هل سيكون مقعد البرادعي مريحا؟

الياباني محب الأوبرا صاحب الصوت الخفيض.. أمامه تحديات كثيرة على رأس وكالة الطاقة الذرية

محمد البرادعي
TT

تسلم الياباني، يوكيا أمانو، هذا الأسبوع منصبه كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مقرها بالعاصمة النمساوية، فيينا، خلفا لمديرها الأشهر الدكتور محمد البرادعي الذي أدارها لمدة 12 عاما كاملة، ثم أعلن عدم رغبته في الترشح لدورة رابعة.

ويعتبر أمانو المدير الخامس للوكالة، وأول ياباني يتولى هذا المنصب الرفيع. إلا أن اليابان قالت إن أمانو لن يكون ممثلا لليابان في الوكالة، وإن سياساته سيكون مسؤولا عنها وحده.

ليس ذلك فحسب، بل ووفقا لأكثر من مصدر دبلوماسي تحدث لـ«الشرق الأوسط»، فإن اليابان لا تنوي زيادة نسبة ما تدفعه من مساهمة في ميزانية الوكالة المقدرة بـ20%، رغم كل توقعات من ظنوا أن اليابان ستفتح صنابير أموالها لكون أن واحدا من أبنائها قد أصبح المدير العام.

ولد أمانو عام 1947 أي بعد عامين فقط من تدمير نغازاكي وهيروشيما اليابانيتين دمارا نوويا. في هذه الأجواء تربى ونشأ أمانو الذي تخرج في جامعة طوكيو، كلية القانون. ثم التحق عام 1972 بوزارة الخارجية متخصصا وخبيرا في شؤون الطاقة النووية. وقد مثلت حقيقة نشأته في ظل دمار نووي دفعة قوية ساعدته إبان حملته الانتخابية لوكالة الطاقة الذرية، إذ ركز على تلك المعلومة مرارا بدعوى أن «من رأى ليس كمن سمع»، وبالتالي سيواجه من خلال منصبه الانتشار النووي والمخاطر الجسيمة التي تترتب عليه.

لا يعد أمانو بأي حال من الأحوال غريبا على وكالة الطاقة أو على فيينا، فقد عمل سفيرا لبلاده لدى منظمات الأمم المتحدة المعتمدة في فيينا، كما مثل اليابان داخل مجلس محافظي الوكالة منذ عام 2005، وحتى انتخابه رئيسا في 2 يوليو (تموز) 2009. وبذلك فقد توفرت له فرص واسعة أن يدرس ويتفقه ويستمع ويناقش، بل ويقطع بالرأي «على الأقل ولو نظريا» في كل أو معظم القضايا والموضوعات والملفات التي ناقشها مجلس المحافظين واتخذ بشأنها قرارا.

ومعلوم أن مجلس محافظي الوكالة هو أهم جهاز في الوكالة إذ يتخذ قراراتها الحاسمة والحازمة، بما في ذلك إدانة الدول الأعضاء عندما يحكم بعدم التزامها باتفاقات الضمانات النووية الموقعة بينها وبين الوكالة. وللمجلس سلطة أن يشكو تلك الدول، التي يدينها، لمجلس الأمن الدولي، مما قد يؤدي لفرض عقوبات دولية ضدها، كما هو الحال الآن مع إيران التي تواجه 3 حزم من المقاطعة والعقوبات في كل ما له علاقة بنشاطها النووي.

ويتكون مجلس الأمناء أو مجلس المحافظين من 35 دولة، 9 منها دائمة. واليابان واحدة من هذه الدول المحظوظة دائمة العضوية. ويعود سبب ديمومتها إلى كونها دولا ذات تقنية نووية عالية كاليابان وجنوب أفريقيا، أو دولا تملك ذخيرة نووية بنص القانون، وليس سرا، ويعود ذلك لكونها قد امتلكت ترسانتها النووية قبل أن تظهر للوجود معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي عام 1968. وعلى كل فهذه المسألة من المسائل الحساسة في الوكالة باعتبارها عدم مساواة مطلقة.

