الخوف .. والتاميفلو في بر مصر

إنفلونزا الخنازير تثير قلقا دائما وغيرت عادات الكثير من المصريين
TT

«سهّير ليالي وياما لفيت وطفت - وف ليله راجع في الضلام قمت شفت - الخوف.. كأنه كلب سد الطريق - وكنت عاوز أقتله.. بس خفت - عجبي !!».

كانت كلمات صلاح جاهين، تقفز من لهاث عمرو، وحروفه الغاضبة وهو يهدئ من خطواته، بعد شوط طويل من المطاردة من قبل رجال البلدية، تخلص بمساعدة زميله من لوح خشبي ثقيل يحمل مجموعة من الجوارب الصينية الجديدة، يبيع منها الثلاثة بمبلغ عشرة جنيهات، على رصيف شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، صفرة وجهه كانت ثمنا إضافيا يدفعه على ثمن بضاعته، ثم يخصمه من عمره وصحته النفسية. تتكرر نوبات الهلع لدى عمرو وزملائه على مدى الساعات الأربع التي تبدأ من منتصف الليل، تخف تدريجيا بمرور الوقت، تهدأ صفارات «الناضورجية» على أول الشارع، وهم أطفال مهمتهم إطلاق صفارات التحذير عند لمح عربة البلدية قادمة من بعيد، اختار عمرو أن يقسط نوبات هلعه، فهو ابن لأسرة تقطن منطقة عزبة النخل الأقرب إلى العشوائية بشمال القاهرة، تخرج في كلية التجارة بعد أربع سنوات قضاها كمعسكر تعذيب، مصادفة الحياة قسمت أوقاته بين العمل في مقهى بالمقطم واختطاف سويعات في محاضرات معدودة بكليته، والتفكير في مستقبل مجهول، وهو لا يملك مستقبلا، لا إرث ولا فرصة عمل تليق بشهادته، ولا منفذ ضوء تتيحه حفنة أموال تفيض من معاش الوالد، كاتب الصحة المنهك بغبار السنين، كي يصقل مهاراته في اللغة والحاسب الآلي ليتمكن من قنص وظيفة في شركة استثمارية، أو مقعد في أول طائرة للهجرة. كان احتمال إعادة سنة من سنوات الدراسة هو الجحيم بعينه، في ظل تواضع إمكانيات الأسرة، بل كان انقطاعه أسبوعا عن وقوفه على «نصبة المقهى» لظروف المرض فألا سيئا يحبط خطته السنوية لعبور «معسكر التعذيب».

توقفت خططه للقفز درجات في السلم الاجتماعي المصري بعد انضمام عمرو لطابور البطالة، وأصبح واحدا من بين ملايين لا يجدون عملا، وهو الأمر الذي رصده تقرير صادر من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فقد أكد أن نسبة البطالة في الفئة العمرية من 20 إلى 24 سنة بلغت 51.1% يليها الفئة العمرية من 25 إلى 29 سنة بنسبة 22%، ثم الفئة العمرية من 15 إلى 19 سنة بنسبة 18.4%. بينما بلغت البطالة بين شباب المؤهلات العليا من الفئات الشابة 31.7%.

كان عمرو واقعيا واستسلم للرصيف لينهي هواجس الجوع في ظل البطالة، ظن أن خوف الساعات الأربع أرحم من الهلع الدائم، لكن خاب ظنه مع هجوم هواجس أخرى للمستقبل.. هاجس انقطاع جزء من معاش الأب مع بلوغه الثامنة والعشرين.. هلع حين سقطت أمه مريضة أمام عينيه وهو لا يستطيع تحمل مصاريف علاجها.. قلقه من فكرة الزواج في ظل مستقبل غير آمن، حتى الهواجس البسيطة من ملاحقة ضباط الشرطة له وهو عائد إلى بيته قرب الفجر باتت تؤرقه وهو ابن «الغلابة» لن تحميه واسطة لو نسي بطاقته الشخصية، في يوم من الأيام.

بشيء من الصرامة تعود عمرو على مصادقة الخوف مدة ساعات عمله الأربع.. يتجنب السياسة و«دوشتها».. لا يصلي في مسجد يرتاب في أمر القائمين عليه.. يتسامح مع من يسبه أو يصيح في وجهه غاضبا لأي سبب كان، حياته لخصها في الصندوق الخشبي والجوارب، ليحصل على 20 جنيها يوميا تضمن استمرار قطار الحياة بلا توقف، ينام أقرب للجثة مع طلوع الشمس ليستأنف مصارعته للأيام.

