طالبان.. الصومالية

ممارسات في مقديشو مثل نزع الأسنان الذهبية ومشدات الصدر واللجام الحديدي للحمير ومنع الموسيقى والأفلام تثير الخوف

صوماليون خلال تثبيت حكم في مقديشو على أحد المتهمين بعد محاكمة أمام المحاكم الإسلامية
TT

عادت إلي السطح هذه الأيام ممارسات من قبل الإسلاميين الصوماليين تتضمن صورا لتطبيق الشريعة الإسلامية حسب منطلقات محددة يقول منتقدوها إنها نسخة أخرى عن طالبان الأفغانية، وتكررت أحكام مثل فرض مظاهر معينة في شكل لباس المرأة والرجال والفصل بين الجنسين في الحافلات العمومية، وإجبار الناس على إغلاق المحلات أثناء تأدية الصلوات، ومنع استخدام اللجام الحديدي للحمير، ومنع مشاهدة الأفلام، وسماع الموسيقي، وقص الشعور الطويلة من الشبان، كل ذلك بحجة مخالفته للشريعة الإسلامية. وأشيعت أيضا ممارسات أخرى أكثر تشددا لبعض المسلحين الإسلاميين، من بينها منع النساء من ارتداء مشدات الصدر، ونزع الأسنان الذهبية، لكن أيا من الفصائل الإسلامية لم يعلن تبنيه صراحة لهذه الممارسات الأخيرة وإن ألصقت بهم من قبل وسائل الإعلام. ولقصة تطبيق الشريعة الإسلامية في الصومال كما يراها الإسلاميون المعتدلون منهم والمتشددون جذور في نشوء مجتمع ما بعد الحرب الأهلية في الصومال تحكيها السطور التالية. ظهرت فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية في الصومال كشعار رفعه الإسلاميون بمختلف انتماءاتهم بعد انهيار الحكم المركزي في الصومال عام 1991، ولم تكن هذه الفكرة مدروسة ومنسقة بقدر ما كانت شعارا حماسيا كان يعتمل في أنفس الإسلاميين الذين منعوا من العمل السياسي طوال فترة حكم الرئيس الصومالي الأسبق الجنرال محمد سياد بري 1969 ـ 1191. وقد بدأت التجربة الأولي من تنفيذ الأحكام الشرعية بشكل متواضع تمثل في الجلد والتعزير في ميادين عامة، لكن سرعان ما اختفت بعد اندلاع الحرب الأهلية عقب سقوط النظام، فلم يجد الإسلاميون ظروفا لتطبيق الشريعة كما يراها بعضهم، ثم عادت أيضا عام 1993 بشكل متواضع أيضا في المنطقة التي كان يسيطر عليها زعيم الحرب السابق «موسى سودي يلحو» جنوب مقديشو بالتعاون مع إسلاميين من التيار السلفي، إلا أن هذه التجربة أيضا تلاشت بعد فترة قصيرة على الرغم من أنها اقتصرت على الجلد والتعزير والحبس. وكانت التجربة التالية لتطبيق الشريعة قد عادت بقوة أثناء إنشاء ما عرف بالمحاكم الإسلامية أو بمحاكم تطبيق الشريعة عام 1994 في منطقة شمال مقديشو التي كان يسيطر عليها الرئيس الصومالي الأسبق علي مهدي محمد، لكن طابع المحاكم الإسلامية هذه كان طابعا قبليا، إذ لم تكن تسري إلا في المناطق التي كانت تخضع آنذاك للرئيس علي مهدي. وكان معظم الإسلاميين الذين قادوا هذه التجربة من التيار الصوفي ولم تكن التيارات الإسلامية الأخرى ذات وزن كبير في تسييرها.