ومما زاد أمانو خبرة ومعرفته بملفات الوكالة عن قرب أنه عمل طوال الفترة منذ 2005 كمحافظ لليابان في مجلس المحافظين، وقد ظل في هذا المنصب حتى تعيينه، رسميا، في منصب المدير العام في 14 سبتمبر (أيلول) 2009.

هذه الفترة شهدت اضطلاع الوكالة بأسخن الملفات النووية على الإطلاق، بما في ذلك الملف النووي الكوري الشمالي، والملف الإيراني، والملف السوري، أضف إلى ذلك النقاش السنوي حول مشاريع القرارات العربية التي تطالب بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي وجعلها منطقة منزوعة من تلك الأسلحة التي لا تمتلكها ـ حتى هذه اللحظة ـ غير إسرائيل رغم إنكارها. أضف إلى ذلك أيضا أن أمانو قد خبر كل القضايا الأخرى مثار الاهتمام في الوكالة، من ذلك ضرورة زيادة ميزانيتها بزيادة مساهمات الدول الأعضاء، وتطوير معداتها ومعاملها ووسائلها للتفتيش والتحري، بالإضافة إلى تحديات تأهيل وتدريب موظفيها والحفاظ عليها تقنية فنية مستقلة. إذن أمام أمانو مهمة صعبة في تطوير عمل الوكالة أكثر، لكن هل سيكون أسلوبه مثل البرادعي، مواجها صريحا وقاطعا وكاريزميا؟ أم أن أمانو سيكون له أسلوب مختلف؟

يميل البعض إلى القول إن أسلوبه سيكون مخالفا، فأمانو قليل الكلام، نادرا ما جاهر برأي قاطع متدخلا، سواء بدبلوماسية وتروٍ، أو بصراحة دبلوماسية قاسية، كما يتعمد سفراء بعض الدول انطلاقا من إحساس يعتريهم بأهمية بلادهم.

ذلك، رغم تأكيد الجميع وإقرارهم بخبرة أمانو وغزارة معلوماته في شؤون الطاقة النووية في مختلف مجالاتها سلاحا، وانتشارا، ونفايات، وتقنية. وفي حديث لمسؤول نافذ من سكرتارية الوكالة لـ«الشرق الأوسط» قال إن أمانو، رغم المظهر المتواضع الذي يبدو عليه ورغم سياسة «الصوت الخفيض» التي يمتاز بها، فهو رجل دؤوب في عمله، يهتم اهتماما ملحوظا بالتفاصيل، ويسأل أسئلة كثيرة طلبا للمعلومات، كما أنه مستمع جيد ينصت باحترام. يمكن وصفه بالهدوء، وإن كانت ملامح وجهه غير متجهمة، فإنه ليس كثير الابتسام. له خبرة طويلة ومتابعة غير منقطعة لقضايا الطاقة النووية، ومشكلات نزع السلاح النووي، والتحقق وفقا لاتفاقات الضمان منذ أن كان موظفا شابا في وزارة خارجية بلاده.

كما عمل أمانو في أكثر من موقع وفي أكثر من بلد، منها بلجيكا، وفرنسا، ولاوس، وسويسرا، والولايات المتحدة الأميركية. وكما تشير نبذة عن سيرته الذاتية في الصفحة الإلكترونية للوكالة الدولية للطاقة الذرية فإنه متزوج.

وتشير مصادر لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أمانو خلّف، عقب رئاسته لمجلس المحافظين 2005 ـ 2006، انطباعا بأنه بذل جهدا للمساواة بين الدول الأعضاء من دون تمييز بين دول صغيرة وأخرى كبيرة، هذا على الرغم من أنه لم يخلف انطباعا بأنه كان رئيسا ذا حضور طاغ.

عمل أمانو مديرا لإدارة نزع السلاح في الخارجية اليابانية، وذلك قسم من أهم أقسام هذه الوزارة، كما عمل خبيرا تابعا لمنظمة الأمم المتحدة أبريل (نيسان) 2001 ويوليو 2001 ضمن المجموعة الدولية المعنية بقضايا نزع السلاح، بالإضافة إلى مشاركته في المؤتمر الذي درس وراجع معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي في الأعوام 1995 و2000 و2005 كما ترأس اللجنة المنظمة والمعدة للمؤتمر الخاص بمراجعة ذات الاتفاقية الذي سيعقد العام القادم وله عدة مؤلفات ودراسات في كل هذه المجالات.