وفي بنك مصري استثماري شهير كانت قسمات وجه جيرمين تقطر ألما، وهي تحكي عن معاناتها اليومية وقت انتظارها لسيارة تاكسي تقلها إلى منزلها من وسط القاهرة إلى ضاحية المعادي، هي خريجة الجامعة الأميركية، تلقت تعليمها الأولي في مدرسة دولية مرموقة، عضو في نادي الجزيرة الأرستقراطي، تبدو فتاة عصرية متحررة الملبس والعقل، لكن تضايقها نظرات سائقي التاكسي، مع ابتسامة باهتة تصيبها بالرعب، خاصة إذا تأخرت للتاسعة مساء، عندئذ تتحول شوارع المعادي الهادئة المشجّرة، إلى بيت للأشباح عليها أن تتسلح داخله، بـ«self defense» أو آليات الحماية الشخصية، أو تكلم أهلها بالهاتف طوال الطريق مع تذكر رقم السيارة بشكل دقيق.

تقول جيرمين: «لا أستطيع استخدام سيارتي لظروف الركن المستحيل.. والزحام الخانق على طريق الكورنيش، أستخدم التاكسي.. ملابسي محتشمة لكني لست محجبة.. كنت أعتقد أن التاكسي بديل آمن للفتاة، يحميها من تحرش الشارع.. لكن من الواضح أنني مخطئة».

وبينما تعاني جيرمين من هلع التحرش فإن هند، وهي طالبة منتقبة بجامعة «عين شمس» تعاني من هلع «الريبة» فهي عرضة لما أسمته الشك الدائم من قبل مسؤولي جامعتها، والمشرفين على المدينة الجامعية، يفترضون أنها رجل يتسلل إلى غرف النساء، كثيرا ما تتعرض للتوقيف على بوابات الجامعة، وتجبر على خلع نقابها على باب السكن الجامعي، ناهيك عن النظرة العامة إليها والتي تبدو غالبا متشددة ومغالية في الدين، لكن هند تعتبر ما تتعرض له وتشعر به ضريبة وجهادا للنفس سيجازيها الله به خيرا.

مجتمعيا يقول متابعون إن الخوف والقلق يتخذ في مصر شكلا مبالغا فيه، عن بقية المجتمعات، فالمصريون في تعاملهم مع الجوارح، يتجنبون استخدام الأمراض باسمها، فيقولون «المرض الوحش»، «المرض اللعين»، «البطال». ويقول الدكتور أحمد شوقي العقباوي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر إن تربية النشء في مصر تغرس فيه الخوف والقلق والتوجس، وهو ما يعطل برأيه الإنتاج ويبطئ التغيير، «فكلمة خد بالك أكثر كلمة يستعملها الوالدان في تعاملهما مع أطفالهما، وهو ما ينشئهم على الحذر من كل شيء».

ويربط العقباوي بين مصر كمجتمع زراعي يرتبط الفلاح فيه بمصالح دائمة يخاف عليها وبين عدم إقدامه، وحذره المبالغ فيه، كما يشير إلى ضعف الثقة والإيمان كعوامل تزيد من درجة الخوف، وذلك مع تحول التدين إلى شكل طقسي أكثر من كونه سلوكيا، أو إيمانيا. مع تأكيد البعض بأن ثقافة الخوف متغلغلة في التراث الشعبي، والدليل شيوع أمثال من قبيل «من خاف سلم»، «امشِ سنة ولا تخطي قنا»، أي عليك بالسير لمدة سنة ولا تخاطر بعبور قناة، حتى مطرب الشعب سيد درويش عندما أراد التعبير عن حبه لحبيبته في أغنية قال: «خايف أقول إللي في قلبي.. تتقل وتعند ويايا».. لكن الدكتور صلاح الراوي أستاذ الأدب الشعبي بأكاديمية الفنون يشدد على نفي ذلك ويقول: الجماعة الشعبية في تعاملها مع الواقع تواجه ثلاثة تحديات، أولها فيزيقي مثل ظروف المناخ والجاذبية وقسوة الطبيعة، وثانيها ميتافيزيقي غيبي كالجن والعفاريت، وثالثها سياسي ويتجسد في قمع السلطة أو سطوتها»، وهي تقاوم برأيه على المستويات الثلاثة وتخضع تلك التحديات لإمرتها، إذا استطاعت ذلك، وفي حالة العجز تظهر المقاومة عبر الحكم والأمثال والأغاني، فمع اشتداد قمع السلطة في فترات تاريخية سابقة مثلا ظهرت أغنية تقول «يا عزيز عيني والسلطة خَدت ولدي.. بلدي يا بلدي وأنا بدي أروح بلدي»، وفسر البعض الأغنية على أساس أنها خوف من السلطة وهذا تفسير خاطئ، بل مقاومة للقمع بطريقة متاحة.