واقتصر عمل المحاكم الإسلامية ذات الطابع القبلي في هذه الفترة على الفصل في المنازعات المدنية وكذلك التعامل مع الجرائم الكبيرة مثل القتل والنهب والسرقة ولم تكن تتدخل في المظاهر العامة للشارع. وبما أن هذه المحاكم ولدت في فترة فوضى، فإن هيكلها وتكوينها كان يختلف عن المحاكم العادية بحيث أن لكل محكمة قوة بمثابة شرطة تقوم هي بالقبض على المتهم ثم تعتقله وتحاكمه أيضا وتنفذ الحكم عليه!. واكتسبت هذه المحاكم شعبية كبيرة لأنها استطاعت القضاء على الفوضى وأعمال النهب والسرقة في مناطق واسعة من الصومال وأعادت الأمن والاستقرار إليها ونفذت أحكاما بالرجم على متهمين بارتكاب الزنا، وأحكاما بقطع يد السارق وأخرى بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، بتهمة قطع الطرق، وكذلك أحكاما بالقتل رميا بالرصاص علا متهمين بالقتل، وكان لهذه الأحكام، التي لقيت انتقادات كثيرة من جهات مختلفة لعدم اتباعها إجراءات التقاضي المعروفة قانونيا، فعل السحر في إخافة الميليشيات القبلية وعصابات النهب. وقد ابتكر القائمون على هذه المحاكم طريقة لإثارة الخوف في أنفس المجرمين المحتملين، حيث كان يتم عرض الأطراف المقطوعة من المحكومين في ميادين عامة وتعلق على أعمدة الكهرباء ليتفرج عليها الناس العاديون. كما أن الإعدامات وعمليات الرجم كانت تتم في ساحات مفتوحة بمشاهدة الآلاف، وهذا النمط عاد مع المحاكم الإسلامية الموجودة حاليا بجنوب الصومال. واستمرت هذه التجربة حتى عام 1997 لكنها تلاشت هي الأخرى بعد نشوب خلاف بين الرئيس علي مهدي المنتهية ولايته وبين رئيس المحاكم «الشيخ علي طيري» ثم انقسم قادة المحاكم على أنفسهم مما أدى إلى انهيار هذه التجربة وعودة الفوضى من جديد. وانطفأ بريق المحاكم الإسلامية، إلا أنه كان هناك اتفاق بأنها وحدها القادرة على ضبط النظام وردع المعتدين على الرغم من أنه كان هناك استياء عام من جموح الإسلاميين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم هم الوحيدون الذين يطبقون الشريعة في أنحاء العالم. وقد حكى أحد الإسلاميين الذي كان يقيم في إحدى الدول العربية آنذاك لـ«الشرق الأوسط» أنه اقترح خلال اجتماع مع عدد من شيوخ المحاكم في مقديشو السعي لدى دولة عربية لتدريب القضاة لتحسين كفاءاتهم فقالوا له: «نحن لدينا خبرة كافية في تطبيق الشريعة ومستعدون لتدريب قضاة من الدولة العربية هذه نفسها ونعلم قضاتهم كيف يطبقون الشريعة» فدهش الرجل من مدى الغرور الذي كان يسم تصرفات رجال المحاكم آنذاك.

وجاءت المرحلة الثالثة لمحاكم تطبيق الشريعة في الفترة ما بين 1998 ـ 2002، فقد عادت محاكم أقل قوة وعنفوانا من المحاكم السابقة، وكانت القوة المسلحة التابعة لها أقل عددا ولذلك كانت تتعامل مع القضايا المدنية وتأديب المراهقين بالاتفاق مع أسرهم وكانت تتقاضى مكافآت على هذا العمل، كما أن رجال الأعمال كانوا يتبرعون لهذه المحاكم لأنها كانت تصب في صالحهم، حيث كانت تقوم بتأمين الطرق التي تمر بها بضائعهم، ولم تقم أي من هذه المحاكم بإصدار أحكام بقطع اليد أو الرجم وما شابه، وكانت تقتصر فقط على إصدار أحكام السجن على العصابات المسلحة والفصل في القضايا المدنية. وشهدت هذه المرحلة تنامي نفوذ التيارات السلفية والإخوانية على هذه المحاكم كما دخلت الآيديولوجيا لأول مرة في تسيير هذه المحاكم، ومع ذلك فإن طابعها كان هادئا بالمقارنة مع المرحلة التي سبقتها (1994 ـ 1998).