أثناء الحملة الانتخابية لاختيار خلف للبرادعي التي بدأت بتاريخ 2 يناير (كانون الثاني) هذا العام ظهر اسم أمانو بإعلان اليابان له كمرشح ثم ازداد ظهوره خصوصا بعد أن حمي الوطيس الانتخابي والرنين التنافسي بينه ومنافسه القوي على المنصب الجنوب أفريقي عبد الصمد منتي.

وعلى الرغم من أن كلا من الرجلين قد جاء من موقع مماثل كمحافظ لبلاده في مجلس المحافظين، فإن الفرق بين الشخصيتين كان كبيرا، إذ تمتع منتي بكاريزما واضحة لم ينكرها أحد، وقد نال دعم الدول النامية، بمختلف اتجاهاتها ومسمياتهم كمجموعة الـ77، ومجموعة عدم الانحياز، والمؤتمر الإسلامي، والدول الأفريقية، والمجموعة العربية. وباختصار، فقد دعمت منتي كل دول العالم الثالث الطامحة سرا أو علانية لتطور برنامج نووي والمتحسبة المعارضة لهيمنة الدول الغربية النووية.

مقابل ذلك كان واضحا للجميع أن الياباني يوكيا أمانو هو مرشح الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها من الدول الغنية المالكة للسلاح النووي، والتقنية والطاقة النووية، التي تخشى موجة الانتشار النووي المتفشية في بعض من الدول النامية، لا سيما تلك التي خارج نطاق سيطرتها السياسية، حتى ولو مدت لها الجزرة أو رفعت لها العصا.

كان هذا هو الاعتقاد السائد طوال فترة المعركة الانتخابية التي طال أمدها رغم الحرص الذي أبداه كل من المرشحين بتأكيد كل منهما وإعلانه عن أنه يمثل الجميع وسيعمل لخدمة مصالح لدول الأعضاء كافة.

وفي 2 يوليو يوم فاز أمانو، وفي أول حديث له مع جموع الصحافيين في مبنى الوكالة سألته «الشرق الأوسط» كيف سيسدد الحساب لمن دعموه؟ فرد بهدوء شديد: «لا حساب لأحد علي.. وأنا مدير لخدمة جميع أعضاء الوكالة لتأمين استخدامات آمنة للتقنية الذرية»، معتذرا عن الدخول في مزيد من التفاصيل والتصريحات لحين أن يتم تعيينه رسميا باعتبار أن الوكالة كغيرها ليس لها رئيسان وإلا غرقت.

لكن مع توليه، رسميا، مهام منصبه ستكون أمامه تحديات كبرى على رأسها الملف الإيراني، فقد رفضت إيران اتفاقا تم التوصل إليه بوساطة الوكالة لإرسال يورانيوم منخفض التخصيب إلى الخارج لتحويله إلى وقود لمفاعل نووي طبي في طهران يخدم 200 مستشفى. وكشفت إيران عن منشأة ثانية لتخصيب اليورانيوم تم بناؤها سرا ووضعت قيودا على وصول المفتشين إلى منشآتها النووية الأخرى. ثم أعلنت طهران خططا لبناء 10 محطات جديدة لتخصيب اليورانيوم يبدأ العمل بها خلال شهرين في إشارة تحد بعد صدور قرار من الوكالة يوبخ إيران على أنشطتها النووية السرية. وتخشى الوكالة من أن إيران تتحرك سرا لتطوير برنامج نووي لأغراض عسكرية. لكن إيران ليست المشكلة الوحيدة، فهناك أيضا كوريا الشمالية وسورية، وهما مؤشران آخران على المشكلات التي يواجهها تفويض الوكالة لمنع الانتشار النووي. وانسحبت بيونغيانغ من المحادثات السداسية لنزع السلاح النووي، وأنهت مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وبدأت في إحياء محطة تخصيب لإنتاج بلوتونيوم يصلح لصنع قنابل وأجرت تجارب على أسلحة نووية. كما عطلت سورية تحقيقا للوكالة لأكثر من عام. وتتحرى الوكالة صحة تقارير استخباراتية بأن سورية حاولت بناء مفاعل سري لإنتاج البلوتونيوم. وتعرض موقع تلك المنشأة لقصف إسرائيلي عام 2007.