وقال الراوي إن البسطاء في مصر مارسوا طقوسا قد يظن البعض أنها خرافية، كالنوم تحت القطار الواقف من أجل الإنجاب، أو وضع المولود في بطن عجل مذبوح لتجنب المرض، لكنهم مارسوها لعدم توافر البديل المناسب للتغلب على الخطر، والدليل أن الفلاحات في الريف أقبلن على الوحدات الصحية بعد توافرها وتجنبوا الخرافة.

وبحسب الراوي فإن بعض الباحثين استغرقوا في تأكيد الخوف عند الشخصية المصرية، والخوف هنا بمعنييه الهلع والتطير أي التوجس والتفاؤل والتشاؤم، فاستدلوا على تلك الطبيعة المصرية، بأن المصريين في خطابهم اليومي يتجنبون استخدام أسماء الأمراض الحقيقية، فيقولون مثلا عن السرطان «المرض الوحش»، وعن الشخص الشرير «البعيد فلان»، بل إذا دخلوا مكانا جديدا قالوا «دستور يا أسيادنا» في إشارة إلى استئذان الجن، أو «بيني وبينكم ساتر حديد».

لكن الراوي يرى في التعبيرات السابقة دليلا على اللياقة والذوق الشعبي العالي، وليس الخوف، «فهم لا يريدون إيذاء المستمع فيخففون الكلام، ولذلك مثلا يسمي المصريون الضرير: البصير، والأعور: كريم العين، ومن لدغه ثعبان أو عقرب: السليم.. وهكذا».

وعلى العكس يجد الراوي في التراث المصري ما يؤكد إقدام المصريين وثباتهم، والأمثال التي تؤكد ذلك عديدة منها «رب هنا رب هناك» أي لا تخف من شيء فالرب واحد في كل مكان، أو «العمر واحد والرب واحد»، أو «اللي يخاف من العفريت يطلع له».

ولا يرى الراوي في الخوف عيبا يصم الشخصية المصرية، فالخوف ظاهرة صحية، تأتي مقدمة للإنجاز، فبرأيه الجندي لا بد أن يصاب برعشة خفيفة قبل انهماكه في المعارك، والطالب لا بد من شعوره بخوف نسبي قبيل دخوله الامتحان، ومن الطبيعي أن يخاف الناس مثلا وهم يتداولون أخبار إنفلونزا الخنازير لأخذ التدابير اللازمة.

ويقول الراوي إن الجماعة الشعبية عند تعرضها لهزة ضخمة تخيفها فإن التوحد في المجموع إحدى وسائل مقاومتها للخوف، فبعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 مثلا، أو وقت موت عبد الناصر خرج الناس للشوارع، وكان غريبا أن تتجه الكتل إلى النيل، وكأنه رمز الحماية وإعادة الحياة، والمثل الشعبي يرصد ذلك بدقة فيقول «حط رأسك وسط الروس.. وادع عليها بالقطع»، أي من يضع رأسه وسط المجموع لن يصيبه شيء حتى لو دعا بقطعها فلن تقطع. ويعطي الكاتب صلاح عيسى، الذي وضع أكثر من مؤلف يتناول أجزاء من التاريخ الاجتماعي لمصر، للخوف منحى طبقيا، فيشدد على أن الرأسمالية المصرية الحالية في أغلبها، كونت ثرواتها بالصدفة، وبعضها كانت بداياته بشكل غير شرعي عبر تجارة العملة، أو الأغذية الفاسدة أو التجارة في أراضي الدولة، ووفق قاعدة «ما تجلبه الرياح تزيله الأعاصير»، فإن هؤلاء في حالة قلق دائم من زوال ثرواتهم، ومن هنا ساد الاعتقاد مثلا بالتأثير المبالغ فيه للحسد، وإمكانية زوال نعمة لأسباب عارضة.

لكن الأمر مختلف تماما عند الطبقة الدنيا والوسطى، بل الطبقة العليا ممن كونوا ثرواتهم عبر التراكم الشرعي للخبرات والأموال، فهؤلاء يملؤهم الإيمان والثقة بقدرتهم على التكيف مع تقلبات الزمن مهما كانت.

ويضيف عيسى: «الفقير في مصر لديه إيمان بالقدر، وصبر وأمل في أولاده وفي غد أفضل.. ولهذا صبر على الطغاة والظروف السيئة، حتى أمثاله دعت لذلك.. فقال: اصبر على جار السوء ليرحل يا تجيله مصيبة تاخده.. إضافة إلى إيمانه الديني بالقدر والمكتوب، وأن الخير سينتصر في النهاية».

