطق الشريط الحدودي،، لا سيما في الجانب الغربي القريب من البحر، تكون التربة رملية فتتأثر إلى أبعد حد بالأمطار، مما يؤدي إلى انهيارها.

ويطالب مركز الميزان لحقوق الإنسان الحكومة المقالة باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان أمن وسلامة من يعملون في تجارة الأنفاق التي أطلق عليها «تجارة الموت». وفي بيان تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه جاء أنه يتوجب على الحكومة في غزة مراقبة البضائع ومدى الحاجة إليها لسد النقص في سلع ومواد أساسية ومراقبة مدى جودتها ومناسبة أسعارها. وانتقد المركز الحكومة قائلا إنه على الرغم من كل هذه المطالبات فإن «جهدا جديا لم يبذل على الرغم من الارتفاع المطرد في أعداد القتلى من ضحايا الأنفاق».

ولم تعد الأنفاق وسيلة فقط لتهريب البضائع، بل أيضا «الخطيبات». فوفقا لموقع «فلسطين اليوم الإخباري» بات الكثيرون من الفلسطينيين مضطرين إلى تهريب مقربين منهم أو خطيبات بسبب صعوبة المرور بين غزة والضفة الغربية. ومن ذلك أن الشاب محمد وردة (32 عاما) انتظر خطيبته ثلاثة شهور، وعندما شعر باليأس أدخلها عبر الأنفاق ليرفع عن نفسه وأهله عناء الانتظار. وفي مخيم النصيرات وسط قطاع غزة سرد وردة قصته بحزن قائلا لـ«فلسطين اليوم»: تعرفت على ابنة عمي التي كانت تسكن مدينة رام الله خلال زيارة عائلية قبل سيطرة «حماس» على قطاع غزة، وتقدمت لطلب يدها أوائل شهر أغسطس (آب) الماضي، وحين أتممنا إجراءات الزواج سريعا بدأت ببذل مساعٍ حثيثة لإدخالها عبر معبر بيت حانون «إيريز»، إلا أن سلطات الاحتلال رفضت طلبي أكثر من مرة، لم أشعر باليأس وواصلت بذل كافة الجهود التي كانت تصطدم بالرفض الإسرائيلي المتواصل.

وأضاف: لم يعد بوسعي الانتظار، وقررت أخيرا أن أحضرها عبر الأنفاق، فاتصلت بقريب لي ليرتب إجراءات الدخول عبر الأنفاق لقاء نحو ألفي دولار، بينما بلغت تكاليف السفر من الضفة إلى الأردن ومصر نحو ألفي دولار أخرى، مما أدخلني في أزمة مالية طاحنة. الشاب وردة ليس الشاب الوحيد الذي يفكر في هذا الخيار فهناك عشرات الشبان الذين لا يجدون أمامهم من مفر سوى إحضار عرائسهم وأقاربهم عبر الأنفاق. الشاب أحمد إبراهيم (25 عاما) من مدينة رفح قال إنه سيحضر عروسه الشهر القادم عبر الأنفاق، إذا استمر إغلاق معبر رفح بشكل دائم.

وفي منزله الذي ما زال بحاجة لإجراء مزيد من التشطيبات قال إبراهيم لـ«فلسطين اليوم»، إنه تعرف على خطيبته أثناء وجودها في غزة للدراسة، ثم عادت إلى عائلتها في الإمارات العربية وأغلقت الحدود، مضيفا أنه بانتظار أن تعود إلى غزة مع عائلتها ليتزوجا. لكنه لا يستطيع الانتظار إلى ما لا نهاية، كما يقول، وإذا استمر الحصار فسوف يكون مضطرا لإدخالها عبر نفق يملكه أحد أقاربه.

الحديث عن إحضار عرائس عبر الأنفاق لا يبدو غريبا في منطقة الأنفاق في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، فهناك يمكن سماع عشرات القصص من مالكي الأنفاق عن العرائس اللاتي يدخلن غزة بعد أن طال انتظار فتح الحدود والتنقل بحرية بين مصر ورفح، وأغرب ما سمع من قصص تلك التي تروي دخول عروس كندية إلى غزة عبر الأنفاق لتتزوج شابا فلسطينيا تعرفت عليه عبر الإنترنت.

عدد الداخلين إلى غزة عبر الأنفاق لا يمكن معرفته بسبب عدم السيطرة على الأنفاق، لكن القادمين إلى غزة هم أكثر بكثير من الخارجين منها وفق ما أكده العديد من أصحاب الأنفاق. ولا ينكر أبو رمزي (اسم مستعار) صاحب أحد الأنفاق وهو يقف أمام فتحة النفق هذه المسألة، ويقول إنها تتم لاعتبارات إنسانية فقط وبشكل مجاني.

وأضاف: لا نتلقى أموالا لقاء إحضار أشخاص من مصر إلى غزة، ومن نحضره فقط لقضايا إنسانية، ولا يمكن أن نرسل أناسا إلى الطرف المصري.

ولفت إلى أن هناك بعض الأشخاص الذين يتقاضون أموالا لقاء هذا العمل، إلا أن غالبية الحالات تتم بشكل مجاني لأنها ترتبط بأصدقاء وأقارب يمرون بأوضاع إنسانية صعبة.

وقال أحد العمال في النفق ضاحكا: كل من يدخل إلى غزة عبر الأنفاق يكون خائفا خاصة النساء، ويتم في بعض الأحيان إعطاؤهن حبوبا مهدئة لتجاوز الأمر بسهولة.

ويؤكد هذا العامل أن كثيرا من الناس يدخلون من مصر وإليها عبر الأنفاق لأسباب اجتماعية فقط ثم يعودون.

ولا يخفي هذا الشاب حقيقة تمكنه من دخول الجانب المصري لمدة عشرين يوما فقط للنزهة ولأجل قضاء أوقات سعيدة بعيدا عن أجواء العمل الخطر في الأنفاق، التي حصدت حتى الآن أرواح 127 شابا من غزة 59 منهم خلال عام 2009.

ويكشف تواصل الحديث مع عمال الأنفاق عن مزيد من القصص التي تتحدث عن أشخاص يعبرون إلى غزة لبدء حياة جديدة فيها مع من تختارهم قلوبهم من أحبة.

في مكان مجاور لنفق أبو رمزي كان عمال نفق آخر منهمكين في إخراج ألواح من الخشب من النفق وترتيبها في مكان قريب، تمهيدا لحضور التاجر الكبير من غزة لبيعها بالمفرق لأصحاب محلات الموبيليا الذين يواجهون بطالة مقنعة لغياب الخشب من السوق المحلية.

ويقول سعيد، صاحب النفق، وهو يشعر بالفخر لنجاحه في إدخال كمية الخشب المطلوبة للزبون، إن الأخشاب تستخدم في صناعة غرف النوم التي يحتاجها الشبان المقبلون على الزواج. لقد باتت الأنفاق بمثابة مدينة مستقلة بذاتها فيها كل ما في المدينة من أتراح وأفراح.