وبعد وصول الرئيس الصومالي السابق عبد القاسم صلاد حسن إلى السلطة عام 2000 كان هنا نوع من التفاهم بينه وبين قادة المحاكم الإسلامية الذين كوفئوا بمنحهم مقاعد في البرلمان الانتقالي وتم دمج قضاة المحاكم في الأجهزة القضائية الضعيفة للحكومة، ولكن هذه التجربة لم تنجح بسبب فشل الرئيس عبد القاسم صلاد في بسط نفوذه على العاصمة فضلا عن المناطق الصومالية الأخرى لأن أمراء الحرب المعارضين كانوا يقتسمون مناطق مقديشو وأجزاء البلاد الأخرى ووقفوا في طريق الرئيس الجديد.

ولهذه الأسباب بدأت المحاكم الإسلامية تبحث عن نفسها من جديد وعادت بشكل تدريجي يمكن تسميته بالمرحلة الرابعة لمحاكم تطبيق الشريعة، حيث إن مجموعات الإسلاميين أنشأوا محاكم إسلامية، كل في منطقة قبيلته لتصل هذه المحاكم إلى العشرات، ثم تبلورت فكرة توحيد هذه المحاكم في كيان واحد لتنسيق أعمالها والربط بين مناطق عملها وتبادل القضايا والملفات وكان ذلك عام 2004، وكان إلى جانب العمل القضائي، هناك جانب سياسي آخر كان يستظل بهذا الكيان على الرغم من أنه لم يفصح عن نفسه كجهة سياسية إلى أن أعلن عن إنشاء «مجلس المحاكم الإسلامية» برئاسة الشيخ شريف شيخ أحمد (الرئيس الصومالي الحالي) والشيخ حسن طاهر أويس (زعيم المعارضة حاليا) رئيسا لمجلس شوري المحاكم، وظهر تنظيم الشباب المجاهدين كأحد الأجنحة القوية للمحاكم الإسلامية التي دخلت في حرب دموية مع أمراء الحرب المدعومين من الولايات المتحدة إلى أن انتهت بانتصار المحاكم الإسلامية منتصف عام 2006. ولم يدم ذلك الانتصار إلا 6 أشهر فقط تلاها التدخل الإثيوبي الذي استمر عامين حتى يناير (كانون الثاني) 2009.

ومع أن كيان المحاكم الإسلامية تلاشى عمليا بعد انقسام الإسلاميين الصوماليين بين مؤيد للرئيس شريف شيخ أحمد ومعارض له، فإن ممارسات «تطبيق الشريعة» المثيرة للجدل لا تزال سائدة في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل الإسلامية، فأحكام الجلد والرجم وقطع الأيدي والأرجل تنفذ بشكل متكرر، ويرى منتقدو الإسلاميين ومنظمات حقوق الإنسان أن ظروف تنفيذ مثل هذه الأحكام غير متوفرة في الصومال في الوقت الراهن وبالتالي يطالبون بالتريث فيها ودرء الحدود بسبب الشبهات الكثيرة الموجودة. وقد انتقدت المنظمات الحقوقية دعوة السكان إلى مشاهدة تنفيذ أحكام الإعدام لما يترتب عليها من مضاعفات نفسية سلبية على المشاهدين. وقد توقع كثير من المحللين أن تكون التجارب المريرة التي خاضها الإسلاميون الصوماليون، خاصة الذين لجأوا إلى السلاح لتحقيق سياساتهم، كافية للوصول إلى نضج سياسي وفكري معقول بعد هذه السنوات الطويلة، لكن آخرين يرون أن النتيجة دائما «طالبانية» متشددة في فرض ممارسات خاصة على المظاهر العامة في هذا البلد الذي تعقدت الأوضاع فيه بعد أن أصبح الإسلاميون المسلحون طرفا في الصراع الدائر في الصومال.

* نعتذر لعدم نشر اسم الكاتب لدواع أمنية.