لكن كلام عيسى لا ينفي أن هناك ملمحا للقلق يسيطر على المصريين دائما، ففي فترة الستينات بحسبه، «كانت مسرحيتا السلطان الحائر، وبنك القلق لتوفيق الحكيم عملين بارزين يجسدان قلق النخبة المثقفة على المستقبل، وكان التساؤل المسيطر على النخبة الاقتصادية، من جانب آخر، هو: إلى أين نحن ذاهبون؟ وهي المخاوف والهواجس نفسها التي تسيطر عليهم إلى الآن..». ولعل المبادرات الأخيرة بشأن المستقبل السياسي والخوف من الفوضى لدليل على ذلك.

وعن وجود الخوف كمرادف للخنوع، نفى عيسى ذلك، بدراسة نادرة أجراها الكاتب الشهير عباس محمود العقاد على الشخصية المصرية، في كتابه عن سعد زغلول، فقال إن المصريين شعب غير غضوب، ولديه حكمة خاصة ألا يجر إلى معارك غير مستعد لها، لكنه يثور إذا مُس شرفه أو عرضه أو أمنه، وغير ذلك يتسم بالمرونة. وفي السياق ذاته يشدد الأديب خيري شلبي على نفي شيوع ثقافة الخوف في مصر، فيقول: «التخاذل والرضوخ، صفات رمي بها الشعب المصري بلا سبب مقنع، وهي خاطئة في مجملها.. وتعبر عن عدم فهم دقيق للشخصية المصرية.. فالمصري حذر، لكن ليس جبانا، هو مكار مكر فلاحين، فمصر الفلاحة هي الأساس وتضم في طياتها مصر الصناعية والتجارية بعد ذلك».

ويعيد شلبي للحذر المصري أصله التاريخي فيقول: «السلطة في مصر كانت على غير وفاق مع الشعب في فترات تاريخية متعددة، سواء في فترات الحاكم الإله أو الحاكم الأجنبي.. اليوناني تارة والروماني تارة أخرى والهكسوس في أحيان والفاطمي أو المملوكي أو العثماني في تارات أخرى، وفي علاقته مع السلطة لم يكن الفلاح يريد الصدام معها، لأنه يعرف أن البطش سيكون مصيره، ولذلك يلجأ للحيلة، أو التقية السياسية يتقي الحاكم لأنه تحت إمرته، يدين له بالولاء وهو يحارب الحاكم من تحت لتحت، أو ميه من تحت تبن، كما يقول المثل الشعبي، أي أن السلطة تظن أن الأرض مستوية تحت قدميها بينما هي في حقيقتها رخوة، والشعب المصري عنيد لأبعد الحدود.. يفعل عكس رغبات السلطة حتى في أكثر الفترات قمعا». وأضاف شلبي: «تجذرت تلك السلوكيات في طبيعته واتخذت أشكالا عديدة ففي البرامج التلفزيونية مثلا، يقول الجمهور أو الضيف ما يريده المذيع، لا يعبر عما بداخله بصدق.. يجاملون كل سلطة في الظاهر بينما يضمرون مشاعرهم الحقيقية داخلهم إلى أن تحين اللحظة المناسبة لإخراجها».

وتابع: «حتى على مستوى تعاملهم مع المشاهير والنجوم قد يغدقون أموالهم على فنانين تافهين ويمنحونهم الشهرة والثروة لكنهم لا يحترمون إلا من يقدم فنا صادقا، فهؤلاء لهم مكانة خاصة تبرزها مناسبات عديدة كموت هذا الفنان أو مرضه أو وقوعه في ورطة ما.. عندئذ يجد المساندة، أو يخلد اسمه». وبعكس الشائع يشدد شلبي على أن المصريين «لا يخشون السلطة بل فقط يرشدون غضبهم وتخرج ردود أفعالهم في صور عديدة وقاسية».

ويرى شلبي في مشاعر الخوف المتنامية على المستقبل والحاضر ولقمة العيش ومسارات الأبناء بمثابة قلق صحي ينمي المهارات والملكات، وروح التحدي، ويحافظ عليها من الموت. ويقول شلبي إن القلق مقدمة للغضب، والغضب برأيه شعور نبيل يغير الواقع في أحيان كثيرة للأفضل.

لكن رغم كلام شلبي فإن عمرو صاحب الخوف منذ سنوات عديدة، وتعامل معه بمنطق مباراة ذات جولات يومية، لم يعد يغضب، من ملاحقة البلدية، بينما استطاعت جيرمين أن توفر مكانا لركن سيارتها التي تحميها من نظرات وكلمات التحرش، مقابل مبلغ شهري، وتواصل هند لبس نقابها بلا كلل، فيما تعسكر الأمهات مع أطفالهن خشية الإنفلونزا، ويتسابق الملايين على نيل علب «التامفلو».