أيضا يحتاج أمانو إلى تلبية طلبات 60 دولة بعضها في منطقة الشرق الأوسط غير المستقرة للمساعدة في إطلاق برامج طاقة نووية مدنية، ولكن ليس عن طريق قيامها بالتخصيب بنفسها وهو ممر للأسلحة النووية، لأن التكنولوجيا يمكن استخدامها في الغرضين. ووضع البرادعي بعض الأسس المهمة لأمانو. فقد دعا لفترة طويلة لإنشاء بنك متعدد الأطراف لليورانيوم منخفض التخصيب برعاية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأخذ مجلس محافظي الوكالة الذي يضم ممثلي 35 دولة الخطوة الأولى تجاه تحقيق رؤية البرادعي الأسبوع الماضي، عندما وافق على خطة روسية لضمان الوقود النووي. وسيكون على أمانو متابعة الخطة حتى تنفيذها. كما أضعف الوكالة ما وصفه البرادعي بميزانيتها المحدودة. وسيكون على أمانو إقناع الدول الأعضاء برفع مساهماتها المالية مع التوسع المستمر للطاقة النووية حول العالم وما يصاحبها من مخاطر انتشار السلاح النووي.

وقد شهد عام 2005 لحظة ذات أهمية كبرى في حياة أمانو بجانب اختيار بلاده لرئاسة مجلس المحافظين في وكالة الطاقة الذرية، وهكذا تولى أمانو بحكم منصبه كسفير لليابان لدى الوكالة رئاسة مجلس المحافظين. في هذا عام 2005 أعلن عن فوز البرادعي بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع الوكالة، فسافر مصطحبا معه أمانو إلى العاصمة النرويجية أوسلو، حيث تسلم البرادعي نصف جائزته ممثلا لذاته بوصفه رئيسا للمنظمة، بينما تسلم أمانو النصف الثاني ممثلا للوكالة. وهكذا شاءت الأقدار أن يتشارك الرجلان تلك اللحظة الرائعة. ثم ها هو أمانو يخلف البرادعي في منصب المدير العام الذي يؤكد سجله في الوكالة أنه منصب قل أن يقتصر على دورة واحدة فقد أدار المصري الدكتور محمد البرادعي الوكالة من 1997 وحتى 2009، وكان قد سبقه السويدي، هاينس بليكس، من عام 1981 حتى 1997، الذي سبقه مواطنه سيغفارد اكلوند من 1961 إلى 1981. أما الاستثناء الوحيد فكان الأميركي، استرلينق كول، فهو المدير العام الوحيد الذي اقتصرت فترته على دورة واحد من عام 1957، وحتى عام 1961. والسؤال كم دورة سيبقى الياباني يوكيا أمانو؟

لا أحد يعرف طبعا. فالإجابة تتوقف على كيف سيدير أمانو الوكالة. فذلك الرجل الذي يتحدث اليابانية والإنجليزية والفرنسية أمامه مهام صعبة كثيرة. وفي هذا الصدد أشار مسؤول دولي عمل معه ردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عن فصاحته لغويا فقال: «إن إنجليزية أمانو على الطريقة اليابانية، وفرنسيته أضعف منها»، لكنه يتواصل مع الجميع. أما اجتماعيا فقد أكدت مصادر دبلوماسية غبطتها في عدد من مناسبات عشاء وغداء دعيت إليها بمنزل أمانو الذي يحب الأوبرا ويستمتع بالموسيقى الكلاسيكية، مجمعين على أن التحدي الأكبر أمام أمانو الآن هو الجلوس بارتياح في المقعد الوثير الذي خلفه البرادعي. والمقدرة على التعامل بحسم وعدل مع ملفات الوكالة ذات الحساسية البالغة.